لطالما لفتت أنظارنا كثرة الآيات الواردة في القرآن الكريم عن بني إسرائيل. ذلك الكتاب المقدس الذي أرسل لأمة محمد صلى الله عليه وسلم من المسلمين، فيه عشرات الآيات التي تتحدث عن بني إسرائيل أو إليهم بشكل مباشر وبلفظ "بني إسرائيل"، إضافة إلى عشرات الآيات الأخرى التي تتحدث عنهم بشكل غير مباشر (أهل الكتاب، أقوام الأنبياء).
ولدى التساؤل عن الحكمة في وفرة هذه الآيات كان الجواب الأكثر انتشاراً وحضوراً وحظاً في القبول هو خطر بني إسرائيل علينا كأمة عبر التاريخ باعتبارهم "أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا "بنص القرآن الكريم، وبالتالي كانت الآيات الكثيرة تنبيهاً لنا على خطرهم وتعليماً لنا فيما خص خططهم وأساليبهم وطرق مواجهتها. وقد برع الكثير من المفسرين وحتى السياسيين في تبيان "السمات الملازمة" لبني إسرائيل في القرآن وعبر التاريخ، من قتل الأنبياء إلى قسوة القلب إلى الجبن إلى الغدر ونقض المواثيق ..الخ.
وباعتبار أننا نواجه اليوم فعلاً خطر العدو الصهيوني ومشروعه الاحتلالي الإحلالي في فلسطين، فإن الأمر يبدو منطقياً جداً ويخرج من دوائر التساؤل والبحث، لكن التفكر في تاريخ الأمة الإسلامية ككل سيقودنا إلى حقيقة أن "معظم" هذا التاريخ كان – حتى الآن على الأقل – بلا خطر منهم، بل كانوا بعيدين تماماً عن مركز الأحداث وإيقاع الضرر بنا. وعليه، فنحن نحتاج هنا إلى تفسير آخر قد يكون أكثر قبولاً.
مؤخراً، وقعت على تفسير راق لي للدكتور جاسم سلطان، ومفاده أن بني إسرائيل كانوا مناط رسالات الأنبياء وحملتها من بعدهم "وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ". ويعني ذلك أنهم المقابل أو الموازي الزمني والتاريخي لنا كأمة محمد صلى الله عليه وسلم. فكما نحمل منهجاً وديناً ومشروعاً لنا وللبشرية فقد كانوا يحملون، وبالتالي تكون الآيات المحذرة من أحوال بني إسرائيل وتصرفاتهم وأخطائهم وخطاياهم ومصائرهم عبرة وعظة وقدوة لنا كي نستفيد منها.
ومن الواضح طبعاً أن هذا الرأي لا ينفي بالضرورة الرأي الأول الأكثر شيوعاً بل ربما يكمله، ويجدر بي أن أقرر أنني لا أعرف أول من تحدث بهذا التفسير من السابقين أو المعاصرين، لكنني أنسب الرأي للدكتور جاسم لأنني سمعته منه (الشيخ الغزالي وسيد قطب لهما كلام قريب من هذا الفهم). ومن المهم أن نشير إلى أن هذه الآيات والعبر تستهدف وتهم الجميع، كل الأمة، لكنها تخص في المقام الأول "الإسلاميين"، أولاً باعتبارهم أقرب لحمل الرسالة بمفهومها الشرعي والمشروعي، وثانياً باعتبارهم تقدموا لمسؤولية قيادة الأمة في غير بلد في هذه الفترة التاريخية.
الشاهد، أن بعض هذه الآيات أصبح لها وقع مختلف في قلبي، وباتت تخطر لي أفكار وخواطر جديدة لدى قراءة بعضها، أسرد هنا منها بعض الأمثلة:
"فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا "، ترى، هل يمكن استشفاف معنى أكثر عمقاً من مجرد أعمال "رجال الدين" في عهد بني إسرائيل؟ هل يدخل في إطار الآية من يقحم الدين (الحكم الفقهي) إقحاماً في مساءل لا يحتملها السياق، ويقول للناس "هذا حكم الله" وما هو حكم الله؟
"وَقَالُوا لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَّعْدُودَةً "، ترى، هل يمكن أن نخرج بالمعنى المستفاد من الآية من حدود ادعاء استحقاق الجنة، إلى مفهوم "الطهارة" والعصمة والبراءة، كالذين ينفون عن أنفسهم فكرة الخطأ حتى في العمل البشري الذي من طبيعته التجريب والخطأ؟
"بَأْسُهُم بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّىٰ "، ترى، ألا تنسحب هذه القاعدة الاجتماعية التاريخية في زوال الأمم والدول علينا نحن أيضاً؟ هل يمكن فعلاً أن ترى هذه الأمة النور والنهضة والرفعة وهي – حتى في نخبة نخبها وفي احلك مراحلها – مفرقة مشتتة، يدعي كل منها الخيرية على الآخرين، ويحفر بعضهم في طريق بعض؟
وقل مثل ذلك في تبعيض الإسلام كدين شامل "أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ "وأخذ ما يناسب المرحلة أو الموقف الراهن وترك ما لا يتناسب مع المصالح وقتها، وقل شبه هذا في طريقة ومعايير اختيار القيادات "وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ"في كثير من الهيئات السياسية والاجتماعية في زمننا، التي تقدم صفات معينة على الكفاءة والقدرة (العلم والجسم).
ومن نافلة القول أن كاتب هذه السطور يتورع عن تقديم هذه الكلمات على أنها تفسير أو تعليق على الآيات الكريمة، فهو أبعد ما يكون عن خوض ما لا يحسنه من علوم ويترك الحديث في التفسير لأهل التفسير، إنما هي "أفكار" تخطر على البال لدى قراءة الآيات الكريمة، امتثالاً لأمره تعالى "أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ ".
وبديهي أيضاً أن هذه الآيات والأفكار التي قادت إليها لا تقصد أحداً أو هيئة أو تياراً بعينه، إنما تقصد – كما سبقت الإشارة – عموم هذه الأمة بقياداتها وكياناتها الحية التي تعمل على تحريرها وصياغة مستقبلها الواعد. فما ورد في هذه السطور دعوة للتنبه أكثر منها لوم أو تقريع، فالقرآن الكريم في النهاية نزل علينا ويقصد هدايتنا نحن "فيه ذِكركم" وحاشاه أن يكون فيه كلام بلا حكمة أو فائدة. فإذا كنا نحن المقصودين بما ورد فيه، فلا أقل من قراءة الآيات وتدبرها بطريقة تسقط فوائدها علينا وعلى واقعنا. والله من وراء القصد.