قال الكاتب البريطاني، رئيس تحرير موقع ميدل إيست آي، دافيد هيرست؛ إن انقلاب الرئيس التونسي قيس سعيد على الديمقراطية في البلاد، لا يحظى بدعم أجنبي، وهو أمر مهم لبلد يعاني من الإفلاس ولا يمكنه دفع فواتير الرواتب، وعليه ديون مستحقة تبلغ المليارات.
وأشار في مقاله المنشور على الموقع إلى أن سفراء ألمانيا، وإيطاليا، والولايات المتحدة الأمريكية، أخبروا سعيد بضرورة إعادة عمل البرلمان في أقرب وقت.
ونقل هيرست عن مصادر تونسية مطلعة، أن الولايات المتحدة حالت بين سعيد وتنظيم مسيرة جماهيرية تأييدا لاستيلائه على السلطات، وأن الغرب مرر رسائل دعم للأحزاب التونسية المختلفة.
وأضاف: “قد تسول لقيس سعيد نفسه تجاهل كل ذلك، كونه الآن قد حصل على ضمانات من الإماراتيين والسعوديين بأنهم سيمولونه. ولكن قبل أن يطمئن إلى حقيقة هذه الوعود الخليجية، ينبغي عليه أن يسأل السودانيين عن تجربتهم كيف كانت”.
ولفت إلى أن سعيد لا ينصت، ولا يفهم أن الديمقراطية هي التعددية، وليس التصرف كزعيم شعبوي في مواجهة أعضاء البرلمان الذين يتهمهم بالفساد.
المقال كاملا:
انقلاب الرئيس التونسي قيس سعيد يفقد زخمه، فهو لا يحظى بالدعم الأجنبي الذي يحتاجه حتى يدير البلاد منفردا، ودوائر أوسع وأوسع من التونسيين في الداخل باتوا يدركون من الذي يدير الدولة حاليا؛ الحكومة والقضاء.
من وجهة نظر قيس سعيد، لا التطهير ولا التعيينات تمضي بالسرعة الكافية. اقترح زهير مغزاوي، أمين عام حركة الشعب، وهو حزب يدعم الرئيس، تمديد تعليق البرلمان لستة شهور.
الدعم الخارجي مهم بالنسبة لبلد صغير يعاني من الإفلاس مثل تونس، التي لا قبل لها بدفع فاتورة رواتب القطاع الحكومي الضخمة، وعليها دفعات عن ديون مستحقة تبلغ ستة مليارات دولار عن هذه السنة فقط.
ولذلك، فإن ما يفكر به أصحاب المصالح الأجنبية ممن يهمهم وضع الاقتصاد التونسي مهم، وهؤلاء لا يقولون لقيس سعيد ما يرغب في سماعه منهم.
سفراء ألمانيا وإيطاليا والولايات المتحدة كلهم أخبروه بضرورة إعادة البرلمان في أسرع وقت ممكن، وذلك بسحب ما صرحت به مصادر تونسية وإيطالية. وحال الأمريكان بينه وبين تنظيم مسيرة جماهيرية تأييدا لاستيلائه على السلطة، كما أخبرتني مصادر تونسية مطلعة. وجميعهم مرروا رسائل دعم لراشد الغنوشي رئيس البرلمان ورئيس حركة النهضة، ولزعماء الأحزاب الأخرى.
بينما الرسائل التي نقلت إلى قيس سعيد تبلغ له شخصيا، هناك رسائل تنديد تصدر علانية داخل الوطن. عضوا مجلس الشيوخ في الولايات المتحدة جيم ريش وبوب منينديز، العضو البارز ورئيس لجنة الشؤون الخارجية في مجلس الشيوخ، قالا إنهما “قلقان جدا” بسبب التوتر المتصاعد وعدم الاستقرار في تونس. وأضافا: “يتوجب على الرئيس سعيد العودة إلى الالتزام بالمبادئ الديمقراطية التي تقوم عليها العلاقات الأمريكية التونسية، ويجب على الجيش أن يمارس الدور الذي ينبغي له في الديمقراطية الدستورية”.
قد تسول لقيس سعيد نفسه تجاهل كل ذلك، كونه الآن قد حصل على ضمانات من الإماراتيين والسعوديين بأنهم سيمولونه. ولكن قبل أن يطمئن إلى حقيقة هذه الوعود الخليجية، ينبغي عليه أن يسأل السودانيين عن تجربتهم كيف كانت.
عندما أطيح بعمر البشير من الرئاسة في نيسان/إبريل 2019، وعدت المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة السودان بما قيمته 3 مليار دولار أمريكي من المساعدات، إلا أنه لم يصل إلى السودان من ذلك سوى 750 مليون دولار، ثم لم يصل إليه شيء منذ إبرام اتفاق المشاركة في السلطة مع الجيش في 2019. والآن بادر السعوديون بالتعهد من جديد باستثمار 3 مليارات دولار في صندوق مشترك في السودان، وفي الوقت نفسه “بإعادة الالتزام” بقرض عام 2019 الذي لم يصل منه سوى 300 مليون دولار.
قطع الوعود شيء والوفاء بها شيء آخر، وفي هذه الأثناء ارتفعت نسبة التضخم في السودان إلى 400 بالمائة.
مقاربة الجزائر
إلا أن الحكومة الجزائرية هي التي ينبغي أن تكون أكثر ما يخشى قيس سعيد منه؛ فتونس بلد صغير جيرانه كبار، ليس منها لا مصر ولا الإمارات اللتان مولتا الانقلاب على التوالي.
بدأت الجزائر بمقاربة ناعمة، حيث طار وزير خارجية الجزائر رمضان لعمامرة إلى تونس لتوصيل “رسالة شفهية من الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون،” إلا أن محتواها لم يتم الإفصاح عنه. كما سافر إلى القاهرة من أجل الاجتماع بالرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، وعلى أثر ذلك أصدرت الرئاسة المصرية التصريح التالي: “تم التوصل إلى الإجماع … باتجاه تقديم الدعم الكامل للرئيس قيس سعيد، وكل ما من شأنه الحفاظ على الاستقرار في تونس، وتطبيق إرادة وخيارات الشعب التونسي الشقيق، من أجل الحفاظ على قدراته وعلى أمن بلاده”.
لم يصدر الجانب الجزائري تصريحا مشابها.
ثم لما أصبح جليا أن رسالتهم لم يتم الأخذ بها، كان المسؤول الجزائري التالي الذي ينطق هو رئيس أركان الجيش الفريق السعيد شنقريحة، الذي قال: “المؤامرات والدسائس التي تحاك ضد الجزائر، ليست من نسج الخيال، كما يدعي بعض المشككين، بل هي حقيقة واقعة أصبحت ظاهرة للعيان”.
قبل ذلك بأيام، كانت الجزائر قد سحبت الاعتماد الممنوح لقناة العربية التلفزيونية المملوكة للسعودية، الذي كانت بموجبه تمارس نشاطها في الجزائر، متهمة القناة بنشر “معلومات مضللة”. كان الفريق السعيد شنقريحة يوجه إنذارا واضحا للسعودية والإمارات العربية المتحدة ومصر بأن تلزم حدودها.
التداعيات الدولية
تعتبر الجزائر تونس حديقتها الخلفية وممرها إلى طرابلس، بالنظر إلى مصالحها الإقليمية الواضحة وتأثرها بما يجري من أحداث في كل من تونس وليبيا. سعت كل من مصر والإمارات العربية المتحدة وروسيا إلى فرض الجنرال المتمرد من أيام القذافي، خليفة حفتر، على ليبيا، وفعلا اقتربت قوات حفتر مسافة كيلومترات قليلة من مركز العاصمة في طرابلس، قبل أن تصدها وتجبرها على التراجع الطائرات المسيرة التركية. أخفق حفتر، ونتيجة لذلك، تشكلت إدارة انتقالية بدعم من الشرق والغرب معا.
بعد إخفاقهم في ليبيا، يسعى الإماراتيون الآن إلى تحقيق الغاية نفسها في تونس – أو على الأقل هكذا تبدو الصورة للجزائريين، وقد يكونون محقين في ذلك.
في تصريح لموقع ميدل إيست آي، قال مصدر كبير في الجزائر: “لا أفق أمام هذا الانقلاب لينجح، وقد طالبنا بأن يتفاوض قيس سعيد مع راشد الغنوشي، ونحن نعلم بالضبط كيف فرض المصريون والإماراتيون هذا الانقلاب. نحن لا نريد أن نرى “حفتر” جديدا في تونس، لا نريد أن نرى في تونس حكومة تابعة لهذه القوى.” كان هذا تصريحا في غاية الوضوح والصراحة.
كما أن الإيطاليين قلقون بشأن ليبيا. قال رئيس الوزراء السابق رومانو برودي؛ إن ما حدث في تونس لم يكن شأنا داخليا، وأضاف: “سوف تتجاوز عواقب تحويل تونس إلى نظام مستبد الحدود التونسية. فها نحن، معشر الأوروبيين، نفقد النفوذ السياسي في الضفة الجنوبية للبحر المتوسط.”
وقال؛ إن كل ذلك يؤثر مباشرة على إيطاليا، ليس فقط بسبب الخطر المتزايد لكوفيد-19، وإنما أيضا بسبب الأمواج المتوقع تدفقها للمهاجرين.
كما أن الحكومة التركية قلقة بشأن الأحداث في تونس، ليس على الأقل بسبب الإحساس بأن الانفراج الأخير بين مصر والإمارات من جهة وأنقرة من جهة أخرى، إنما كان أحبولة هدفها شغل تركيا عن الحدث الحقيقي الذي تمثل في التحرك ضد تونس.
كان استعراض تركيا للقوة في ليبيا حاسما، فهي لم تكتف بوضع حد لحفتر، وإنما وضعت حدا لمخططات جميع القوى التي كانت تقف من ورائه: الروس والإماراتيون والإسرائيليون والفرنسيون الذين كانوا جميعا في وقت ما يدعمون حفتر عسكريا. ولكن هل يحتمل أن تكون تركيا قد رفعت عينها عن الكرة، التي كانت طوال الوقت تتمثل في تونس، ضمن خطتها لإبقاء الضغط قائما في طرابلس؟
لا ينصت
ولكن قيس سعيد في تونس لا ينصت. والدبلوماسيون الإيطاليون يحكون رؤوسهم، فهو لا يفهم أن الديمقراطية هي التعددية، ويشكون من أنه لا يعي بأنها لا تتعلق بالتصرف كزعيم شعبوي في مواجهة أعضاء البرلمان الذين يتهمهم بالفساد.
عندما كان قيس سعيد في عام 2019 مرشحا رئاسيا معزولا يتحدث ضد الفساد، أعطى مقابلة عبر فيها صراحة عن خططه. فعندما طلب منه أن يصف برنامجه الانتخابي، أجاب سعيد: “لقد اقترحت مشروعا {منذ سنوات} لتأسيس جديد … يجب أن يكون هناك فكر سياسي جديد ونص دستوري جديد”.
وأضاف سعيد، أنه إذا ما فاز بالرئاسة فلسوف يتخلص من الانتخابات التشريعية، مشيرا إلى أن “الديمقراطية البرلمانية في البلدان الغربية فاسدة، وآن لها أن تنتهي… انظر إلى ما يحدث في فرنسا مع السترات الصفراء، وفي الجزائر وفي السودان. مصير الأحزاب أن تنقرض… إنها فترة وانتهت… قد يستغرق موتها بعض الوقت، ولكن من المؤكد أنها في سنوات قليلة سينتهي دورها. سوف تنقرض التعددية من تلقاء ذاتها… لقد دخلنا مرحلة جديدة من التاريخ. هذه هي الثورة الجديدة”.
ثم سأله المحاور: “هل المشكلة في الأحزاب أم في التونسيين الذين لا يقرؤون؟” فأجابه سعيد قائلا: “المشكلة في الأحزاب. لقد انتهى دورها”.
كما عبر عن نيته الواضحة بقمع منظمات المجتمع المدني في تونس، قائلا؛ “إن لدي مشروعا هدفه إنهاء الدعم لجميع الجمعيات، سواء من داخل تونس أو من خارجها؛ لأنها تستخدم مطية للتدخل في شؤوننا”.
لم يكن ذلك برنامجا انتخابيا ولا خطة اقتصادية. كان رد فعل سعيد على الخصومة التي بادرته بها إدارة بايدن أن يقيل سفيره إلى الولايات المتحدة، الرجل الذي رشحه هو بنفسه قبل عام. يقوم برنامجه الاقتصادي على حمل التجار الأثرياء على الدفع لإنعاش الأماكن الفقيرة. هذه ليست خطة، والفكرة ليست جديدة. وفكرته حول السياسة النقدية هي مطالبة البنوك بخفض معدلات الفائدة. لكن لكي يكون لذلك مصداقية، لا ينبغي أن تكون تلك الدعوة صادرة عن الرئيس، بل هي وظيفة البنك المركزي. وكما رأينا في تركيا، مثل هذه السياسة ليست مما ترتاح له الأسواق.
ثمة داع للقلق
كما ينبغي أن يقال بأن مصر، أقرب حلفائه، ليست نموذجا جيدا، فهي اليوم أشد فقرا وأكثر ضعفا مما كانت عليه يوم استولى عليها السيسي في انقلاب عسكري في عام 2013. في اليوم نفسه الذي التقى فيه وزير الخارجية المصري قيس سعيد لمنحه الدعم الكامل، أعلن السيسي عن خطط لتقليص الدعم الحكومي عن رغيف الخبز – المرة الأولى التي يجرب فيها ذلك منذ عهد السادات، ونتج عن ذلك حينها اندلاع أعمال الشغب.
من مفارقات أن تصبح مصر نموذجا يحتذى به في تونس، هو أن مصر اليوم تعاني من نسبة فقر أعلى بكثير من تلك التي تعانيها تونس، حيث إنها في مصر 31 بالمائة مقارنة بنسبة 19 بالمائة في تونس.
إذا لم يكن قيس سعيد ينصت، فإن أعدادا متزايدة من التونسيين من حوله ينصتون – وذلك أن نمط حكمه القائم على مزاجية الفرد الواحد بدأت تؤثر عليهم أيضا.
فقد فرضت قواته حصارا على رابطة المحامين التونسيين عندما سعوا إلى إلقاء القبض على أحد المحامين، إلا أن المحامين يذكر لهم الفضل في الثبات على موقفهم ورفض تسليم مهدي زغروبة لمن جاؤوا لاعتقاله. وكانت النتيجة هي تراجع القضاء العسكري، الذي ما كان منه يوم الإثنين إلا أن أسقط القضية ضد زغروبة وأربعة نواب برلمان آخرين، كلهم من تحالف الكرامة داخل البرلمان.
ليس هذا مجرد قتال ضد رئيس شمولي شعبوي أو ضد برلمان يسود فيه الإسلاميون، بل غدا التونسيون يتساءلون، وبشكل متزايد، إلى أين يتجه بتونس قيس سعيد؟
لا تتعلق مخاوف جيرانه في حوض المتوسط بالجدل حول الديمقراطية المباشرة والديمقراطية التمثيلية. بل لقد غدوا يخشون على استقرار تونس، وذلك أن قيس سعيد يسبب لهم حالة من الذعر، فهم لا يصدقونه، ولا يثقون به ولا يساندونه. أعتقد أن أيام الانقلاب باتت معدودة.