منذ أواخر القرن التاسع عشر وكرة القدم عاملٌ رئيسٌ في تاريخ منطقتي الشرق الأوسط وشمال إفريقيا وتطورهما، لكنه توقّف في 2014 بعد أن اكتسبت الثورة المضادة التي تقودها السعودية زخمًا، وتسارعت المنافسة الإقليمية بينها وبين إيران، وأصبح الانشقاق السياسي في دول الخليج واضحًا.
هذا ما يراه الكاتب الأميركي المتخصص في شؤون الشرق الأوسط «جيمس دورسي» في مقاله بصحيفة «إنترناشيونال بوليسي دايجست» وترجمته «شبكة رصد»، مضيفًا أنّ التاريخ الطويل والدرامي للتداخل بين الرياضة والسياسة في الشرق الأوسط احتلّ مواقع متأخرة، ولم يبدأ إلا بعد تداعيات ثورات الربيع العربي في 2011.
وعلى النقيض من أماكن أخرى في العالم يستخدم فيها الحكام والسياسيون كرة القدم لتحقيق أهداف سياسية؛ ارتكزت الرياضة في الشرق الأوسط بشكل عام على الولاء للنظام في مقابل النضال من أجل الهوية والاستقلال والحرية وحقوق الإنسان وحقوق العمل.
وأثبتت كرة القدم في الشرق الأوسط وإفريقيا قدرتها على أن تكون محرّكًا اجتماعيًا وسياسيًا وليست مساهمة تقتصر على بناء الجسور والمساهمة في السلام، بقدر ما أثارت انقسامات ومواجهات؛ على سبيل المثال أثناء ثورة 1919 في مصر استخدمت الرياضة للتعبير عن النضال من أجل الاستقلال، وهو ما حدث أيضًا مع اليهود الفلسطينيين والجزائريين.
وتبحث الرياضة عن الحداثة في تركيا وإيران، وفي 2011 وما بعدها كانت الرياضة في مواجهة الثورات المضادة المستوحاة من الإمارات والسعودية، واُستُخدم أيضًا حق استضافة كأس العالم 2022 في المواجهة بين دول الخليج في الأزمة القطرية؛ وفي النهاية معركة الهيمنة على النفوذ بين إيران والسعودية.
لكنّ الأزمة الخليجية الأخيرة مثّلت بداية سحق الاحتجاجات الطلابية ومشجعي كرة القدم. وقبلهم في مصر، بعد الانقلاب العسكري في 2013، لم تعد الرياضة مؤشرًا مفيدًا في تحليل التطورات بالمنطقة؛ خاصة بعد أن تحوّلت الملاعب والجامعات لقلاع أمنية لحماية السيسي.
تمثّلت الجولة الأولى من الأزمة الخليجية في 2014 بسحب السعودية والإمارات والبحرين سفراءهم من الدوحة، ثم تصاعدت الحرب الأهلية في سوريا، وصعد ابن سلمان على رأس السلطة في المملكة وأدخل تغيّرات عليها، وتصاعد التنافس الإقليمي بين السعودية وإيران، إضافة إلى حروب الوكالة المرتبطة بهما، ثم انتهت بمقاطعة دبلوماسية واقتصادية، ودخلت كرة القدم على خط الأزمة، والاتهامات التي وجهت لقطر بدفع رشاوى جراء استضافتها الحدث الكروي.
وعلى المستوى المصري، عكست كرة القدم تطورات؛ أبرزها استخدام الملاعب لقمع الاحتجاجات ضد السيسي، بعد أن حاول مرارًا إقامة صلات مع الأولتراس وفشل. وبالرغم مما واجه المشجعون من قمع؛ فإنهم استمروا في ذرع بذور النضال إلى أن سُجن منهم العشرات وحكم عليهم بالسجن، وينتظر عديد منهم المحاكمة الآن.
كما استخدمت الأندية المصرية والاتحاد المصري كرة القدم في الحشد لإعادة انتخاب عبدالفتاح السيسي هذا العام، واستخدم الكرة أداة رئيسة في جنونه الذي أطلقه على البلاد، ومثّل صعود مصر إلى كأس العالم مشاعر مختلطة بين الدور الداخلي لكرة القدم واستخدام الكرة في تعزيز النظام القمعي، وبين الفرحة العارمة التي أصابت المصريين بعد تأهّل منتخبهم لكأس العالم.
وبالمثل، اكتسبت دبلوماسية كرة القدم بين السعودية والعراق مكانة كبرى في الماضي، وبالرغم من الأزمة الخليجية، أثبتت الكرة أنها الوتد الذي يدفع بالتغيير والإصلاح؛ وهو ما حدث في قطر، التي أجبرتها الفيفا على إجراء إصلاحات اجتماعية واقتصادية لقوانين العمل والعمالة الوافدة شرطًا أساسيًا لاستضافة مبارايات كأس العالم 2022، ومثّل الحدث عمق الخلاف بين السعودية والإمارات مع قطر، وتبادل الطرفان الاتهامات المختلفة.
ويعود الدور السياسي لكرة القدم إلى القرن الخامس في روما؛ إذ حرص الأباطرة على حضور مباريات كرة القدم لتعميق الروابط مع شعوبهم، ولم يكتفوا بمباريات الكرة؛ بل استخدموا سباقات الخيول والعربات وما إلى ذلك، وحينها ظهرت مجموعات شبيهة بالأولتراس للمطالبة بحقوق سياسية.
ومنذ حينها أدرك الرومان أهمية الملاعب والأحداث الرياضية الهامة، إضافة إلى إدراك مخاطرها. وفي عالم اليوم المعاصر، كثيرًا ما يُنظر إلى كرة القدم، لا سيما في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، على أنها مقياس لمزاج الجمهور ومؤشر للاتجاهات السياسية والاجتماعية، كما تعد منصات للتنفيس العام عن الإحباط والغضب المكبوت، بجانب المظالم الأخرى.
ومثّلت روما مثالًا مبكرًا لإثبات قوتها السياسية؛ وهو ما اتضح من ثورة نيكا (عام 532 ميلاديًا) الأكثر عنفًا في تاريخ القسطنطينية، وانطلقت من حدث رياضي؛ عندما قام الغجر ومجموعات تطلق على نفسها «الخضر» أعمال شغب استمرت أسبوعًا، ودمّروا كثيرًا من المدينة ونجحوا في إجبار الإمبراطور البيزنطي «جنستان الأول» على الاستقالة.
ويبدو أنّ المستبدين العرب المعاصرين عازمون على منع أندية الكرة من أن تصبح حاكمًا ومراقبًا على السلطة السياسية، على غرار ما حاول الرومان بعد ذلك فعله. ولا يبدو حاليًا أنّ الرأي العام العربي، خاصة في الخليج، قادر على التعبير عن رأيه السياسي أثناء مباريات كرة القدم، أو منح الجمهور درجة من السيادة لتقويض موقف الحكام؛ بل يصر هؤلاء المستبدون على اعتبار أنفسهم الآباء، لكنهم آباء استبداديون. ومثلما أكّد الباحث الفلسطيني «هشام شرابي»، فالأنظمة الحاكمة في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا دائما ما تصوّر نفسها على أنها نظام أبوي.
ومثّلت كرة القدم أداة جيدة للأوتوقراطيين الجدد، الذين يحاولون فرض قيمهم البائدة على جماهير الملاعب، وتأكيد التفوق الذكوري في معظم جوانب الحياة، والسيطرة على الأنثى وتسخير شهوتها، مستخدمين شعبية اللعبة أداة للقوة الناعمة المثالية للنفوذ الرياضي العابر للحدود؛ وهو ما حدث في حقبة الاستعمار والحرب الباردة، واستخدمت أميركا والاتحاد السوفيتي الأولمبياد لمهاجمة بعضهما بعضًا ومحاولة فرض قيمهما.
ونتيجة لذلك؛ أرسى النظام الأبوي الجديد البيئة التي مكّنت المشجعين من تحويل ملعب كرة القدم إلى ساحة معركة، ولم يكن لدى الحكام العرب، مثل الرئيسين المصري والتونسي حسني مبارك وزين العابدين بن علي، أيّ نية للمخاطرة بتكرار تجربة الإمبراطور الروماني «جستنيان الأول»؛ وحوّلوا الملاعب إلى مكان لا يصلح للتعبير عن الآراء السياسية أو التعبير عن مظالمهم، أو حتى التنفيس عن غضبهم وإحباطهم، بجانب قمع أيّ محاولات وليدة، واُعتبرت الملاعب كالمساجد ونوادي الموسيقى المحرّمة، المحتمل أن تثرير متاعب للأنظمة الاستبدادية؛ لذا تُشدّد الرقابة عليها. وتعرضت المنابر للإشراف الحكومي المباشر، وفي مصر -على سبيل المثال- تُملى الخطب على الدعاة؛ وهكذا.
وتحوّل رؤساء هذه الأندية ومجالس الإدارات إلى رهائن فاسدين لنظام سياسي قمعي، وتحوّل اللاعبون إلى مرتزقة يلعبون لمن يدفع أعلى سعر؛ ونتيجة لذلك اعتقد هؤلاء جميعهم أنهم الملاك الحقيقيون للملاعب؛ ولذا عندما يرون حركات وأنشطة مضادة للنظام وليدة في نواديهم يسارعون لإحباطها، وكأنهم أدوات للنظام.
وبذلك تحوّلت الملاعب وجمهورها إلى تهديد للمستبدين في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، وشرعت جميع الأنظمة لتسييسها لخدمة أغراضها وأهدافها القمعية؛ ضمانًا لمنع تكرار مشاهد ثورات الربيع العربي التي كان لروابط المشجعين دور كبير فيها، حتى قبل الثورات، واشتهر الأولتراس في مصر بمشاداتهم مع قوات الأمن؛ لذلك سارع الحكام، وأولهم حسني مبارك، على تصوير أنفسهم راعين وداعمين للرياضة؛ في محاولة لمنع تحويلها إلى حركات مضادة لحكمهم وأنظمتهم.