فى الأسبوع الماضى، استقبلت الساحة السياسية المصرية مولودا جديدا باسم حزب الدستور يقوده الدكتور محمد البرادعى، وحسب معلوماتى فإن مؤسسيه أنفقوا أسبوعين أو ثلاثة فى مناقشة ما إذا كان المولود الجديد يكون حزبًا فقط أم عنوانا لتحالف أحزاب عدة.. ومن الواضح أن كفة الفكرة الأولى هى التى رجحت. ويبدو أن حزب الدستور لن يكون آخر المواليد وإن كان أحدثهم، لأننى أعرف أن هناك خمسة أحزاب أخرى على الطريق. وطالما أن الباب مفتوح على مصراعيه فينبغى أن تتوقع المزيد، علما بأن بعض الأحزاب الجديدة ــ والقائمة أيضاً ــ تعول على البث الفضائى بأكثر من تعويلها على التأييد الجماهيرى على الأرض.
ولئن خبرنا فى السنوات الأخيرة نماذج لأحزاب لم يكن لها وجود يذكر إلا من خلال الجريدة التى تصدرها، فإن التطور الجديد فى الموضوع لم يكتف بالجريدة ولكنه توسل في إثبات الحضور بإنشاء قنوات تليفزيونية، وهذه الأخيرة ظهرت بوضوح بعد الثورة. ويبدو أن رجال الأعمال فى ظل النظام السابق اكتفوا فى إثبات الوجود بتحالفهم مع السلطة، وبعد سقوط ذلك النظام وسقوط ذلك التحالف بالتالى. فإنهم نقلوا نشاطهم إلى ساحة الإعلام الذى استمدوا منه القدرة على إثبات الحضور والقوة على التأثير فى الرأى العام، وفى القرار السياسى أيضا.
الترحيب مستحق بالحزب الجديد وبكل حزب آخر يتوسم مؤسسوه أن بوسعهم أن يقدموا شيئا من خلاله للناس والوطن. والتقدير واجب للمناخ الجديد الذى أتاح للأحزاب أن تخرج من رحم المجتمع وليس من مقر جهاز أمن الدولة. بالتالى فإنه سمح لأصحاب الأفكار أن يجهروا بما عندهم دون خوف أو وجل، ويحتكمون بعد ذلك إلى الناس الذين يقررون من خلال الانتخابات الحرة ما إذا كان الحزب يجب أن يستمر أو يندثر، دون أن يخضع كل ذلك لوصاية من جانب الرئيس وزبانيته أو أجهزته الأمنية.
لا أجد غضاضة فى أن تظهر فى الفضاء المصرى عشرات الأحزاب، وهو ما عبرت عنه من قبل، منبها إلى ثلاثة أمور، الأول أننا عانينا طويلا من الجدب السياسى الذى أدى إلى إخراج المجتمع من السياسة وعزوفه عنها، وهذا الشعور بالجدب ولد رغبة عارمة وشوقا شديدا إلى التنفيس والمشاركة بعد الثورة، التى أعادت الناس إلى السياسة وأنهت زمان قطيعتهم لها وغربتهم عنها. لذلك فإنه يظل إيجابيا وصحيا أن نشهد ذلك التسابق والتنافس على تأسيس الأحزاب. أما الأمر الثانى فهو أن ذلك التنافس أمر مشهود فى دول عدة. حتى أن اليابان بعد خروجها من هزيمة الحرب العالمية الثانية تشكل فيها نحو 400 حزب تنافست على استعادة الحلم الذى أجهض. الأمر الثالث أنه لا قلق من ظاهرة كثرة الأحزاب طالما كنا واثقين من نزاهة الانتخابات، لأن تلك النزاهة ستتكفل بتحديد الأحجام الحقيقية لكل حزب، ومن ثم تجنيب البلاد احتمالات التشرذم والفوضى.
من الجدير بالملاحظة أنه فى الوقت الذى تتكاثر فيه الأحزاب حينا بعد حين، فإن الطبقة السياسية فى مصر أدركت أنه يتعين الانتقال إلى مرحلة التحالفات فيما بينها، أغلب الظن لأنها أدركت أن الكثرة أضعفت الجميع فى الانتخابات البرلمانية، الأمر الذى مكن الإخوان ومعهم السلفيون ــ وهما الأكثر تنظيما ــ من الفوز بالأغلبية. فظهرت فى الأفق خلال الأسابيع الأخيرة كيانات حملت أسماء من قبيل: تحالف الأمة المصرية ــ التيار الشعبى ــ التيار الثالث ــ التيار الوسطى ــ التيار اليسارى.
هذه التحالفات بدورها ينبغى الترحيب بها، إلا أنه يعيبها ثلاثة أمور، الأول أنها تتشابه فى برامجها ولا تقدم تنوعا فكريًا يذكر، إذا استثنينا التيار اليسارى، وهو ما يعطى انطباعا بأنها تحالفات حول أشخاص وليست أفكارا.
الثانى إنها تكاد تلتقى على محاولة منافسة الإخوان وتحديها، بالتالى فهى متفقة على ما ترفضه ومختلفة حول ما تقبل به.
الأمر الثالث أنها تندرج تحت مسمى القوى المدنية، الذى سيظل تعددها سببا فى إضعاف موقفها فى مواجهة الإخوان.
هذا بدوره ينبغى ألا يكون سببا للإنزعاج إذا نظرنا إليه باعتباره خطوة باتجاه النهوض من وسط أنقاض النظام السابق ــ الذى لم يتح لأية قوة سياسية حقيقية أن تتبلور وتنضج فى عمل الشرعية، بحيث لم تتوفر القدرة التنظيمية إلا للجماعات التى تشكلت خارج الشرعية (الإخوان والسلفيون مثلًا).
لا أعرف ما إذا كان تعدد القبائل السياسية سوف يستمر أم لا، لكنى أذكر بما سمعته ذات مرة من الدكتور عبدالعزيز كامل رحمه الله (الوزير الأسبق وأستاذ الجغرافيا السياسية) من أن العمل الجماعى ليس من السمات المتعارف عليها لدى المصريين. وقد دلل على ذلك بالأهرامات الثلاثة التى خلفها الفراعنة وظلت دليلا على أن كل فرعون رفض أن يدفن فى هرم آخر، وقرر أن يبين لنفسه هرما مستقلا، وهى فكرة قد تحتاج إلى مناقشة، لكنها تدعونى إلى التساؤل عما إذا كانت خلفية التحالفات الجديدة التى ظهرت فى مصر موصولة بفكرة الأهرامات الثلاثة أم لا.