أسّسَ عَسكرِ مِصْرَ أسوأَ ديكتاتوريّةٍ عسكريّةٍ في التّاريخِ الإنسانيِّ. ارتكبوا جرائمَ كثيرةً في حقّ المصريّينَ طوالَ ستّينَ عامًا. جرائِمُهُم هِيَ في الواقعِ جرائمُ ضدّ الإنسانيّةِ، تستحقّ عقابًا شديدًا. والعسكرُ مجرمونَ بطبيعتهم، مستبدونَ بفطرتهم، لا يطيقونَ أيّ معارضةٍ، ولا يقبلونَ أيّ نقدٍ. بل هم لم يتعلّموا أيّ شيءٍ سوى إعطاءِ الأوامرِ وتنفيذِها.
عندما أسّسَ عبدُ النّاصرِ الدّيكتاتوريّةَ العسكريّةَ في مصرَ سنةَ ١٩٥٢م، كانَ يعي تمامًا ضرورةَ وضعِ دستورٍ يمنحُهُ الصّلاحيّاتِ اللّازمةَ لتأسيسِ حكمٍ استبداديٍّ قمعيٍّ. فحرصَ منذُ البدايةِ على ترويضِ قضاةِ مصرَ، وإسكاتِ المعارضينَ منهم. كانَ عبدُ النّاصرِ يُريدُ أن يكونَ هوَ الملك-الإله للمصريّينَ، بحيثُ يضغطُ على زرٍّ، ليقومَ له المصريّونَ من الأسكندريّة إلى أسوان، ويضغط على زرٍّ آخر، فيجلس المصريّونَ، وكأنّهم أطفالٌ في حضانةٍ.
فما أشد مرض هذا الرّجلَ، وأتفهَهُ فعلا. وتمثّلُ قصّةُ عبدِ النّاصرِ مع محاولاتِ صياغةِ دستورٍ مصريّ جديدٍ، بعدَ انقلابِ مجرمي عسكرِ مِصْرَ الأسودِ سنةَ ١٩٥٢م، فضيحةً كبرى من فضائحِ العسكرِ الكثيرةِ. فبعدَ أنْ تمَّ تكليفُ لجنةٍ من كبارِ القانونيّينَ المصريّينَ بعمل دستورٍ جديدٍ للبلادِ، وبعدَ أنْ اجتهدَ فقهاءُ القانونِ المصريّونَ لمدّةِ سنتينِ، تمكّنوا بعدَهَا من تقديمِ مشروعِ دستورٍ جديدٍ لمصرَ.
قامَ عبد النّاصرِ – كعادةِ مجرمي العسكرِ – بتدميرِ جهودِ الخبراءِ القانونيّينَ، وتجاهلِهَا، ليكلّفَ بعدَ ذلكَ بعضَ أهلِ الثّقةِ بتلفيق دستورٍ يناسبُ الحكمَ الدّيكتاتوريَّ. هكذا بكلّ بساطةٍ. وليس هذا بمستغربٍ على إنسانٍ كانَ يُضمرُ في قرارةِ نفسِهِ عداءً شديدًا للشّعبِ المصريّ جعلَهُ يسعى إلى استعبادِه، وإذلالِه، ومعاملتِهِ كقطيعٍ من الأنعامِ. وبعدُ.
يقولُ جمالُ حمّاد في كتابِهِ: «الحكومةِ الخفيةِ في عهدِ عبدِ النّاصرِ»: «وفيما يتعلّقُ بالدّستورِ كانَتْ لجنةٌ خاصّةٌ قد شُكّلتْ بقرارٍ من مجلسِ الثّورةِ في ١٣ يناير ١٩٥٣م، لوضعِ مشروعِ دستورٍ جديدٍ، بعدَ إلغاءِ دستورِ عام ١٩٢٣م. وقد رُوعِي في تشكيلِ اللّجنةِ الّتي ضمّت ٥٠ عضوًا أن يُمثِّلَ أعضاؤها مختلفَ الأحزابِ والطّوائفِ والهيئاتِ، علاوةً على أن يكونَ من بينهم طائفةٌ من جهابذة رجالِ القانونِ في مصرَ.
واستمرّت هذه اللّجنةُ الّتي كانَ يرأسُهَا علي ماهر، هي ولجانها الفرعيّةُ، تعملُ عملًا دائبًا لمدّةِ عامينِ كاملينِ، حتّى انتهت من إعدادِ مشروعِ دستورٍ جديدٍ يتمشّى مَعَ أحدثِ وأفضلِ الدّساتيرِ في العالمِ. وأقرّته اللّجنةُ الفرعيّةُ للصّياغةِ. وأُحيلَ في ١٧ ينايرَ ١٩٥٥م إلى رئيسِ مجلسِ الوزراءِ وقتئذٍ جمال عبد النّاصرِ لاستطلاعِ رأيه، قبلَ عرضِهِ على اللّجنةِ العامّةِ تمهيدًا لإصداره. ولكنّ عبد النّاصر تجاهلَ هذا الدّستورَ الّذي أنفقتْ لجنةُ الدّستورِ عامينِ كاملينِ في إعدادِهِ، والّتي استرشدت في صياغته بأبرزِ وأهمّ النّظمِ الدّستوريّةِ في العالمِ.
واكتفى بأن عهدَ إلى مستشاره القانونيّ الخاصّ محمّد فهمي السّيّد (قريب السّيّدة قرينته)، بوضعِ دستورٍ آخرَ بمعاونةِ المكتبِ القانونيّ برئاسة مجلسِ الوزراء الّذي كانَ يتولّى رئاسته. وبعدَ دراسةٍ استغرقتْ بضعةَ أشهر تمّ إعدادُ مشروعِ الدّستورِ الجديدِ الّذي عُرِضَ على مجلسِ الثّورةِ، وعلى مجلسِ الوزراءِ في أيّامِ ١٠ و١١ و١٣ يناير سنة ١٩٥٦م، أي في نهايةِ السّنواتِ الثّلاثِ الّتي حدّدت من قبلُ كفترةِ انتقالٍ لإقامةِ حكمٍ ديمقراطيٍّ سليمٍ. ودُعِي الشّعبُ إلى استفتاءٍ عامٍّ في ٢٥ يونيو سنة ١٩٥٦م على الدّستورِ الجديدِ، وعلى رئاسةِ الجمهوريّةِ. وقد حصلَ عبد النّاصرِ في الاستفتاءِ على رئاسةِ الجمهوريّةِ على ٩٩،٩٪، وهي نسبةٌ لم يسبقْ لها مثيلٌ من قبلُ في تاريخِ الاستفتاءاتِ في العالمِ. كما كانتّ نتيجةُ الاستفتاءِ على الدّستورِ هي ٩٩،٨٪ في صفّ الموافقينَ عليه». ا. هـ.
همجيّةُ العسكرِ ظهرتْ بوضوحٍ منذُ بدايةِ حكمِ عبد النّاصرِ. فالعسكرُ لا يؤمنونَ بالدّيمقراطيّةِ، ولا يحرصونَ إلّا على مصالحهم، ولا يبالونَ بتبديدِ طاقاتِ مواطنيهم، ولا يكترثون بإهدارِ ثرواتِ البلادِ. وقدْ رأينا هذه الجرائمَ تتكرّرُ مؤخرًا، حينَ قامَ المجلسُ العسكريّ بحلِّ مجلسِ الشّعبِ بكلّ بساطةٍ، مدّعيًا عدم قانونيّته!! وكأنّ العسكر يؤمنونَ بالقانونِ أصلًا. وبعدَ ذلكَ قامَ المجرمُ الآخرُ، المدعو عبد الفتّاح السّيسي، بإلغاءِ نتائجِ انتخاباتِ رئيسِ الجمهوريّةِ، ومجلسِ الشّورى، والدّستورِ. فالعسكرُ لا يجيدونَ إلا العربدةَ، وانتهاكَ القوانينِ، والتّعدّي على حقوقِ المواطنينَ.
وهذا هو سببُ تأخّرِ بلادنا عن اللّحاقِ بحضارةِ العصرِ، لأنّ الدّولَ المتقدّمةَ لا تسمحُ بمثلِ هذه الفوضى الّتي يجيدها عسكرِ مِصْرَ، ولا تقبلها، بلْ تضعُ القوانينَ الصّارمةَ الّتي تحدّدُ وظيفةَ الجيشِ، وتحظرُ على قادتِهِ تجاوزَ صلاحيتهم قيد أنملةٍ واحدةٍ.
يقولُ العلامةُ يوسفُ القرضاوي: «عبدُ النّاصرِ سياسيٌّ فاشلٌ، وحاكمٌ ظالمٌ ومستبدٌ، قادَ العربَ لنكبةِ ١٩٦٧م. وأنا بصددِ تقييمِ حكمِ عبدِ النّاصرِ أُفرِّقُ تفريقًا واضحًا بينَ أمرينِ: أوّلهما ما كانَ مِنَ اجتهاداتٍ قد تُصيبُ، وقد تُخطئُ، وَهُوَ مأجورٌ على صوابِهِ، ومعذورٌ في خطئِهِ.
بل رُبَّمَا كانَ مأجورًا أجرًا واحدًا، إذا صحّتْ نيّته، وتحرّى في اجتهاده، واستشارَ أهلَ الذّكرِ والخبرةِ، واستفرغَ وسعه في الوصولِ إلى الحقيقةِ والرّأي الأرشدِ. وذلكَ مثلُ سياستِهِ في أفريقيا وفي اليمنِ وفي غيرها. فأقصى ما يُقالُ فيها: إنّهُ سياسيٌّ فاشلٌ، وفرقٌ بينَ الفاشلِ والظّالمِ! ولكنّ الفشلَ إذا تكرّرَ واستمرَّ، يُصبحُ كارثةً على الوطنِ، وعلى الأمّةِ. ففشلُ الفردِ العاديُّ وإخفاقُهُ على نفسِهِ بينما فشل الزعيم فيقع على الأمة .