(1)
قبل أكثر من عامين، تعرّفت على أحد الشباب في السجن. كان يعمل في أعمال الخدمات والنظافة للسجن والعنابر، بجانب خدمة بعض المساجين وكبار السن بمقابلٍ بسيط. وبالطبع خدمة مجانية إضافية إجبارية لضباط السجن.
كان هادئاً ومهذباً، ويتجنّب المشكلات قدر الإمكان، ويحاول قضاء فترته على خير. سألته عن قصته في أحد الأيام، فحكى لي إنه كان يعمل في أعمال الدهانات والنقاشة، بعد إنهاء تعليمه في المدرسة الصناعية، وكانت الحال ماشية ومستورة. لكن، مع الوقت، ندرت الأعمال وازدادت الأسعار توحُّشاً. ومع وفاة الأب، اسودّت الدنيا أمامه بالكامل، فزادت أعباء المعيشة، وتراكمت طلبات أخواته البنات، فتغيرت حياته، كما هي القصة المعروفة.
تعرّف على بعض الشباب التائه مثله. أقنعوه بأنه طالما لا يوجد مصدر للدخل، وطالما أن العمل أصبح نادراً، فتوجد طرق أخرى لزيادة الدخل، وبعض أعمال السرقة الخفيفة في الشارع لن تضرّه في شيء، إذا كان سريع البديهة وقوي الساقين واليدين. للأسف، جاراهم، وبدأ في المتابعة والمساعدة الخفيفة لأنشطتهم، ومع الوقت وجد نفسه اعتاد السرقة بالإكراه.
وفي إحدى المرات، تم القبض عليه وتم الحكم عليه بقضاء ثلاث سنوات في السجن، بالإضافة إلى قضاء ثلاثٍ أخرى تحت المراقبة. لم يتعجب أو يتذمر، إذ كان يتوقع هذه النهاية، منذ أن بدأ هذا الطريق المعوجّ، ولكنه ندم ندماً صادقاً داخل السجن، وقرّر أن يبتعد عن أي أنشطةٍ إجراميةٍ، أو كل ما يضعه تحت طائلة القانون، عندما يخرج من السجن مرة أخرى، سيحاول بكل جهده أن يواصل الليل بالنهار في العمل من أجل مصروفات المعيشة له ولأمه ولأخواته، بدلا من السجن والذل والمهانة.
طلب مني أن أساعده في العثور على عمل، بعد أن يخرج من السجن، وأجبته أني سأحاول، وتم الإفراج عنه بالفعل في صيف 2015. وكنا جميعاً متفائلين له، وآملين أن تتحسّن أحواله. وبعد أسابيع، بدأ في التواصل مع بعض حرّاس السجن، يطلب منهم أن يسألوني، أو أن يسألوا أياً من الزملاء، إن كان أحدنا يستطيع توفير فرصة عملٍ له، حتى يستطيع الإنفاق على عائلته، وتعويض ما فات، وسدّ أي ثغراتٍ قد تعيده إلى الطريق السيىء مرة أخرى، فبدأ في السؤال، عبر الزيارات الأسبوعية، إن كان هناك أحد الأصدقاء يستطيع توفير فرصة عملٍ لشاب يبحث عن الدخل الحلال والاستقرار ومساعدة عائلته. وبعد أسابيع، أجابني بعضهم أنه توجد بعض فرص العمل الضئيلة للعمل على “توكتوك” أو في أحد المقاهي حتى إشعار آخر. ولكن، كانت المفاجأة أن هذا الشاب لا بد أن يبيت يومياً في قسم الشرطة في محافظة المنوفية؛ حيث يجب عليه أن يقضي ثلاث سنوات في المراقبة الوجوبية في قسم الشرطة. ولذلك، من الصعب أن يعمل ويتحرّك خارج محافظة المنوفية. وعليه أن يجد عملاً مناسباً في الصباح بجوار قسم الشرطة، حيث يبيت في الليل، وحيث يتم إجباره على تنظيف القسم وخدمة ضباط القسم.
لا أعلم مصير هذا الشاب الآن، وماذا فعل في مشكلة البحث عن عملٍ في الصباح بالقرب من قسم الشرطة الذي عليه أن يقضي فيه نصف يومٍ تحت المراقبة والذل. ولكن، بالتأكيد لا أعتقد أن حاله جيد، والله أعلم.
(2)
في ديسمبر/ كانون الأول 2013، كان موعد النطق بالحكم على أحمد ماهر وأحمد دومة ومحمد عادل في قضية التظاهر أمام محكمة عابدين في القاهرة. في أثناء التحقيق مع أحمد ماهر، على خلفية قضية التظاهر أمام مجلس الشورى، حكم بالسجن المشدّد ثلاث سنوات بالإضافة للمراقبة ثلاثاً أخرى وغرامة 50 ألف جنيه. وكان هذا أول حكم يصدر على خلفية قانون التظاهر الجديد وقتها، وكان مفاجئاً بالطبع، واعتبره بعضهم وقتها قاسياً قبل أن تزداد عدد السنوات كعقوبة في قضايا قانون التظاهر بعد ذلك، والتي وصلت الآن إلى السجن المؤبد لمجرد مظاهرةٍ بسيطة لم يتضرّر فيها أحد.
بعد الضجة ورد الفعل الذي حدث في القاعة، بعد الحكم، وبعد دخولنا سيارة الترحيلات، قال لي أحمد دومة أنا لا أعير الحكم بالسجن اهتماماً بقدر ذلك الحكم الغريب بالمراقبة ثلاث سنوات، مثل أي لص أو مسجل خطر “دول بيبهدلوا الجنائيين في القسم، وبيخلوهم يمسحوا ويكنسوا”. ابتسمت وقتها، وقلت له: لا أعتقد أن ذلك سيحدث معنا، ولا أعتقد أن المراقبة سيتم تنفيذها، وإن تم تنفيذها بالتأكيد ستكون مختلفة، وليست بالتشديد والتضييق نفسهيما.
(3)
في العام الأول للسجن، كان مسموحاً ببعض الخطابات من الأهل والأصدقاء، قبل أن يمنعوا أي مراسلات لي، على الرغم من أن المراسلات مسموح بها في لائحة السجون، ومن حقوق
السجين الأساسية، ولكنها التعليمات العليا. ولكن، في رسائل العام الأول، كان بعض الأصدقاء يحاولون التخفيف عني بوصف الوضع السيىء الذي أصبح خارج السجن، وكيف أن هامش الحرية يضيق كل يوم، وكيف أنه أصبح من السهل أن يتم الحبس سنواتٍ عديدة، لمجرد تصريح أو تعليق على “النت”، وكيف أن سجن طرة هو السجن الصغير، وأن مصر أصبحت سجناً كبيراً.
بصراحة، كانت هذه العبارة وقتها تستفزّني أشد الاستفزاز، فكيف تكون هناك مقارنة بين الحياة داخل السجن وخارجه، فمهما كانت درجة تقييد الحريات خارج السجن فهي لا تقارن بالحياة داخل السجن، حيث لا ترى سوى الحوائط وسقف الزنزانة طول الوقت، حيث الصمت والوحشة.
(4)
مبروك الحرية.. أعتقد أنها عبارة غير دقيقة، ربما الأدق أن يقال لي مبروك الخروج من السجن الصغير إلى السجن الكبير، حيث استكمال العقوبة “بنصف سجن” في قسم الشرطة.
حبْس جزئي (part time) مثل الدوام الجزئي لنصف الوقت، أو “الوظيفة بارت تايم” التي أحاول البحث عنها الآن لتوفير الوقت، فنصف اليوم في الحبس والنصف الآخر للعائلة والالتزامات المتأخرة ثلاث سنوات. وكما أن “الحبس بارت تايم”، فعليّ أن أجد كذلك “وظيفة بارت تايم” لـ “حياة بارت تايم”.
أشعر الآن أكثر مدى معاناة الجنائيين الذين تزيد شروط المراقبة من معاناتهم، وكثيراً ما تؤدي إلى كراهيتهم المجتمع وكفرهم بكل شيء. أعتقد أنه يجب أن أبحث عن زميلي السجين الجنائي السابق الذي حاول التصالح مع المجتمع، ولكن، أعاقته المراقبة. يا ترى، هل نجح في الاندماج مرة أخرى في المجتمع، أم عاد إلى السجن مرة أخرى بجريمةٍ جديدة؟ هل استطاع أن ينجو، ويتحوّل إلى إنسان طبيعي، أم حوّلته المراقبة مجرماً حقيقياً؟
كان أحمد دومة على حق، عندما كان قلِقا من حكم المراقبة أكثر من قلقه بحكم السجن المشدّد. وأعتقد الآن أن عبارة السجن الكبير دقيقة في وصف ما أنا فيه.
نصف حبس.. نصف حرية.. نصف وظيفة لنصف الوقت.. نصف فرحة لنصف حياة، هذا ما يتوافق مع المثل المصري القائل “نصف العمى ولا العمى كله”.