نصوغ في هذا المقال مصطلحًا جديدًا لتوصيف الصراع بين أنصار الشرعية والانقلابيين في مصر هو مصطلح “اللا سلم واللاعنف”، وهو مصطلح مستخرج من مصطلح آخر “اللا سلم واللا حرب”، لتوصيف الصراع بين العرب وإسرائيل، والذي نشأ بعد قبول العرب المبادرة الأميركية لوقف إطلاق النار عام 1970 “مبادرة روجرز”.
نحاول في ذكرى العاشر من رمضان، أن نستلهم من أفكار الفريق سعد الشاذلي رحمه الله -وهو من وضع خطة الحرب- في مواجهة العدو الذي يفوقه قوة، ومن ثم الطريقة المثلى في مواجهة هذا الانقلاب الصهيوني الغاشم.
***
في العام 1970، بدأ مصطلح “اللا سلم واللا حرب” No peace No war في الشيوع في الأوساط السياسية والإعلامية، كتوصيف لحالة الصراع بين العرب وإسرائيل، بعد أن قبل عبدالناصر مبادرة وقف إطلاق النار الأميركية “مبادرة روجرز” واستمرار الوضع على ما هو عليه!
كان “اللاسلم” نابعًا من رفض العرب الأمر الواقع الناشئ عن حرب يونيو 1967 (حرب الأيام الستة) ورفضهم شروط إسرائيل التي تريد إملاءها عليهم بالقوة، تحت مسمى السلام!
يقول المشير عبدالغني الجمسي، مدير العمليات في حرب أكتوبر، في مذكراته:
“كان واضحًا أمامنا، في القيادة العامة للقوات المسلحة، أن إسرائيل وضعت لنفسها هدفًا إستراتيجيًا -بعد حرب يونيو- هو منع الدول العربية من تحرير أرضها بالقوة حتى ترضخ الإرادة العربية للإرادة الإسرائيلية، فيتحقق السلام بشروط إسرائيل”، مذكرات الجمسي- الميدان للنشر والتوزيع صـ217. (وهو عين ما فعله السادات في كامب ديفيد بالمناسبة).
أما حالة “اللا حرب” ناشئة من عدم قدرة العرب -في ذلك الوقت- على القيام بعملية عسكرية لتحرير أراضيها التي احتلت في حربي 1948 و1967، لعدة أسباب؛ منها التفوق العسكري الإسرائيلي على العرب، ووصول القوات الصهيونية لمناطق إستراتيجية تعد موانع طبيعية يصعب مهاجمتها (قناة السويس في مصر- هضبة الجولان في سوريا- نهر الأردن في الأردن).
استمرت هذه الحالة عدة سنوات، حتى تم اتخاذ قرار “الحرب بما لدينا من أسلحة”، وقد وضع خطة الحرب الفريق الركن سعد الدين الشاذلي، والذي كان ملمًا بنقاط القوة والضعف في جيشه وجيش العدو.
أعد الشاذلي خطة الحرب وأسماها الخطة “بدر”، ثم تغير اسمها ليصبح “المآذن العالية”. وكانت هذه الخطة تقضي بمباغتة إسرائيل، وعبور قواتنا قناة السويس، والتمركز في سيناء بعمق 5 كم تقريبًا، وتأمين جوانبنا من أي هجوم إسرائيلي، والتمترس في نقاط دفاعية تحت غطاء من منظمة الدفاع الجوي القوية (صواريخ سام 6 المضادة للطائرات).
كانت هذه الخطة لا تؤدي إلى تحرير كل سيناء، وقد كان الفريق الشاذلي يعلم أننا لا نستطيع -بما توفر لدينا من سلاح- أن نحرر كل أراضينا المحتلة، لكن كانت وجهة نظره أن إسرائيل لا تستطيع البقاء إلى ما لا نهاية في حالة الحرب، كما أنه لا يمكنها البقاء في أراضٍ مفتوحة في سيناء من غير تحصينات أو نقاط دفاعية، مما سيدفعها لتكبد خسائر فادحة، سيدفعها للقبول بالفرار أو على الأقل التفاوض وفق الشروط المصرية ومن منطق ضعف.
لأسباب كثيرة، لم يحدث ما كان مقررًا، وتمت مخالفة التعليمات العسكرية للفريق الشاذلي، لخصها هو في مذكراته قائلًا:
“لقد كان في استطاعتنا أن نحقق الكثير لولا تدخل السادات المستمر، وإصدار سلسة من القرارات الخاطئة التي كانت تجهض قدراتنا العسكرية!”.
مذكرات حرب أكتوبر- الفريق سعد الشاذلي، دار بحوث الشرق الأوسط الأميركية- صـ408-409
***
إن الوضع الحالي بالنسبة لأنصار الشرعية ومعارضي الانقلاب في مصر، يشبه إلى حد كبير وضع مصر في الفترة التي سبقت حرب أكتوبر؛ ليس فقط لأننا نواجه عدوًا لا يتورع عن استخدام سلاح لا نمتلكه، ولكن لأن هذا العدو (الانقلابيين في مصر) قد شربوا حتى النخاع من خمر العمالة الصهيونية، فصارت الصحافة الإسرائيلية تحتفي بهم علنًا دون مواربة ليل نهار، بعد أن دعا وزير دفاعهم السابق إيهود باراك -عقب الانقلاب مباشرة- الغرب إلى مساندة السيسي والبرادعي؛ لأن مساندة إسرائيل لهم ستضر بسمعتهم وتحرجهم (اتضح لاحقًا أنهم لا يخجلون من ذلك بل يفاخرون به!).
إن الإستراتيجية التي يجب اتباعها في مواجهة الانقلاب العسكري في مصر هي إستراتيجية اللا سلم واللا عنف؛ لا سلم بمعنى أن إستراتيجيتنا لم تعد تعمد -فقط- على مظاهرات سلمية تنزل إلى الشوارع والميادين فيقابلها البلطجية وقوات الجيش والشرطة فتقتلهم وتعتقلهم بكل سهولة! لم أعرف ولم أقرأ في التاريخ عن ثورة نجحت بهذه الوسيلة، ولا انقلاب كسر بهذا الشكل!
ولا عنف، بمعنى أن المواجهة المفتوحة مع الانقلاب مرفوضة، وأن عسكرة الثورة مرفوضة، وأن المبادرة بالعنف مرفوضة، لكن يظل استخدام القوة ضد النظام وفق الإمكانيات المتاحة من ناحية، وخاضعًا لضوابط كثيرة من ناحية، تجعل استخدام القوة رد فعل وليس فعلًا، في إحدى حالات ثلاث فقط: (الردع في المظاهرات- الدفاع عن النفس- القصاص لمن ثبت عليه يقينًا ارتكاب القتل أو الاغتصاب).
***
إن الإحباط المتولد في نفوس الكثيرين من رافضي الانقلاب ليس نابعًا من الثمن الذي دفعوه من شهداء ومعتقلين ومطاردين، بقدر ما هو نابع من إحساسهم أن كل هذا الثمن لم يؤد حتى الآن إلى إسقاط الانقلاب، ولا يرون في المستقبل المنظور سبيلًا واضحًا لذلك!
والخطأ الإستراتيجي الذي يقع فيه هؤلاء أنهم يريدون القضاء على الانقلاب بالضربة القاضية، وهم لا يمتلكون القوة أو القدرة على ذلك. عليهم أن يفهموا أن إسقاط الانقلاب يأتي بسياسة النفس الطويل.
إن النجاح هو التقاء منحنى الفرصة مع منحنى الاستعداد، وما علينا فعله أن نستعد أكثر وأكثر لإسقاط الانقلاب وللحظة ما بعد سقوط الانقلاب، ولننتظر الفرصة المناسبة واللحظة المواتية لتغيير موازين القوة بما يسمح لهذه الثورة أن تحقق أهدافها، علينا أن نستمر في إنهاك السيسي وانقلابه وقارعته سياسيًا وإعلاميًا وقانونيًا وأمنيًا (بالضوابط السابقة) دون تسرع باتخاذ قرارات متسرعة تضر بالثورة (كما فعل السادات أثناء حرب أكتوبر) أو القبول -تحت ضغط الانقلاب والإقليم- بمباردات لا تلبي مطالب الثوار (كما فعل السادات أيضًا في اتفاقية كامب ديفيد!!).