يواجه العالم العربي بلا شك مشكلات متعددة جراء تزايد النفوذ والتدخلات الإيرانية في عدة عواصم عربية من جهة، وتصاعد ظاهرة التطرف العنيف من جهة أخرى. ولا شك أيضا أنه يحق لكل دولة -بل يجب عليها- اتخاذ كافة السياسات والتدابير لمعالجة هذه المشكلات.
إلا أن ضعف الحكومات العربية وتفرقها، وعدم قدرتها على تطوير سياسات عربية مؤثرة دون الاعتماد على تحالفات أو تفاهمات إقليمية أو دولية، هو سبب أساسي من أسباب تلك المشكلات.
التحدي الإيراني
لقد كان تأييد إيران للمقاومتين اللبنانية والفلسطينية ورفع شعارات تحرير فلسطين مصدر فخر واعتزاز لدى كثير من العرب. لكن منذ ثورات 2011 العربية اختارت الحكومة الإيرانية مصالحها الضيقة، ومعاداة الشعوب العربية التي خرجت من أجل مطالب الحرية والعدالة والكرامة.
ولئن كان لإيران -كما لكل الدول الأخرى- الحق في حماية أمنها وشعبها ومصالحها، فإنه يجب ألا يتم هذا عبر ما تقوم به إيران اليوم في المنطقة، من سعي -بكل السبل الممكنة- إلى مد مناطق نفوذها في المشرق كله، وتعزيز برامج التشيع، وإنشاء المليشيات الطائفية والدفع بها إلى الدول العربية المجاورة.
وإيران -التي ينص دستورها على أنها المدافع الأول عن المظلومين في العالم- صارت تمارس سياسة فرق تسد في الدول المجاورة. وبعد أن سيطرت على العراق وكانت سببا أساسيا في ظهور الطائفية المدمرة هناك، انتقلت إلى سوريا واليمن لتكرار ذات السياسات، وبهدفٍ صار معلنا هو فرض السيطرة الفارسية على العرب، كما صرح بذلك بعض قادتها.
وتتحالف إيران في سياستها تلك مع الروس، وتساعدهم على ضرب الشعب السوري بالطائرات والصواريخ والأسلحة الكيميائية والبراميل الحارقة بحجة محاربة الإرهاب الداعشي، وسط تواطؤ وصمت من معظم أعضاء الجماعة الدولية. وتجند عشرات الآلاف -من ملايين الشيعة اللاجئين إليها من أفغانستان وباكستان- وتدفع بهم إلى آلة القتل الرهيبة في سوريا.
ومنذ فترة نُقل عن المتحدث باسم الحرس الثوري أن هناك ما يسمى “كتائب الثورة بالخارج”، وقيادة مشتركة جديدة لما أسماها “قوات الثورة الإيرانية بالخارج” تشمل العراق وسوريا واليمن. فهل ترضى إيران بأن تكون هناك كتائب عربية مهمتها العمل داخل إيران؟
أما ظاهرة الإرهاب فقدت امتدت حتى صار القتل واستهداف الأبرياء خبرا اعتياديا في سوريا والعراق واليمن وليبيا ومصر وتونس وغيرها. وباسم محاربة الإرهاب تم اجهاض الثورات العربية، وغلق قنوات التعبير السياسي السلمية، ومحاصرة الأحزاب والمجتمع المدني والمنظمات الحقوقية.
وبحجة تجفيف منابع الإرهاب المالية والفكرية تمت أيضا ملاحقة المنظمات الخيرية الإسلامية، وتغييب الإسلام والرموز الإسلامية من المناهج التعليمية، ومحاصرة المؤسسات والمعاهد الإسلامية.
وتسابقت الحكومات في ملاحقة كل الحركات أو التنظيمات التي تنطلق من المرجعية الإسلامية؛ فقسمت المجتمعات ورسخت الاستقطابات، وأرسلت الآلاف إلى المعتقلات والمنافي. إن ظاهرة الإرهاب ليست ظاهرة محلية صرفة حتى ينظر إليها على أنها محور سياسات المنطقة.
نعم هناك غلو عند البعض في فهم الدين وفي التفسيرات الانتقائية للنصوص، لكن الظاهرة مرتبطة أيضا بموازين القوى القائمة، ومطامع قوى إقليمية ودولية تحاول استخدام الإرهاب لإتمام السيطرة على المنطقة، وتمرير مشاريع التقسيم والهيمنة، ولا يمكن أبدا تجاهل دور بعض الأجهزة الأمنية في اختراق جماعات الغلو تلك بل والإقليم كله.
التحديات الغائبة
لن يمكن التصدي لهذا التمدد الإيراني ولا للتطرف العنيف إلا باستماع الحكومات العربية لكل الأصوات التي بُحّت منذ سنوات بل عقود، والتي تطالب بالقيام بمراجعات عميقة لسياسات الحكومات العربية تجاه شعوبها وتجاه التحديات المصيرية التي تواجههم.
فبدون هذه المراجعات العميقة لن ينهض العرب ولن يمكن لهم تحقيق بقية الأهداف الأخرى المتعلقة ببناء الإنسان، وتحقيق برامج التنمية والنهوض بالتعليم والصحة والصناعة وغيرها. وهذه التحديات المصيرية هي أربعة تحديات إلى جانب قضيتنا الفلسطينية المركزية:
التحدي الأول: ممارسة السلطة: تكاد كل شعوب الأرض في المغرب والمشرق تتجاوز مسألة احتكار السلطة. لقد حان الوقت لأن تتقوى الحكومات بشعوبها، وتؤسس دولة المؤسسات، وتقر مبدأ التعددية السياسية، لأسباب مبدئية ونفعية في ذات الوقت، فإنجاز هذه الأمور سيعزز قوة وفعالية الجميع أفرادا وجماعات وحكومات داخل كل قطر عربي وعلى المستوى العربي العام.
التحدي الثاني: المشاركة في العمل العام وإعادة الثقة بين المواطن والسياسة: لقد آن الأوان لإعادة الاعتبار للسياسة كسلوك بنّاء لتحقيق المصلحة العامة، ولتقوية مجتمعاتنا وحكوماتنا العربية بمواطنين يمتلكون الوعي والانتماء والمسؤولية. وحان الوقت لإتاحة وتشجيع العمل العام والمشاركة أمام الجميع، عبر كافة الأدوات السلمية وعلى كافة المستويات الطلابية والنقابية والمهنية والسياسية.
التحدي الثالث: اللامساواة والامتيازات: حان وقت التخلي عن كافة السياسات التمييزية ونبذ عقلية الامتيازات، وإقرار وإعمال مبدأ المساواة في الحقوق والواجبات أمام القانون، وحان وقت تبني إستراتيجيات تنمية اقتصادية حقيقية، وضخ الجزء الأكبر من الاستثمارات الضخمة التي توجه للغرب نحو ترقية القرى والمدن العربية الفقيرة.
وكذلك القضاء على الجهل والأمية، وبناء قاعدة صناعية عربية، وتمويل عمليات إعادة البناء في الدول التي دمرتها الحروب، ودعم الأقليات المسلمة المضطهدة في آسيا وأفريقيا، وتقوية الجاليات العربية والإسلامية في الغرب والشرق.
التحدي الرابع: ضعف السياسات الخارجية العربية: وهذا التحدي هو في الواقع نتيجة حتمية للتحديات الثلاثة السابقة. فلا سياسة خارجية مؤثرة لحكومات ضعيفة تواجه مجتمعات وشعوبا غاضبة ولا تشعر بالانتماء، ولا يمكن تغيير موازين القوة المختلة في المنطقة دون تغيير موازين القوة المختلة داخل العواصم العربية.
وسياسات التحالف -مثلها مثل سياسات الاستثمار والتجارة مع الخارج- لا بد من أن تكون عربية/عربية، ونتاجا للعقول العربية، ولتحقيق مصالح عربية في المقام الأول.
التحدي الخامس: مواجهة المشروع الصهيوني: وهو أخطر التحديات على الإطلاق؛ فلن تحل مشكلة فلسطين إلا بعد معالجة جوهر المشروع الصهيوني ذاته، وإزالة صفتيْ العنصرية والكولونيالية التي يتسم بهما. وبدون هذا لن يكون هناك أي معنى لحل الدولتين أو حل الدولة الواحدة أو أي حل آخر.
المسألة ليست مسألة أراضٍ متنازعٍ عليها وليست مسألة أمن فقط، وإنما هي مسألة كيان أبارتهايد قائم على التمييز على أساس الدين، واحتلال الأراضي، وتزوير التاريخ والجغرافيا، واختراق المجتمعات. ولن تقوم للعرب قائمة إذا قدّموا تنازلات مجانية لهذا الكيان أو ظنوا أن التحالف معه سيحل مشكلاتهم الأخرى.
تغيير السياسات
إن المنطقة يراد لها من أطراف عديدة الدخول في صراعات وحروب مدمرة لسنوات وعقود، من أجل الإفناء الذاتي المتبادل للقدرات والجيوش العربية والإيرانية والتركية. والسياسات الإيرانية الحالية تساعد في هذا الاتجاه، كما أن ضعف الحكومات والسياسات العربية الحالية يساعد أيضا في هذا الاتجاه.
والسبيل الأول لخروج العرب من محنهم الراهنة ووقف مسلسل الانهيار والاندثار والخروج من التاريخ، هو تغيير معادلة الحكم داخل العواصم العربية نحو الاستقواء بالشعوب، وتغيير طبيعة السياسات العربية/العربية لتحقيق المصالح العربية أولاً.
تحتاج المنطقة إلى الكف عن الاستهتار بقدرات الشعوب والإصرار على إقصائها، وإلى إقرار عدة مبادئ والعمل على تفعيلها على أرض الواقع.
يحتاج كل قطر عربي إلى نبذ احتكار السلطة، وإقرار مبدأ التعددية السياسية، وإتاحة حرية العمل العام والمشاركة السياسية، وإسقاط دولة الامتيازات واللامساواة، وإقرار وتفعيل إستراتيجيات عمل جماعية تُرسي شراكة عربية حقيقية، وتقيم تحالفات عربية مؤثرة تعمل على تحقيق المصالح الوطنية والعربية.
كما تحتاج الحكومات العربية إلى بناء إستراتيجيات تفاهم وتعايش وتبادل للمصالح المشتركة مع القوتين المسلمتين الجارتين: الإيرانية والتركية. هكذا تفعل جل شعوب الأرض في أوروبا وفي أميركا اللاتينية وآسيا، رغم ما كان بين الكثير منها من عداء وصراعات وحروب.
هذه المبادئ والسياسات لا مفر منها لأنها الطريق الوحيد لدفع الآخرين دفعا إلى احترامنا والتعامل بندية معنا، وللحفاظ على كرامتنا وثرواتنا ومستقبلنا، كما أنها هي السبيل الأوحد لمواجهة عنصرية المشروع الصهيوني والإرهاب الذي يمارسه في الأراضي المحتلة. إننا في عالم لا يحترم إلا الأقوياء ولا مستقبل فيه لأي دولة تعمل منفردة دون التعاون مع شركائها في مجالها الحيوي والطبيعي.