الشيء الصادم والمثير للفزع، في دراما عبد الفتاح السيسي وأحمد شفيق، أن تُظهر أصوات ومجموعات مناهضة للانقلاب ارتياحاً لإدخال جنرال المطار على خط مواجهة جنرال القناة المحفورة على الناشف، بل وتطرب لعناوين من نوعية “تصاعد الصراع بين السيسي وشفيق”، وتعتبر أن في صدامهما مكسباً للثورة.
أزعم أن الموقف الثوري السليم ينبغي ألا يشغل نفسه، كثيراً، بعوادم ومخلفات التصادم بين اثنين من أوفى أبناء الدولة العميقة والثورة المضادة، سواء كان ذلك نوعاً من الألعاب العنيفة الخشنة، التي تجدها في مدن الملاهي العملاقة، أو ضربا من المناكفات والمساومات بين شركاء المشروع الواحد، مدفوعين بالرغبة في مضاعفة الأرباح، أو تقليل الخسائر.
فالأصل في الأشياء، أن لا تناقض يذكر بين اثنين ينتميان للدولة العسكرية، ويؤمنان بأن هذا الشعب قد خلق ليُحكم “بضم ياء المضارع المبني للمجهول”، وليس ليَحكم، بفتح الياء، ولا يتصور أحدهما، أو يتحمل، أن يرى وجها مدنيا يأتي من هذا الشعب، ليعتلي حكم البلاد.
ولو أن ثورة يناير 2011 كانت قد ابتلعت طعم أحمد شفيق، وصدقت أن ارتداءه “البلوفر” الشهير عوضا عن الزي العسكري، ودخلت عليها حيلة أن مبارك شيء وأحمد شفيق شيء آخر، لما استطاعت أن تصمد في وجه الثورة المضادة أسبوعاً واحداً، ذلك أنهم حاولوا، بعد خلع مبارك، تثبيت شفيق رئيسا للحكومة، فما كان من الميدان إلا أن أعلن الاعتصام، حتى رحيل جنرال مبارك عن الحكم، وهو ما اضطر إليه المجلس العسكري، بعد أن رأى حجم الصمود والإصرار على إقالة شفيق.
كلاهما، شفيق والسيسي، أبناء تلك الكراهية العميقة لثورة يناير، يعتبرانها “نكسة” أو “خطيئة” غرقت فيها البلاد، وما يجمعهما أكبر بكثير مما قد يكون موضوع خلاف أو مناوشة أو مناكفة أو ابتزازات صغيرة بينهما، فالحاصل أن أحمد شفيق يدرك جيداً أن لديه ثأرا لدى ثورة يناير، تلك التي استماتت في الدفاع عن آخر فرصة لها في البقاء على قيد الحياة، بانتخاب محمد مرسي رئيساً في معركة انتخابات 2012 ، كما أن عبد الفتاح السيسي، من جانبه، ومنذ اختطف السلطة من الرئيس الذي جاءت به الثورة، لم يترك إجراءً أو تصرفا يعبر به عن حنقه وقرفه من هذه الثورة، إلا وقام به.
ومن هنا، لا هذا ولا ذاك، لديه الاستعداد لدفع كلفة تناطح عنيف، لو وقع، سيؤدي إلى تفتت كتلة جمهور الثورة المضادة وتشظيها. كما أن فتات هذا التناطح، غير المحتمل حدوثه، لن يصب، بالضرورة، في رصيد الجبهة المعارضة للانقلاب، الباحثة عن بصيص أملٍ لاستعادة وحدة الصف الثوري، وفي اللحظة التي تفكر فيها الثورة بهذه الطريقة، فإنها تمارس الانتحار، وتسلم رقبتها للذبح، كونها في هذه الحالة، تنقل نفسها من حالة الطرف الأصيل في صراع مع قوى الماضي، إلى مجرد خادمة في بلاط الرابح من أمراء الصراع، والذي سيزداد شراسةً بعد حسم النزال لصالحه.
وحري بأهل الثورة أن يكون شغلهم الشاغل هو التوصل إلى صيغ ومعادلات للاصطفاف حول مجموعة القيم والمبادئ والأفكار، التي نجحت يوماً في إزاحة رأس النظام القديم، بدلا من أن يشغلوا أنفسهم بأوهام الاصطدام، أو الاصطكاك والاحتكاك بين أبناء المشروع المضاد، وعلى ذلك، يصبح واجباً على كل الباحثين عن وحدة ثورية حقيقية، الآن، ألا يصعّروا خدهم لهذا الطرف أو ذاك، ممن يعتبرون الوصول إلى نقطة اصطفاف نوعاً من التضحية، وضربا من التنازلات.
ومن العجب أن بعضاً من المدعوين للاصطفاف الثوري، الآن، يمارسون نوعاً من التطاوس والخيلاء الزائفة، والعجرفة السخيفة، على بعضهم، وكأن تلبية نداء الاصطفاف والتوحد صار شيئاً من المجاملة لطرف بعينه، فيما تنطق وقائع اللحظة الراهنة بأن جميع من ينتسبون لثورة يناير باتوا لا يمتلكون رفاهية التفكير أو المفاضلة بين الاصطفاف، واللااصطفاف، في ظل هذا التوحش من المعسكر المقابل.
ويصيبك بالغم والهم أن من المحسوبين على معسكر الثورة، من يتعامل باستعلاء على فكرة المصالحة الثورية، ويشعل الإطارات ويسكب المازوت في طريقها، كلما شهدت خطوات جادة وحقيقية في الاتجاه الصحيح، لكنه يصبح وديعاً وودوداً للغاية، ومتسامحاً إلى أبعد مدى، إذا ما طرح أحد مشروعا للتسوية، أو صفقة للتصالح بين الانقلاب والثورة.
انظر حولك، الآن، ستجد من أحزاب اليسار الانقلابي، من هي غارقة حتى الأذقان في أفراحها بالحكم الابتدائي على الضابط قاتل شيماء الصباغ، بالسجن 15 عاما، وهو الحكم الذي سيتبخر شيئا فشيئاً مع تتابع درجات التقاضي، لينتهي إلى البراءة أو السجن عاماً، وستجد اليسار القديم المتجدد منخرطاً في مسابقات الرقص المسيس داخل مقراته، وهؤلاء لو تهورت، وتحدثت أمامهم عن مصالحات ثورية، ستجد نفسك في مرمى حجارة الاتهام بالإرهاب والتواطؤ مع الإرهابيين الرجعيين، أعداء الوطن. ولا يقل عن هؤلاء ابتذالاً وإسفافاً، الذين لا يمانعون في قبول شفيق بديلا للسيسي، على نحو يذكّرك بتلك الحالة من العتاهية القومية التي كانت تتلهى بمضغ أوهام التفرقة بين صقور وحمائم في الكيان الصهيوني