شبكة رصد الإخبارية
follow us in feedly

فيلم “كارل ماركس الشاب”.. فرصة مهدرة لإثارة المشاعر والتحريض

فيلم “كارل ماركس الشاب”.. فرصة مهدرة لإثارة المشاعر والتحريض
من بين أفلام مهرجان برلين السينمائي الدولي، هناك عملٌ سينمائيٌ جديد يركز على المراحل المبكرة من حياة "كارل ماركس". لكن، على الرغم من الطابع المحكم للفيلم؛ فإنه أهدر فرصة لإثارة المشاعر. كما تقول الصحفية الفنية "جِسيكا كيانغ".

من بين أفلام مهرجان برلين السينمائي الدولي، هناك عملٌ سينمائيٌ جديد يركز على المراحل المبكرة من حياة “كارل ماركس”. لكن، على الرغم من الطابع المحكم للفيلم؛ فإنه أهدر فرصة لإثارة المشاعر. كما تقول الصحفية الفنية “جِسيكا كيانغ”.

وتشكّل مشاهدة فيلم “كارل ماركس الشاب” للمخرج راؤول بَك، بكل ما فيه من طابعٍ بديع وما تضمنه من تمثيل متقن ونية مخلصة في تنفيذه، أمرًا ذا مذاقٍ حلو ومر في آن واحد؛ لا سيما وأننا نشاهده وقد علمنا ما الذي ستؤول إليه الأحداث اللاحقة له تاريخيًا.

حيوية وسهولة

ولا تمثل مشاهدة العمل أمرًا عسيرًا؛ فذكاء المخرج وقدرته على تقديم فيلمٍ سينمائي محكم من العوامل التي لم تدع الفيلم يصبح مجرد نقاشاتٍ سياسية غامضة؛ بل أضفت كثيرًا من الحيوية على موضوع عتيقٍ من نوعه، يشبه مخطوطةً ثمينة باتت مشبعة بالرطوبة والعفن من طول تخزينها.

وقدم الفيلم أفكاره على نحوٍ يسهل فهمه، بل وأضفى عليها أحيانًا، وبشكل علمي، طابعًا مثيرًا كذلك؛ واضعًا إياها في سياقها (بإخلاصٍ حرفيٍ إلى حد مفرط، عبر وضع عناوين فرعية تخبرنا مرارًا وتكرارًا بالمكان الذي تدور فيه الأحداث، وبتوقيتها بالشهر والعام أيضًا).

رغم ذلك، ربما يجد أي شخص لديه معرفة معقولة بالتطورات التاريخية التي أعقبت الأحداث التي رواها الفيلم أن قدرته على الاستمتاع بالتصاعد الانفعالي للقصة قد ضعفت قليلًا.

فليس من الضروري أن تُنحي باللائمة على ماركس شخصيًا في الفظائع التي ارتكبتها الشيوعية في القرن العشرين لكي تجد أن من العسير عليك أن تتحمس -دون مشكلات أو غضاضة- للحظات التي واكبت ميلاد الكتيب الذي شارك هذا الرجل في تأليفه، وشكّل أحد الأصول الفكرية الأولى الأكثر تأثيرًا لهذه الأيديولوجية.

فـ”البيان الشيوعي” الذي كُتب عام 1848على يد ماركس (الذي يجسد شخصيته في الفيلم الألماني أوغوست دييل) وفردريش إنغلز (يؤدي دوره الممثل الألماني شتيفان كونارسكه) شكل كتيبًا استعرض الأفكار الأساسية التي سيقضي ماركس باقي سنوات عمره في إضافة مزيد من التفاصيل والمعلومات إليها من خلال كتاب “رأس المال”، الذي يمثل تحفته التي لم تكتمل أبدًا.

البيان الشيوعي

رغم ذلك، لا يتطرق العمل الملحمي الذي أخرجه “بَك” إلى ذلك الكتاب الأخير؛ إذ إن العمل يصل إلى ذروته مع طباعة “البيان الشيوعي”، في ما يبدو أشبه بإطلاق المدفعية نيرانها بشكل متزامن واحتفالي ابتهاجًا بانتصار ثورة لم تكن قد اندلعت بعد عندما طُبع هذا الكتيب.

وبفضل النطاق الزمني المحدود الذي تركز عليه الأحداث، كان بوسع المخرج “بَك” وباسكال بونيتسر الذي ساعده في كتابة السيناريو استغلال مدة الفيلم التي بلغت ساعتين، أو أقل من ذلك بقليل، للإسهاب في تناول الاقتتال والانشقاقات الداخلية التي لازمت العصبة الشيوعية الوليدة.

كما سمحت لهما بأن يقدما ماركس في صورة شاب قوي وجذاب ومفعمٍ بالنشاط والحيوية، بخلاف صورته المحفورة في الوعي العام والتي تُظهره -باللونين الأبيض والأسود- سياسيًا مخضرمًا ذا شارب كث.

ذكاء مخرج الفيلم، راؤول بَك، وقدرته على تقديم فيلمٍ سينمائي محكم، من بين العوامل التي لم تترك الفيلم ليصبح مجرد نقاشاتٍ سياسية غامضة.

من خلال فيلم “كارل ماركس الشاب” ومسلسل “البابا اليافع”، الذي يتناول حياة أحد باباوات الفاتيكان، يمكننا استنباط أننا صرنا بصدد توجّه جديد تُستخدم فيه مفردة “شاب” أو “يافع” كناية -في الأساس- عن كلمة مثل “مثير” أو “ذي جاذبية جنسية”.

وفي هذا الإطار، فإن “كارل ماركس المثير” -على الأقل كما جسّد شخصيته الممثل دييل الذي لا يفتقر إلى الوسامة- لا يشكل تعارضًا مع هذا التوجه؛ رغم أنه يبدو كذلك للوهلة الأولى.

قصتا حب

في حقيقة الأمر، يتمثل أحد مكامن القوة غير المتوقعة في الفيلم في قصتي الحب اللتين يتطرق إليهما. القصة الأولى تدور بين ماركس وزوجته جيني (التي تؤدي دورها فيكي كريبس التي شاركت في فيلم “كولونيا”)، تلك السيدة صاحبة الخط اللطيف في الأحداث، مع حس دعابتها الحاضر الذي جعل الرجال المحيطين بها -في كثيرٍ من الأوقات- ينجذبون إليها.

أما قصة الحب الأخرى فتجمع إنغلز وخليلته “ماري برنز” (التي تجسد شخصيتها هانا ستييل التي شاركت من قبل في المسلسل التليفزيوني البريطاني “وولف هول”)، وهي فتاة أيرلندية صهباء صريحة في حديثها.

وتظهر هذه الشخصية للمرة الأولى ضمن الأحداث وهي تُفصل من عملها في مصنعٍ يملكه والد إنغلز بمدينة مانشستر، وتُقدم هذه السيدة باعتبار أنها تحمل في داخلها قدرًا من الطباع الثورية المتهورة.

وبغض النظر عن الفوارق الطبقية المثيرة للاهتمام الكامنة في علاقتيّ الحب هاتين، لا توجد أسسٌ تاريخية وفيرة وقاطعة تثبت التفاصيل والحواشي التي أضافها الفيلم في هذا الصدد. لكن إضافة شخصيتيّن نسائيتيّن ذكيتيّن رُسمت ملامحهما بدقة وإحكام كما حدث في العمل تشكل أمرًا مُرحّبًا به؛ حتى وإن كانت غالبية التفاصيل الخاصة بهما من نسج الخيال.

مزاج المخرج

ورغم أن هناك من ينزع بفطرته إلى معارضة ازدراء المعتقدات الموروثة والمؤسسات التقليدية، فإن جزءًا منك ربما قد يتمنى ولو سرا -خلال مشاهدتك لـ”كارل ماركس الشاب”- أن يصطبغ الفيلم بطابعٍ أكثر تمردًا وثورية على كل ما هو موروث وتقليدي.

لكن راؤول بَك -هذا المخرج القادم من هاييتي- كان في مِزاجٍ أكثر هدوءًا واحترامًا لمثل هذه الأمور في فيلمه هذا؛ وذلك على الرغم من أنه هو نفسه الذي أخرج العمل الوثائقي المفعم بالإثارة والتحريض “لستُ الزنجي الخاص بك” المأخوذ عن مخطوطة لم تكتمل للكاتب الأميركي من أصل إفريقي جيمس بالدوين. وتوّجت مسيرة “بَك” الفنية -التي بدأت قبل ثلاثة عقود- بترشيحه لنيل جائزة الأوسكار.

ويضيع العمل قليلًا في التفاصيل فيما يتعلق بقدرته على التركيز على نقاط بعينها، فضلًا عن أن علاقته بالأحداث المعاصرة تتسم بالبلادة.

وهو الأمر الذي مثّل موضع انتقاد بالنسبة إلى الفيلم؛ فمن شأن أي تفسيرٍ ذكي للإطاحة -عبر تبني أيديولوجية ما- بحفنة الأثرياء ذوي النفوذ وأصحاب مقاليد السلطة، نيابة عن الجماهير من أبناء الطبقة العاملة، أن يكون له استخدامات وتطبيقات خطيرة على الساحة السياسية في عصرنا الراهن، وذلك في وقت ربما يمثل توظيف خطاب اليسار الثوري الأسلوب الوحيد الأكثر فعالية في يد الساسة الغوغائيين الموجودين حاليًا لخدمة أهدافهم؛ رغم أن هذه الأهداف تكون -في أغلب الأحيان- على النقيض تمامًا من أهداف اليساريين الثوريين.

مسار التحولات الدرامية

لا تقتصر المشكلات التي يعاني منها الفيلم على أن التفاصيل التاريخية الكثيرة التي يحفل بها تطغى على الصورة الكلية التي يجدر بنا استخلاصها منه؛ لكنها تمتد إلى أن مسار التحولات الدرامية التي تطرأ على بطله خلال الأحداث، وهو المسار الذي يُقدم على نحوٍ يتسم بالتبسيط، يجعل عقد مقارنة بين شخصيته وأي شخصية أخرى في العمل أمرًا غير مطروحٍ للنقاش.

فخصوم ماركس بين اليساريين يُصورّون -مقارنةً به- على أنهم متبجحون ومتسلقون ومتزلفون ومحبون للجدل، وأشخاصٌ خبت شهرتهم، أو مثاليون ثملون عديمو النفع.

لو أن هؤلاء لا يزالون على قيد الحياة حتى اليوم لأُطلِق عليهم الوصف الذي يُستخدم للإشارة على نحو سلبي إلى من يخلطون بين التوجهات الليبرالية والرؤى اليسارية الاشتراكية، عن تصور مفاده بأنه لا فارق بين التيارين.

ويقدم لنا الفيلم الهزيمة التي مُنيّ بها أولئك الأشخاص على يد بطلنا الجذاب صاحب الشخصية الكاريزمية باعتبارها خيرًا محضًا.

محاولة للمواءمة

ثمة محاولة متأخرة في الفيلم للمواءمة، عندما يتضمن في مرة وحيدة لقطات وثائقية تبدأ في الظهور على الشاشة على خلفية أسماء المشاركين فيه، بمصاحبة موسيقى أغنية للمغني الأميركي بوب ديلان.

وفي هذه اللقطات نرى حركاتٍ ثورية وشخصيات سياسية تنتمي إلى مراحل تاريخية لاحقة للمرحلة التي تدور فيها أحداث العمل.

هنا قد تجد نفسك تحدق بإمعان في الشاشة، بينما تتوالى مشاهد الاحتجاجات التي خرجت ضد حرب فيتنام، تليها لقطاتٌ تُظهِر العلاقة الوثيقة التي جمعت الرئيس الأميركي الراحل رونالد ريغان برئيسة الوزراء البريطانية الراحلة مارغريت تاتشر.

وربما تفكر في تلك اللحظات إذا كان لدى المخرج “بَك” الوقت الكافي -ناهيك عن الرغبة- في أن ينهي عمله بصورة للرئيس الأميركي الحالي دونالد ترامب، وما الذي يمكن أن يعنيه ذلك حال حدوثه.

رمزية حرق الدولار

على أي حال، لا يُقْدِم المخرج على ذلك؛ بل ينهي الفيلم بصورة عامة لدولاراتٍ أميركية تلتهمها النيران، وهو ما يخبرك حقًا بكل ما تريد معرفته عن “كارل ماركس الشاب” كفيلم مُحكم الصنع، وجيد المستوى، وتعليمي بلا أدنى شك.

لكنك لا تستطيع مقاومة الشعورٍ بأنك إزاء فرصة أُهدرت لإثارة المشاعر، وتحفيزها؛ وربما التحريض عبر هذا العمل السينمائي.



تنفيذ و استضافة وتطوير ميكس ميديا لحلول الويب تنفيذ شركة ميكس ميديا للخدمات الإعلامية 2023