شبكة رصد الإخبارية
follow us in feedly

قضية “تيران وصنافير” في ضوء قواعد القانون الدولي

قضية “تيران وصنافير” في ضوء قواعد القانون الدولي
أعلنت الحكومة المصرية يوم 9 أبريل 2016 توقيع اتفاق ترسيم الحدود البحرية مع المملكة العربية السعودية بمناسبة زيارة الملك سلمان لمصر.

1

أعلنت الحكومة المصرية يوم 9 أبريل 2016  توقيع اتفاق ترسيم الحدود البحرية مع المملكة العربية السعودية بمناسبة زيارة الملك سلمان لمصر.

وتناقلت وكالات الأنباء أن حكومتنا أقرت في هذا الإعلان بأن جزيرتي تيران وصنافير تابعتان للمملكة، وليستا مصريتين.

وأثار هذا القرار عاصفة من الجدل بين مؤيدي السلطة في مصر ومعارضيها.

وأدى عنصر “المفاجأة” إلى أن يلجأ كل فريق لما تيسر له من أدلة وحجج يراها قوية ودامغة في البرهنة على صواب موقفه، وعلى سلامة رأيه الذي يتبناه ويدافع عنه.

ولكن ما يلفت النظر في مجمل هذا الجدل أن أغلب الحجج المتداولة بين أطرافه هي حجج “عاطفية” أكثر منها “قانونية”، وأنها وليدة “الانطباعات” السريعة المبنية على معلومات غير دقيقة وغير موثقة، وليست وليدة دراسات متعمقة، ولا مستندة إلى وثائق يعتد بها بمعايير “القانون الدولي” الحديث والمعاصر، وقواعده التي تنظم عمليات ترسيم الحدود البرية والبحرية بين الدول، وأيضاً قواعد قانون البحار التي تنظم الملاحة في المضايق البحرية والمياه الإقليمية والخلجان الدولية(التي تصل بين جزئين من مياه أعالي البحار)، والخلجان “الداخلية” (التي تصل بين جزء من مياه أعالي البحار وجزء من المياه الداخلية لهذه الدولة أو تلك).

وتلك القواعد هي وحدها واجبة التطبيق في مثل حالة مضيق تيران وجزيرتي تيران وصنافير.

ومقصدي من هذا المقال ليس المشاركة في الجدل المحتدم عاطفيا أو “انطباعيا” حول القرار الأخير للحكومة المصرية بشأن جزيرتي “تيران وصنافير”؛ وإنما هو تقديم رؤية للقضية من منظور قواعد القانون الدولي، وفي ضوء الأهمية التاريخية للجزيرتين وارتباطهما بالتكوين الجيوـ ستراتيجي للأرخبيل الجنوبي لخليج العقبة وما حوله من امتدادات بحرية وقارية وبرية تخص مصر تحديدا.  

تشير الخرائط الجغرافية المرسومة منذ القرن الثاني لميلاد المسيح عليه السلام إلى أن جزيرتي تيران وصنافير واقعتان في المياه الإقليمية المصرية، كما تشير خريطة “بوتنغر” المرسومة في سنة 265 ميلادية حسب بعض المصادر التاريخية.

كما تشير أيضا إلى أن خليج العقبة بجزره التي تشكل أرخبيلاً في مدخله الجنوبي تابعة لشبه جزيرة سيناء المصرية، وهكذا تناولها جمال حمدان في كتابه المرجعي “شخصية مصر” وهو يتحدث عن أربعين جزيرة مصرية في القسم الشرقي لحدودها البحرية.

وعن تلك المصادر الموغلة في القدم أخذت خريطة ”ألبي“ التي رسمها راديفيلد من علماء حملة نابليون بونابرت على مصر في سنة 1798م.

وفي كتاب نعوم بك شقير الصادر في سنة 1916م بعنوان “تاريخ سيناء القديم والحديث وجغرافيتها مع خلاصة تاريخ مصر والشام وجزيرة العرب”، يوجد ملحق خرائط يتضمن جزيرتي تيران وصنافير ملونتين بنفس لون سيناء دلالة على وحدتهما الإقليمية معها. 

ولا تكتمل صورة الجزيرتين إلا بوضعهما في إطارهما الجيوستراتيجي لشبه جزيرة سيناء بشكل عام ولخليج العقبة من مدخله الجنوبي بشكل خاص.

فخليج العقبة يبلغ طوله ثمانية وتسعين ميلاً، وعرضه في أقصى منطقة لاتساعه حوالي سبعة عشر ميلاً. ومدخل الخليج لا يتجاوز تسعة أميال بحرية.

والجزء الصالح منه للملاحة هو الجزء المجاور للساحل المصري في سيناء المعرف باسم “مضيق تيران”، ولا تصلح الملاحة في هذا الجزء إلا لمسافة 1200 ياردة (فقط ألف ومائتي ياردة)، وهي بقية الجزء الذي يصل بين الساحل المصري وجزيرة تيران.

وبقية هذا الجزء فيما عدا الألف ومائتي ياردة مليء بالشعب المرجانية(خمس شعب كبيرة) فهو غير صالح للملاحة لأن غاطس السفن فيه لا يمكن أن يزيد عن خمسين قدماً، وهو غاطس غير مناسب للملاحة الدولية، فضلا عن أن هذا الجزء يلعب به المد والجزر إلى مسافات بعيدة بحيث يجعله غير صالح للملاحة على وجه الإطلاق.

وتجاور جزيرة تيران جزيرة أخرى هي جزيرة صنافير، التي يفصلها عن الساحل السعودي جزء غير صالح أيضاً للملاحة لوجود شعب مرجانية به، فضلا عن كونه ضحلاً وغير صالح لمرور السفن، على الرغم من ثبات المد والجزر فيه.

ومن الناحية التاريخية، كان خليج العقبة يشكل مع البحر الأحمر بحيرة إسلامية على مر العصور، وذلك لأهميته كطريق حيوي للدولة الإسلامية في هذه المنطقة.

فالمسافة التي تصل بين شمال خليج العقبة والمدينة المنورة لا تتجاوز 450 ميلاً(أربعمائة وخمسين ميلاً)، وكذلك المسافة التي تصل خليج العقبة في شماله بميناء ينبع(السعودي حالياً) لا تتجاوز 430 ميلاً(فقط أربعمائة وثلاثين ميلاً)، والمسافة بين ينبع والمدينة المنورة لا تتجاوز ثمانية عشر ميلاً.

ونظراً لأن فتحة فوهة خليج العقبة لا يزيد اتساعها عن أربعة عشر ميلاً، ولأن هذا الخليج أيضاً لا يزيد اتساعه عن أربعة وعشرين ميلاً؛ فإنه يعتبر من “الخلجان التاريخية” في حكم القانون الدولي، فضلاً عن أن له اعتبار تاريخي وديني كما أسلفنا.

وجميع الخلجان التاريخية وذات الأهمية الدينية تعتبر مياها داخلية وليست إقليمية، ومن باب أولى ليست مياهاً دولية.

وبسبب الاعتبارات الجيوستراتيجية والتاريخية كان خليج العقبة ذا أهمية كبيرة في الحروب الصليبية على عهد صلاح الدين الأيوبي، الذي ركز قواته في جزيرة فرعون (تبعد عن ميناء العقبة حوالي ثمانية أميال بحرية)، ومن هذه الجزيرة في شمال خليج العقبة استطاع صلاح الدين الأيوبي أن يشن هجومه على الصليبيين ويدفعهم بعيداً عن المدينة المنورة وعن مكة المكرمة التي كانوا يستهدفونها بالهجوم، منذ سيطروا على القدس وما حولها.

وإضافة إلى ما سبق هناك اعتبار تاريخي/ديني في وقت واحد وهو: أن “المَحْمَل المصري” (هو عبارة عن قافلة مصرية كبيرة كانت تحمل المؤن والمعونات من مصر للحجاج ولفقراء الحرمين) كان يمر في العهد العثماني من مصر إلى الحجاز عن طريق شمال خليج العقبة.

وعبر مدينة العقبة ذاتها. وكان حجاج الشام يمرون بخليج العقبة أيضاً.

وتشير الوثائق العثمانية إلى أن كل خليفة من الخلفاء العثمانيين كان يصدر فرماناً عند استلامه الحكم، يجدد فيه عهد سلفه بأن يحمي البحر الأحمر ككل من باب المندب جنوباً إلى خليج العقبة وخليج السويس شمالاً؛ حتى لا تمر فيه السفن الأجنبية؛ حمايةً لأراضي الحرمين الشريفين.

واستمر هذا التقليد سارياً حتى احتلت انجلترا مصر في سنة 1882م، وضعفت قوة الدولة العثمانية وأطلق الساسة الأوربيون عليها اسم “الرجل المريض”.

وبطل هذا التلقيد العريق الذي درجت عليه الخلافة العثمانية. وكانت مدينة العقبة وخليج العقبة برمته في ذلك الوقت تحت سيادة والي مصر.

وعندما عقدت اتفاقية الحكم الثنائي للسودان في سنة 1899م بين بريطانيا ومصر؛ فإنه لم يكن مصادفةً أو عبثاً أنها نصت في مادتها العاشرة على “منع مرور السفن الأجنبية في شرق البحر الأحمر بما فيه خليج العقبة ومضيق تيران؛ احتراماً لتلك الاعتبارات التاريخية والدينية الإسلامية”.

وفي تلك الاتفاقية في سنة 1889م أقرت بريطانيا بسيادة مصر على جزيرتي تيران وصنافير والمدخل الجنوبي لخليج العقبة.  

وبعد سنوات قليلة من اتفاقية الحكم الثنائي للسودان في سنة 1899م، تم الاتفاق على الحدود بين مصر والدولة العثمانية على أثر الخلاف بين الجانبين الذي عرف بـ “أزمة طابا” في سنة 1906م، وقد نصت اتفاقية 1906م هذه على نقل تبعية خليج ومدينة العقبة لوالي الحجاز(لم تكن المملكة العربية السعودية قد ظهرت للوجود؛ حيث تم الإعلان عنها رسمياً في سنة 1932م)، وكانت الحجة التي استخدمتها الدولة العثمانية لهذا الإجراء هي:

أن طريق المحمل المصري قد أصبح خليج السويس، وليس الطريق البري في شمال العقبة!. ولم تكن حجة مقنعة، بقدر ما كانت مسكنة للمشاعر الوطنية بمشاعر دينية.

وفي سنة 1908م قامت الحكومة المصرية بوضع “فنارة” في جزيرة صنافير كدليل على ممارستها الرقابة والإشراف على هذه المنطقة التي تضم تيران وبقية الأرخبيل في مدخل خليج العقبة.

وثمة عديد من الحجج والوقائع والوثائق التاريخية التي تفصل وتوثق ما ذكرناه. ومن هذا كله يستنتج فقهاء القانون الدولي أن خليج العقبة يُصنف ضمن “الخلجان التاريخية”؛ وهذه الخلجان في حكم القانون الدولي هي مياه داخلية وطنية تمارس عليها الدولة سيادتها المطلقة، فليس فيها مرور برئ للسفن الأجنبية، بل لا يحق لأي سفينة أجنبية تجارية أو غير تجارية أن تمخر عبابها إلا بإذن خاص من الدولة صاحبة السيادة على الخليج وعلى الجزر والمضايق التي تتحكم فيه.

ومثل هذا التوصيف القانوني له أهمية كبرى تتعلق بالأمن القومي، وبخاصة في أوقات الحروب والنزاعات المسلحة. فأهم ما ينتج عن هذا التوصيف أنه يعطي للدولة صاحبة السيادة على الخليج الحق في أن تمنع السفن الأجنبية من المرور فيه.

وهو ما حدث بالفعل عندما استخدمت مصر حقها في السيادة على الجزيرتين وعلى مضيق تيران فأغلقته في 23 مايو سنة 1967 في وجه الملاحة الإسرائيلية، ومن ثم أغلقت عليها منفذها الجنوبي عبر ميناء “أم رشراش” ـ إيلات ـ الذي كانت إسرائيل قد احتلته بعد توقيع هدنة رودس في 24 فبراير سنة 1949م.

وتسبب إغلاق المضيق في استثارة غضب الدول الغربية وبخاصة الولايات المتحدة الأمريكية ضد مصر.

وأعلنت أمريكا على لسان رئيسها آنذاك أنها ستضمن لإسرائيل حق المرور من مضيق تيران ولو باستخدام القوة.

وهو التصريح الذي زاد من حدة الأزمة لمخالفته لميثاق الأمم المتحدة الذي يحرم استخدام القوة أو التهديد بها في حل المنازعات الدولية.

وكان احتلال إسرائيل لأم رشراش ولا يزال عملاً غير مشروع، ولم ولن يسقط حق مصر في أم رشراش مهما كانت قوة الأمر الواقع الذي فرضته قوات الاحتلال الصهيوني عليها منذ تلك السنة.

ومن الأهمية بمكان أن نتبين “الوضع القانوني” لمضيق تيران في سياق الإعلان الأخير للحكومة المصرية عن عملية ترسيم الحدود بين مصر والسعودية ولمن تعود تيران وصنافير.

فقواعد القانون الدولي تقرر أنه إذا كان المضيق يصل بين جزئين من أعالي البحار فهذا المضيق يصبح ممراً حرا للملاحة الدولية. ومثال ذلك:

مضيق جبل طارق، ومضيق الدردنيل والبوسفور، ومضيق ماجلان، ومضيق الصوند في الدنمارك.

أما إذا كان المضيق يصل بين جزء من أعالي البحار وجزء من المياه الإقليمية؛ ففي هذه الحالة يجب أن يصبح المرور خاضعاً خضوعاً تاما لرقابة الدولة الساحلية، ويُقيد بقواعد “المرور البرئ” في وقت السلم. أما إذا كان المضيق يصل بين جزء من أعالي البحار ومياه داخلية فإن الفقه القانوني انتهى إلى اعتباره مياها داخلية ولا يخضع لقواعد “المرور البرئ”، وإنما يخضع للقواعد القانونية للدولة صاحبة السيادة عليه بذاتها. وبتطبيق تلك القواعد العامة على حالة مضيق تيران وجزيرة صنافير؛ ونظراً لأن مدخل خليج العقبة عبارة عن أرخبيل يتشكل من مجموعة جزر أهمها تيران وصنافير، وعدد من الشعب المرجانية، فإن طريقة القياس القانوني في “الأرخبيل” تكون على أساس الخطوط المستقيمة التي تصل الحواف الخارجية لهذه الجزر والتي تشرف على أعالي البحار(البحر الأحمر هنا).

ومن هذه الخطوط يبدأ قياس البحر الإقليمي. وبتطبيق ذلك يتضح أن المسافات الخاصة بفوهة خليج العقبة، وبمضيق تيران(التي أسلفناها) يترتب عليها أن مياه هذا الأرخبيل المكون لمجموعة هذه الجزر في مضيق تيران هي في الواقع مياه داخلية مصرية تماماً، وتحجز خلفها مياها مصرية مائة بالمائة؛ وذلك طبقاً لأصول وقواعد وأحكام القانون الدولي التي تنظم المضايق والخلجان وتنظم أيضاً أنواع المياه: الداخلية والإقليمية والدولية.

2

عرفنا في الجزء الأول من هذا المقال جملة من الحقائق التاريخية والجغرافية والقانونية عن جزيرتي تيران وصنافير وما حولهما في المدخل الجنوبي لخليج العقبة.

وقد يسأل سائل: هل أوضاع الحدود الدولية: البرية، والبحرية، والنهرية عوماً هي أوضاع أزلية أبدية لا تتزحزح؟ وهل يتم ترسيم الحدود وفق معيار “الحق التاريخي” أو الحق القانوني وحده؟.

والإجابة على مثل هذه الأسئلة تقودنا إلى معمعة التغير المستمر في موازين القوى في العلاقات بين الدول. ويتبين من وقائع التاريخ أن صاحب القوة، هو الذي يستطيع عادة أن يفرض وجهة نظره في أغلب الأحوال؛ إما طوعاً، وإما كرهاً بخوض الحروب والانتصار فيها على الخصم.

أي أن قانون القوة، وليس قوة القانون؛ هو الحَكَم الفصل. وفي أحوال أخرى يتم التوافق على اللجوء للتحكيم الدولي مثلما حدث في قضية “طابا” التي استردتها مصر بحكم باتٍ من محكمة العدل الدولية.  

والحقيقة أن الوقائع التاريخية الخاصة بجزيرتي تيران وصنافير ومضيق تيران موغلة في القدم. وقد خضعت الجزيرتان مع خليج العقبة ومدينته لكثير من التحولات عبر الأحقاب الزمنية المتوالية.

فكانت حيناً تتبع والي الحجاز، وحينا آخر تتبع والي مصر. وإذا بدأنا بأحدث نقطة مرجعية في تحديد تبعيتهما سنجد أنها ترجع إلى زمن الحملة الفرنسية وخرائطها التي توضح تبعيتها لمصر(خريطة رادفيلد)، ثم معاهدة لندن سنة 1840م، ومن بعدها اتفاقية الحكم الثنائي بين مصر وبريطانيا سنة 1899م، واتفاقية الحددود بين مصر والدولة العثمانية في سنة 1906م التي اعتبرت الجزيرتين وأم رشراش ضمن حدود إقليم الدولة المصرية على ما أسلفنا، ولكن دون أن يتم ترسيم الحدود ترسيماً إجرائياً موثقاً في وثيقة خاصةلهذه المنطقة.

وكانت نقطة التحول الأساسية بشأن تبعية تيران وصنافير والمضيق هي الحرب العربية الإسرائيلية في سنة 1948م، فقد عمدت الدول الكبرى آنذاك إلى إبرام سلسلة من اتفاقيات الهدنة الثنائية بين كل دولة من الدول العربية التي شاركت في تلك الحرب وبين إسرائيل، فانعقدت هدنة إسرائيلية ــ مصرية ، وأخرى إسرائيلية سورية، وثالثة إسرائيلية ـ أردنية وهكذا.

وكان السبب الأساسي غير المعلن لاختيار صيغة الهدنة الثنائية هو: أن تتجزأ قوة المفاوض العربي لصالح قوة المفاوض الصهيوني، وينفرد الطرف الصهيوني بكل طرف على حدة ليحقق أكبر مكسب له على حساب الطرف العربي الذي خرج مهزوماً في حرب سنة 1948م.

وتم توقيع اتفاقية الهدنة بين مصر وإسرائيل في ردوس في 24 فبراير سنة 1949م.

وكانت نصوص هذه الهدنة نطقة انطلاقة جديدة في تاريخ مضيق تيران، وجزيرته وجزيرة صنافير بشكل خاص، وعموم خليج العقبة والمدخل الجنوبي لشبه جزيرة سيناء بشكل عام.

وما حدث هو أنه: قبل هدنة رودس في سنة 1949م لم يكن المركز القانوني للجزيرتين محدداً بدقة أو بشكل إجرائي من خلال عملية ترسيم للحدود كما أسلفنا. وتشير وثائق هدنة رودس إلى أن اللجان القانونية بذلت جهداً كبيراً من أجل إنجاز عملية الترسيم، ومن ثم تحديد التبعية القانونية للجزيرتين في ضوء بحث أشمل منهما وهو:

بحث التبعية القانونية لمدينة العقبة ذاتها، وهي الواقعة في المدخل الجنوبي الشرقي لخليج العقبة. وتشير محاضر هدنة رودس أيضاً بخصوص هذه النقطة إلى أن اللجنة انتهت إلى أن “مدينة العقبة مصرية، وأنها تشكل مع أم رشراش جزءاً من الإقليم المصري”، وكاد اتفاق هدنة رودس ينص على تبعيتها وعودتها لمصر؛ لولا ما طرأ من ظروف(لم تحددها وثائق رودس) اضطرت المجتمعين لإرجاء النص على ذلك.

وكانت أهم حجة سيقت آنذاك لتبرير عدم النص على عائدية الجزيرتين ومدينة العقبة لمصر، هي أن أحكام اتفاقية الهدنة “مستوفاة من الاعتبارات العسكرية فقط، وأنها لا تحدد حدوداً سياسية أو إقليمية، ولا تمس بالحقوق والمطالب التي تنتج عن تسوية القضية الفلسطينية تسوية نهائية”.

ومن هذا النص يلوح لنا أن القوى المؤيدة للطرف الصهيوني والمشاركة في وضع اتفاقية هدنة رودس قد نجحت في تلغيم العلاقات المستقبلية بين مصر والمملكة العربية السعودية. وظهر النص في هدنة رودس باعتباره قرينة على أن المركز القانوني لتيران وصنافير ليس محدداً، أو أنهما في أظهر تأويلات نصوص هدنة رودس “ليستا تابعتين للسعودية”. واستقر النص النهائي في هدنة رودس على أساس أن تتولى مصر السلطان الفعلي أو الإدارة والحماية، “دون الإخلال بأي مطالبة من جانب السعودية”. وعلى هذه النقطة اتكأت المطالبة السعودية بعائدية الجزيرتين لها، وفي تلك النقطة غرست بذور المشكلة الراهنة. وثمة ملاحظة مهمة هنا وهي أن هدنة رودس في سنة 1949م  لم تأت على عملية الحصار البحري أو فتح مضيق تيران أو خليج العقبة بالنسبة لإسرائيل. وإهمال مثل هذا النص يؤشر على مسألة مهمة، وهي أن العرف الدولي قد جرى على أنه ما من هدنة بين دولتين متحاربتين إلا ونظمت عمليات رفع الحصار البحري أو الإبقاء عليه. مثل هدنة حرب القرم في سنة 1856، وهدنة الحلفاء والمانيا في سنة 1919.

أما وإن شيئاً من هذا لم يحدث في هدنة رودس فإنه يكون إقراراً بأن قرار الملاحة عبر مضيق تيران هو قرار مصري صرف، باعتبار أن هذا المضيق يحجز خلفه مياهاً مصرية داخلية لا تشاركها في السيادة عليها جهة أخرى، ومن ثم لم تكن حاجة للنص على مسألة الحصار البحري إبقاءً عليه أو رفعاً له. وبرهن السلوك المصري بعد هدنة رودس على تمسك مصر الدائم بتبعية الجزيرتين لسيادتها، وأنهما ومضيق تيران ضمن مياهها الداخلية وليست الإقليمية فقط.

ففي 21 ديسمبر 1950م أرسلت الحكومة المصرية منشوراً إلى شركات الملاحة الأجنبية وإلى البعثات القنصلية تبين فيها الإجراءات المتبعة للملاحة في المياه الإقليمية المصرية في مضيق تيران.

وتتلخص هذه الإجراءات في منع السفن الإسرائيلية من المرور في مضيق تيران، ومنع أية سفن أجنبية تحمل مواداً استراتيجية لإسرائيل. وواقعة مرور السفينة الإنجليزية إمباير روش Empire Roach  قاطعة في الدلالة على وجود اعتراف دولي لسلطة الحكومة المصرية في السيادة والإشراف على الملاحة في مضيق تيران.

فعندما خالفت هذه السفينة التعليمات الخاصة بالمرور في مضيق تيران في 21 ديسمبر 1950 واحتجزتها السلطات المصرية تبين من تبادل المذكرات بين الحكومة المصرية والحكومة البريطانية في سنة 1951 أن الحكومة البريطانية تقبل تفتيش سفنها المتجهة إلى خليج العقبة، وبشرط أن تكون سفناً غير حربية، أما إذا كانت حربية فيتم منعها منعاً باتاً، وهذه قرينة قانونية لا يرقى إليها الشك في سيادة مصر على المضيق.

وبعد عدوان سنة 1956م حاولت إسرائيل تأجيل تنفيذ قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة الصادر في 2 نوفمبر 1956م والخاص بإدانتها وضرورة انسحابها إلى خارج خطوط هدنة رودس، وذلك حتى تحصل إسرائيل على ضمانات من الأمم المتحدة تتعلق بحرية الملاحة في خليج العقبة، وبأن قوات الطوارئ الدولية التي تقرر تشكيلها، تتولى المرابطة في منطقة شرم الشيخ المصرية على مدخل الخليج.

وآنذاك؛ رفض سكرتير عام الأمم المتحدة إعطاء ضمانات من هذا النوع، وقرر في تقريره الذي رفعه إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة في 26 فبراير 1957م أن القوات الدولية لن تُستعمل لغرض فرض أي حل لمشكلة سياسية أو قانونية ، وإنما تنحصر وظيفتها في منع وقوع أعمال حربية.

وإن الأمين العام يرفض أيضاً تعزيز القوات الدولية في منطقة شرم الشيخ بطريقة تمكن إسرائيل من كفالة حرية الملاحة في خليج العقبة.

وفي النهاية انسحبت القوات الإسرائيلية من المنطقة دون أن تحصل على مزايا بحرية أو إقليمية جراء عدوانها على مصر.

صحيح أن مصر لم تتمكن من ممارسة إشرافها على مضيق تيران منذ العدوان الثلاثي في سنة 1956م، وحتى قرار عبد الناصر بإغلاقه في 23 مايو سنة 1967م. إلا أن هذا الإجراء أعاد الحالة التي كانت قائمة قبل العدوان الثلاثي في سنة 1956م ، وكانت محاولة من عبد الناصر لإلغاء كل آثار هذا العدوان، ولكنها أسهمت في وقوع عدوان وهزيمة سنة 1967م.  وعلى أية حال فإن عدم تمكن مصر من بسط إشرافها وسيادتها الفعلية على الجزيرتين والمضيق في الفترة من سنة 1956 إلى مايو سنة 1967م، لا يمكن الاحتجاج بها للتدليل على خروج المضيق والجزيرتين من سيادتها. كما لا يمكن الاحتجاج بما تم أثناء وجود قوات الطوارئ الدولية في شرم الشيخ من عرقلة مصر عن ممارسة إشرافها على مضيق تيران؛ وذلك لأن مصر كانت طوال الوقت بعيدة عن المواقع التي يمكنها فيها فرض هذا الإشراف(حالة تعذر بمفهوم القانون الدولي)، فضلاً عن أن مدة بقاء هذه القوات لم يتجاوز عشر سنوات، وهي مدة غير كافية لإنشاء حقوق ملكية للغير في ميدان القانون الدولي. الحضور الصهيوني/الإسرائيلي ظل فاعلاً ومصراً على تغيير المعالم الجيوسراتيجية البرية والبحرية في هذه المنطقة التي تقع في مدخل خليج العقبة؛ نظراً لخطورتها المستقبلية على وجود الكيان الصهيوني نفسه. وظلت إسرائيل تتحرك في المحافل الدولية، واستطاعت فعلاً أن تسهم في تغيير بعض قواعد القانون الدولي الخاصة بالبحر الإقليمي في المعاهدة الموقعة في جنيف في سنة 1958م. وطبقاً لنصوص هذه المعاهدة جرى اعتبار مضيق تيران مضيقاً دوليا؛ بهدف أساسي هو: تمكين إسرائيل من الوصول إلى ميناء إيلات عبر المضيق، وترسيخ قوة الأمر الواقع بغطاء “قانوني”، وحرمان مصر، أو أي بلد عربي آخر من الانفراد بتنظيم قواعد الملاحة في المضيق، وبالتالي في خليج العقبة. وبذلك أنهت معاهدة جنيف حقاً تاريخياً توارثته الدول العربية الحديثة عن الدولة الإسلامية في عصر الخلافة. تحتاج قضية تيران وصنافير وما حولهما إلى بحوث تاريخية وقانونية واستراتيجية متعمقة يقوم بها خبراء ذوي خبرة واختصاص. ولا وجه أبداً للتسرع والخفة في مثل هذه القضايا ذات الحساسية المرهفة وطنياً ووجدانيا. وقد لفت نظري في مقالة نشرتها جريدة الحياة اللندنية(16 أبريل 2016) للأستاذ جمال خاشقي ما ذكره بخصوص ملاءمة توقيت الإعلان عن ترسيم الحدود وتبعية جزيرتي تيران وصنافير للسعودية، فقد ذهب إلى أن هناك أربعة أسباب تبرر هذا الإجراء. وأنا أنقل ما كتبه حرفياً وأضعه أمام مثقفي مصر ونخبتها القانونية والسياسية للتأمل فيه ملياً قال الأستاذ خاشقجي: “هناك أربعة أسباب تفسر ذلك:

أولها أن الوقت مناسب، فالعلاقة بين البلدين في أوجها، والرئيس عبدالفتاح السيسي يمتلك الشعبية والقدرة اللازمة لتمرير قرار كهذا،

والثاني، أن الرياض باتت القوة الأهم في المنطقة، وحان وقت تحمّل مسؤوليتها في تلك المنطقة الحساسة، التي تتمتع فيها إسرائيل بقوة ونفوذ لا تستحقه،

وثالثها، مشروع جسر الملك سلمان، الذي سيغير سياسة المنطقة واقتصادها وجغرافيتها، والأفضل أن تعود الجزر إلى السيادة السعودية التي تستطيع حماية هذا المشروع وتمريره، وآخرها هو ما بدأت به المقالة، أن الحدود الجيدة والواضحة، تصنع جيراناً جيدين، فلا أحد يعرف تحديداً ما الذي يحويه خليج العقبة وجنوبه من مكامن غاز ونفط يمكن أن تكون موضوع خلاف مستقبلي بين الأشقاء، إذا لم تكن هناك حدود واضحة”.(أ.هـ) .

من جانبي أتوجه للأستاذ خاشقجي، وهو معروف بدماثة الخلق والأدب الرفيع، بأن يسارع إلى الاعتذار لمصر والمصريين جميعاً عن هذه المبررات التي ساقها، لأن فيها من الإهانة وعدم اللياقة ما لا يرضاه هو لمصر ، وما لا نرضى قول مثله بحق الشقيقة السعودية.

ولنقرأ مرة أخرى بعض ما كتبه: “أن الرياض باتت القوة الأهم في المنطقة”، ولم يقل أنها “الأهم إلى جانب مصر، أو أنهما جناحا الأمة” مثلاً!، وقال أيضاً ” الأفضل أن تعود الجزر إلى السيادة السعودية التي تستطيع حماية مشروع جسر الملك سلمان وتمريره”، و”لا أحد يعرف ما الذي يحويه خليج العقبة وجنوبه من مكامن غاز ونفط يمكن أن تكون موضوع خلاف مستقبلي بين الأشقاء”؟!!.

هل هذا كلام يقوله من يكتب عن “حسن الجيرة”؟! ما سبق في هذه المقالة التي كتبناها لوجه الله والوطن والأخوة العربية، يعني جملة من الحقائق يتعين أن يضعها كل مصري وكل مصرية وكل مسئول في مصر نصب عينيه وأهمها:

1ـ أن مسألة تيران وصنافير ومضايق تيران وخليج العقبة، ليست مسألة محصورة فحسب في الجزيرتين والمضيق، وإنما هي مسألة ذات أبعاد تتعلق بصميم السيادة المصرية على أرضها، وتتعلق أيضاً بقضية “فلسطين كلها”. وأن الخطر الأكبر لا يتعلق بتبعيتها لمصر أو السعودية، وإن كان حسم هذه المسألة أمراً مهما، وإنما الخطر آت من جهة التخطيط الاستراتيجي الصهيوني الذي يسعى لتغيير المعطيات الجيوستراتيجية في المنطقة لصالحه، وعلى نحو يسلبنا حقوقنا التاريخية والدينية ومصالحنا الاستراتيجية وأمننا القومي .

2ـ أن الممر الصالح للملاحة من مضيق تيران يدخل بأكمله في نطاق المياه الإقليمية المصرية. حتى بافتراض أن مياهه ليست مياها داخلية. وبافتراض تبعية الجزيرتين للسعودية فمن غير الممكن التسليم لها بالممر الصالح للملاحة في المضيق لأنه جزء لا يتجزأ من مياه مصر الإقليمية، ومن ثم فإنها تخضع للسيادة المصرية، والسيادة لا يمكن التنازل عنها، كما أنها واحدة ودائمة ولا تتجزأ.

3ـ ضرورة الانتباه إلى أن معاهدة فرساي في سنة 1919م التي أعقبت الحرب العالمية الأولى، قد حددت الدول الوريثة للدولة العثمانية وهي: مصر، وبلاد الحجاز(ساعتها لم تكن المملكة قد نشأت)، ولبنان، والعراق، وشرق الأردن، وفلسطين. ولم يكن هناك شيء اسمه “إسرائيل”، فلا يمكن بالتالي التسليم لها لا بأم الرشراش، ولا بأي حقوق أخرى تتعلق بالملاحة في خليج العقبة ومداخله الجنوبية، ناهيك عن ادعاءاتها وأكاذيبها الخاصة بأرض فلسطين من البحر إلى النهر. وقد عرفنا أن خليج العقبة “خليج تاريخي” استمرت السيادة العربية الإسلامية عليه خلال قرون طويلة، فحكمه حكم البحر المغلق، ومياهه مياه داخلية خاصة بالدول العربية فقط، ووجود إسرائيل على شاطيء العقبة عمل غير مشروع ليس لها فيه أي سند قانوني.

4ـ إن ما تردد عن أن تبعية جزيرتي تيران وصنافير ومضيق تيران ستنتقل إلى المملكة العربية السعودية وهي محملة بكل الالتزامات المنصوص عليها في اتفاقية السلام المصرية الإسرائيلية، هو أمر يحوطه الغموض من جميع الجهات. وإذا رجعنا لكلام الأستاذ خاشقجي مثلاً، سيزداد الأمر غموضاً وغرابة. فهو لابد يعرف أن الجزيرتين والمضيق ضمن المنطقة “ج” منزوعة السلاح ويوجد بها قوات طوارئ دولية، وشرطة خفيفة التسليح بحسب معاهدة السلام؛ وعليه إذا كانت السعودية ستلتزم بهذه الالتزامات فما معنى كلام الأستاذ خاشقجي أن “الأفضل عودة الجزيرتين إلى السيادة السعودية التي تستطيع حماية مشروع جسر الملك سلمان وتمريره”؟؟. كيف تستطيع حماية الجسر بأفضل مما تستطيع مصر في ظل الالتزام بنفس الالتزامات الواردة في معاهدة السلام؟. ثم إننا نتساءل وأعيننا مفتوحة على آخرها:

هل انتقال الجزيرتين للسعودية (إن حدث) وهما محملتان بأعباء والتزامات معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية يعني فيما يعني دخول المملكة العربية السعودية بطريق غير مباشر في معاهدة سلام مع إسرائيل أيضاً، ودون تكلفة سياسية أو ضجة إعلامية؟؟.

ثم لماذا يا ترى عرضت إسرائيل موضوع تيران وصنافير على الكنيست للموافقة على ما توافقت عليه حكومتا مصر والسعودية؟؟!. 

5ــ إن الإجراءات التي تمت بشأن تيران وصنافير منذ حرب سنة 1973م، وتوقيع معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية في سنة 1979م، وحكم المحكمة الدولية بعودة طابا للسيادة المصرية، وكذلك المراسلات الدبلوماسية بين الحكومة المصرية والحكومة السعودية بشأن الجزيرتين منذ تسعينيات القرن الماضي وحتى اليوم؛ وغير ذلك مما تتداوله وسائل الإعلام المصرية والسعودية؛ كل ذلك يظل محكوماً بالمعطيات التاريخية والوثائق القانونية التي أوجزناها، ولا يصح أبداً أن تصبح تلك الإجراءات والتصريحات المستحدثة حاكمةً لتلك المعطيات والوثائق القانونية، فضلاً عن أن تكون ناسخة لها. فما سمعنا بشيء كهذا في سوابق القانون الدولي ولا في أحكام المحاكم الدولية. ألا هل بلغت، اللهم فاشهد. 
 



تنفيذ و استضافة وتطوير ميكس ميديا لحلول الويب تنفيذ شركة ميكس ميديا للخدمات الإعلامية 2023