شبكة رصد الإخبارية
follow us in feedly

انسوا سايكس بيكو.. معاهدة سيفر هي المعبرة عن الشرق الأوسط الحديث

انسوا سايكس بيكو.. معاهدة سيفر هي المعبرة عن الشرق الأوسط الحديث
قبل خمس وتسعين سنة من اليوم، اجتمع دبلوماسيون أوروبيون في أحد مصانع الخزف في باريس في ضاحية سيفر وقاموا بتوقيع معاهدة لإعادة تشكيل الشرق الأوسط بعد سقوط الامبراطورية العثمانية

قبل خمس وتسعين سنة من اليوم، اجتمع دبلوماسيون أوروبيون في أحد مصانع الخزف في باريس في ضاحية سيفر وقاموا بتوقيع معاهدة لإعادة تشكيل الشرق الأوسط بعد سقوط الامبراطورية العثمانية.

سرعان ما انهارت الخطة وبالكاد يتذكرها أحد اليوم، لكن اتفاقية سيفر قصيرة العمر، والتي لا تقل عن اتفاقية سايكس بيكو التي طالما أثير حولها الكثير من الجدل، لا تزال آثارها موجودة حتى الآن.

ربما يكون من الجيد أن نذكر القليل منها مع اقتراب ذكرى هذه المعاهدة، في عام ١٩١٥، وبينما كانت القوات البريطانية تستعد للسير إلى اسطنبول عبر طريق شبه جزيرة جاليبولي، قامت الحكومة بطباعة مناديل حرارية تبشر بنهاية الامبراطورية العثمانية .

 ربما كان هذا سابق لأوانه “فقد كانت معركة جاليبولي أحد الانتصارات القليلة للامبراطورية العثمانية خلال الحرب العالمية الأولى” ولكن بحلول عام ١٩٢٠، تبين أن ثقة بريطانيا كانت مبررة: فبمجرد دخول قوات الحلفاء العاصمة العثمانية، قام ممثلو حكومات القوى المنتصرة بتوقيع اتفاقية مع الحكومة العثمانية المهزومة لتقسيم أراضي الامبراطورية إلى مناطق نفوذ أوروبية، فتم تدويل اسطنبول ومضيق البسفور، كما تم منح قطع من أراضي الأناضول لليونانيين والأكراد والأرمينيين والفرنسيين والبريطانيين والإيطاليين، وفقا لمعاهدة سيفر.

عندما نعرف كيف ولماذا فشلت الخطة الأوروبية الأولى لتقسيم الشرق الأوسط، عندها يمكننا أن نفهم بشكل أفضل حدود المنطقة الحالية، وكذلك التناقضات القومية الكردية المعاصرة، والتحديات السياسية التي تواجه تركيا الحديثة. 

وخلال عام من توقيع الاتفاقية بدأت القوى الأوروبية في إدراك أنها قد اقتطعت أجزاء أكبر مما تستطيع التحكم به، قام مصطفى كمال أتاتورك بالإضافة إلى ضباط آخرين بالجيش العثماني بإعادة تنظيم ما تبقى من الجيش العثماني لمقاومة الاحتلال الأجنبي، وبعد عدة سنوات من القتال، تمكنوا من طرد الجيوش الأجنبية التي كانت تحاول فرض بنود هذه المعاهدة، وكانت النتيجة هي تركيا التي نعرفها اليوم، والتي تم تحديد حدودها الحالية رسميا في معاهدة لوزان عام ١٩٢٣.

لم تعد معاهدة سيفر تذكر في الغرب، لكن لايزال لها تراث قوي في تركيا، حيث ساعدت في تشكيل نوع من البارانويا القومية التي يسميها بعض العلماء “متلازمة سيفر”.

تلعب فسيفر دورا هاما في الحساسية التركية للنزعة الإنفصالية الكردية، وكذلك الاعتقاد بأن الإبادة الجماعية للأرمن – التي اتخذها الدبلوماسيون الأوروبيون ذريعة لتبرير خططهم للأناضول عام ١٩٢٠ – كانت دائما مؤامرة ضد تركيا عوضا من كونها حقيقة تاريخية.

وبالإضافة إلى ذلك، فقد ترك النضال التأسيسي لتركيا ضد الاحتلال الاستعماري أثره على شكل القومية المناهضة للامبريالية التي تم توجيهها في البداية ضد بريطانيا، ثم ضد روسيا خلال الحرب الباردة، والآن ضد الولايات المتحدة في كثير من الأحيان. 

لكن تركة معاهدة سيفر تمتد لما هو أبعد من تركيا، ولهذا يجب أن نضع هذه المعاهدة جنبا إلى جنب مع سايكس بيكو في تاريخ الشرق الأوسط، وسوف تساعدنا في دحض الفكرة الشائعة عن أن كل مشاكل المنطقة قد بدأت برسم الأوروبيين الحدود على خريطة فارغة. 

لا شك أن الأوروبيين كانوا سعداء بإنشاء حدود تتماشى مع مصالحهم متى تمكنوا من ذلك، لكن فشل معاهدة سيفر يثبت أنهم لا يستطيعون فعل ذلك أحيانا.

فعندما أرادت الحكومات الأوروبية إعادة رسم خريطة الأناضول، لم تنجح جهودهم، لكنهم نجحوا في الشرق الأوسط في فرض الحدود لأنهم امتلكوا القوة العسكرية للهيمنة على الشعوب المقاومة لهم، فلو نجح القومي السوري يوسف العظمة، وهو ضابط عثماني آخر، في تكرار الجناح العسكري لأتاتورك، ونجح في هزيمة الفرنسيين في معركة ميسلون، لكانت الخطط الأوروبية للشام فشلت بنفس الطريقة التي فشلت بها سيفر. 

هل كان ترسيم الحدود بشكل مختلف ليجعل الشرق الأوسط أكثر استقرارا؟ أو ربما أقل عرضة للعنف الطائفي؟ ليس بالضرورة.

لكن النظر للتاريخ بنفس نظرة معاهدة سيفر يوضح أن هناك فكرة أعمق عن علاقة السبب والنتيجة بين الحدود التي رسمها الأوروبيون وعدم استقرار الشرق الأوسط: فقد كانت المناطق التي تم فيها فرض الحدود المرسومة من قبل الأروبيين هي الأضعف والأكثر فوضى والأقل قدرة على مقاومة الاحتلال الاستعماري الأوروبي بنجاح.

لم تصبح تركيا أكثر ثراء أو ديموقراطية من سوريا والعراق لأنها امتلكت الفرصة للحصول على حدود أفضل، إلا أن العوامل التي مكنت تركيا من التصدي للخطط الأوروبية ورسم حدودها بنفسها – بما فيها الجيش والاقتصاد والبنية التحتية التي ورثتها عن الإمبراطورية العثمانية- كانت هي نفس العوامل التي مكنت تركيا من بناء دولة قومية قوية ومركزية على الطراز الأوروبي.

بالطبع قد يقول القوميون الأكراد أن الحدود التركية قد رسمت بشكل خاطئ، وقد استشهد البعض بالفعل بحالة انعدام الجنسية لدى الأكراد كخطأ قاتل في طريقة رسم الحدود بعد انهيار الامبراطورية العثمانية، ولكن عندما حاول الامبرياليون الأوروبيون إنشاء دولة للأكراد ضمن معاهدة سيفر، قاتل كثير من الأكراد إلى جانب أتاتورك لإفشال المعاهدة، وهذا تذكير بأن التحالفات السياسية تتخطى الهويات القومية. 

كان من المقرر أن تخضع الدولة الكردية المتصورة في معاهدة سيفر للسيطرة البريطانية، وبالرغم من أن بعض القوميين الأكراد قد تقبلوا هذا، إلا أن آخرون رأوا أن هذا “الاستقلال” الخاضع للسيطرة البريطانية مثير للمشاكل، لذلك اتحدوا مع الحركة القومية التركية.

فقد كان استمرار الحكم التركي أو العثماني أفضل لدى الأكراد المتدينين من الاستعمار المسيحي، إلا أن بعض الأكراد، ولأسباب عملية، كانوا يشعرون بالقلق من أن البريطانيين فور تمكنهم من الهيمنة سوف يدعمون الأرمن الذين يسعون إلى العودة إلى منطقة، لكن البعض قد ندموا على قرار الانحياز للأتراك حيث أن الدولة التي قاتلوا من أجلها قد أصبحت دولة تركية أكثر – وأقل تدينا – مما كانوا يتوقعون. لكن آخرون، تحت درجات متفاوتة من الإكراه، اختاروا قبول الهوية التي منحتهم إياها الدولة الجديدة. 

ولا يزال كثير من القوميين الأتراك تخيفهم الطريقة التي تم تدمير دولتهم بسبب معاهدة سيفر، بينما لا يزال يتخيل آخرون الدولة التي ربما كانوا يعيشون فيها الآن، وفي نفس الوقت لا تزال الحكومة التركية الحالية تمجد مناقب التسامح العثماني والتعددية الثقافية، بينما يزعم الزعيم الانفصالي الكردي عبدالله أوجلان، ربما بعد قراءته لعالم الإجتماع بنديكت أندرسون، أنه اكتشف أن كل الأمم ما هي إلا بنى ثقافية.

وقد قضى حزب العدالة والتنمية الحاكم وحزب الشعب الديموقراطي الموالي للأكراد العقد الماضي في محاولة إقناع الناخبين الأكراد أن التصويت لصالح حزبهم هو تصويت للسلام – وتتعلق المنافسة بينهما بقدرة كل حزب على حل الصراع التركي المحتدم الذي استمر لفترة طويلة من خلال إنشاء دولة مستقرة تتسع للجميع. وباختصار، بينما لايزال هناك جدل في الولايات المتحدة حول الطبيعة “المصطنعة” للدول التي أنشأتها أوروبا في الشرق الأوسط، فإن تركيا تحاول جاهدة تجاوز محاولاتها المتعثرة التي استمرت لقرن كامل لاثبات كونها دولة “حقيقية”. 

لا داعي للقول بأن أعمال العنف المتجددة التي شهدتها تركيا خلال الأسابيع الماضية يهدد تلك العوامل الهشة لإجماع ما بعد القومية، ففي ظل دعوة حزب العدالة والتنمية إلى اعتقال القيادات السياسية الكردية، وفي ظل قيام المسلحين الأكراد بإطلاق النار على الضباط الأتراك، يقع القوميون في كلا الجانبين في مأزق مألوف يصعب الخروج منه، فعلى مدار ٩٥ عاما، حصدت تركيا الفوائد السياسية والإقتصادية لانتصارها على معاهدة سيفر، لكن البناء على هذا الانتصار الآن يتطلب تبني نموذجا سياسيا أكثر مرونة، نموذج يساعد على إيقاف الصراع على الحدود والهوية القومية. 

 



تنفيذ و استضافة وتطوير ميكس ميديا لحلول الويب تنفيذ شركة ميكس ميديا للخدمات الإعلامية 2023