كتب «غرايم وود» لموقع «ذي أتلانتك» مقالا مطولا عن سلطة محمد بن سلمان ولي العهد السعودي المطلقة في السعودية ومدى تأثير واشنطن في قراراته، وفيما يلي نص المقال:-
يبلغ محمد بن سلمان، ولي عهد المملكة العربية السعودية، من العمر 36 سنة، وهو يحكم بلاده منذ حوالي خمس سنوات، ونادرًا ما شوهد والده الملك سلمان البالغ من العمر 86 سنة علنًا منذ سنة 2019، وحتى إن نجله بن سلمان ظهر للعلن مرات قليلة فقط منذ أن بدأ الوباء.
في الماضي، كان يظهر في كل مكان، في جولة دعائية لا تنتهي للترويج لخطته لتحديث مملكة والده، لكن بعد وقت قصير من مقتل الكاتب في صحيفة “واشنطن بوست”، جمال خاشقجي، سنة 2018، قلص محمد بن سلمان من عدد رحلاته، وأجرى آخر مقابلة له مع صحيفة غير سعودية قبل أكثر من سنتين، وذلك بعد أن خلُصَت وكالة المخابرات المركزية إلى أنه أمر بقتل خاشقجي، ووجد المدعون السعوديون أن أقرب مساعدي ولي العهد أشرفوا على عملية القتل، ويُعتقد أنهم قطعوا أوصال خاشقجي وجثته.
لقد اكتسب محمد بن سلمان بالفعل سمعة سيئة عن وحشيته؛ ففي سنة 2017، جمع مئات من أفراد عائلته وغيرهم من الأثرياء السعوديين وسجنهم في فندق ريتز كارلتون بالرياض بتهم فساد غير رسمية، وقد أكد مقتل خاشقجي وجهة نظر ثابتة عن ولي العهد باعتباره متوحشًا وقاسيًا ومختلًّا عقليًّا؛ حيث يؤيد الرئيس الأمريكي، جو بايدن، هذا التقييم القاتم لمحمد بن سلمان، فقد رفض حتى الآن التحدث معه، ويأمل كثيرون في واشنطن وغيرها من العواصم الغربية أن يظل صعوده إلى العرش بعيد المنال.
لكن داخل المملكة؛ تُعتبر خلافة محمد بن سلمان للعرش أمرًا حتميًّا، وقد أخبرني دبلوماسي سعودي بارز “اسأل أي مواطن سعودي، أو أي شخص آخر، عما إذا كان محمد بن سلمان سيكون الملك. إذا كان هناك أشخاص في واشنطن يعتقدون أنه لن يعتلي العرش، فعندئذ لا يمكنني مساعدتهم. أنا لست طبيبًا نفسيًّا”.
إن وفاة والده في نهاية المطاف سوف تجعله الحاكم المطلق لمهد الإسلام، ومالكًا لأكبر احتياطيات النفط في العالم، كما أنه سيكون زعيمًا لأحد أقرب حلفاء الولايات المتحدة ومصدرًا للعديد من مشاكلها.
لقد سافرت إلى المملكة العربية السعودية على مدار السنوات الثلاث الماضية، محاولًا أن أفهم ما إذا كان ولي العهد قاتلًا أم مصلحًا أم كليهما، وإذا كان يجسّد كليهما، فهل يمكن أن يكون أحدهما دون الآخر.
حتى منتقدو محمد بن سلمان يعترفون بأنه قد أنقذ البلاد من ركود اقتصادي واجتماعي، ففي سنة 2016، كشف الستار عن خطة، تُعرف برؤية 2030، لتحويل المملكة العربية السعودية – اسمحوا لي أن أكون صريحًا – من واحدة من أغرب دول العالم إلى مكان يمكن وصفه بشكل معقول بأنه طبيعي؛ فهي الآن ترحب بالزوار والمستثمرين، وتسمح لمواطنيها بالمشاركة في الأنشطة الترفيهية العادية وحتى ممارسة بعض الرذائل.
ولقد قام ولي العهد بإضفاء الشرعية على دور السينما والحفلات الموسيقية، ودعا بشكل خاص فناني الهيب هوب لإحياء حفلاتهم، وسمح للمرأة بالقيادة وارتداء الملابس بحرية قدر المستطاع كما يلبسنها في دبي والبحرين اللتان تعتبران أوكارًا للرذيلة مقارنة بالسعودية، وقلص دور رجال الدين الرجعيين وألغى الشرطة الدينية، حتى أنه استكشف العلاقات مع “إسرائيل”.
كما خلق مناخَا من الخوف غير مسبوق في تاريخ السعودية، صحيح أن السعودية لم تكن دولة حرة أبدًا، لكن حتى أكثر أسلاف محمد بن سلمان قمعًا، وهو عمه الملك فيصل، لم يسبق له قط أن ترأس أجواء مثل الأجواء السائدة في الوقت الحاضر؛ حيث يُعتقد على نطاق واسع أنك تعرض نفسك للخطر إذا انتقدت الحاكم أو حتى تقديم مجاملة لطيفة لأعدائه.
لقد ذهب منتقدو محمد بن سلمان إلى المنفى، وليسوا القاتلين المتعصبين أو المتعاطفين مع القاعدة، بل مجرد أناس عاديين لديهم أفكار مستقلة حول إصلاحاته، ويخشى البعض أنه إذا استمر في الحكم، فإن المملكة العربية السعودية الحديثة ستضطهد بطرق لم تشهدها المملكة القديمة. وقد حذرني خالد الجبري، الابن المنفي لأحد أبرز منتقدي محمد بن سلمان، من أن الأسوأ لم يأت بعد قائلًا “عندما يكون الملك محمد، سيُذكر ولي العهد محمد بن سلمان كملاك”.
على امتداد سنتين تقريبًا، توارى محمد بن سلمان عن الرأي العام، كما لو كان يأمل في أن ينسى العالم مقتل خاشقجي، ولكنه لم ينسى، لكن ولي العهد لا يزال يريد إقناع العالم بأنه ينقذ بلاده، ولا يحتجزها كرهينة، وهذا هو السبب في أنه التقى بي مرتين في الأشهر الأخيرة، وبرئيس تحرير هذه المجلة، جيفري غولدبرغ.
في اجتماعاتنا؛ كان ولي العهد ساحرًا ودافئًا وغير رسمي وذكي، ولكن حتى أكثر النظم الملكية المطلقة ودية لا تخلو من الغرابة؛ ففي لقائنا الأول، استدعانا محمد بن سلمان إلى قصر بعيد على البحر الأحمر، وهو ملجأ عائلته من فيروس كورونا، وكانت البروتوكولات متعددة الطبقات: أجرينا سلسلة من اختبارات تفاعل البوليميراز المتسلسل بواسطة ممرضات من العيادات الملكية؛ ونقلتنا طائرة من طراز “غلف ستريم” في منتصف الليل من الرياض؛ ثم استقبلتنا قافلة من مهبط طائرات مهجور؛ وجُرّدنا من الأجهزة الإلكترونية؛ وتوقفنا في دار ضيافة غامضة مرئية في صور الأقمار الصناعية ولكن بدون علامات على خرائط “غوغل”، ودعانا إلى قصره حوالي الساعة 1:30 صباحًا، وتحدثنا لمدة ساعتين تقريبًا.
بالنسبة للاجتماع الثاني، الذي عُقد في قصره بالرياض، طُلب منا أن نكون مستعدين بحلول الساعة 10 صباحًا، وقد بدأ الاجتماع بعد منتصف الليل أيضًا، وكانت القاعات ضبابية، وكان ولي العهد قد عاد لتوه إلى المكتب بعد قرابة سنتين من العمل عن بعد، وقام مساعدون ووزراء بفرش السجاد الأحمر استعدادًا لعقد الاجتماعات، وهي الأولى منذ شهور، مع رئيسهم؛ حيث تراكمت الطرود والوثائق المهملة على المكاتب والطاولات في مكتبه، الذي كان كبيرًا ولكن بالكاد يكون فخمًا.
كان التنازل الأكثر وضوحًا للذوق الرفيع هو تلسكوب قديم الطراز مثبت على حامل ثلاثي القوائم؛ حيث تم ضبط ارتفاعه بشكل ضحل لدرجة أنه لا يبدو أنه موجه نحو السماء بل نحو الرياض، العاصمة الصحراوية السيئة مترامية الأطراف التي حكمتها أسرة آل سعود معظم القرون الثلاثة الماضية.
في بداية كلتا المحادثتين، قال محمد بن سلمان إنه حزين لأن الوباء منعنا من تبادل العناق، واعتذر عن اضطرارنا جميعًا إلى ارتداء الكمامات. (حضر كل اجتماع العديد من الأمراء الصامتين يرتدون أردية وكمامات بيضاء متطابقة، مما يتركنا غير متأكدين، حتى يومنا هذا، من هوية الحاضرين بالضبط). وترك ولي العهد أزرار قميصه مفتوحة عند الياقة، بأسلوب غير رسمي يفضله حاليًا الشباب السعودي وقدم إجابات مريحة وغير مضطربة للنفسية على أسئلة حول عاداته الشخصية.
وقال إنه يحاول الحد من استخدامه لمنصة “تويتر”، ويتناول الإفطار كل يوم مع أطفاله، ويشاهد التلفاز من أجل المتعة، ويتجنب مشاهدة المسلسلات، مثل “هاوس أوف كاردز”، التي تذكره بالعمل. وبدلًا من ذلك، قال دون سخرية واضحة، إنه يفضل مشاهدة المسلسلات التي تساعده على الهروب من واقع وظيفته، مثل “صراع العروش”.
قبل الاجتماعات، سألت أحد مستشاري محمد بن سلمان عما إذا كانت هناك أي أسئلة يمكنني طرحها على رئيسه لا يستطع هو طرحها، وأجاب دون تردد “لا شيء، وهذا ما يجعله مختلفًا عن كل ولي عهد سبقه”؛ حيث قيل لي إنه يستمد طاقته من التحدي.
خلال لقائنا في الرياض، سأل جيف محمد بن سلمان عما إذا كان قادرًا على التعامل مع النقد، فأجاب الأمير “شكرًا جزيلًا لك على هذا السؤال. إذا لم أكن أتقبل النقد، لما كنت أجلس معك اليوم للاستماع إلى هذا السؤال”، فاقترح جيف قائلًا “كنت سأكون في فندق ريتز كارلتون”، فأجابه: “حسنًا، على الأقل إنه فندق خمس نجوم”.
تسببت الأسئلة الصعبة في تقديم ولي العهد لإجابات سريعة، وكان صوته يتردد بوتيرة عالية، وفي كل دقيقة أو دقيقتين، كان يقوم بحركات معقدة تدل على التشنج: إمالة سريعة برأسه للخلف، يتبعها بلع ريقه، مثل حركة طائر البجع وهو يبتلع السمكة؛ حيث اشتكى من أنه تعرض للظلم، ولعب دور الضحية وأظهر مستوى من العظمة غير عادي حتى بمعايير حكام الشرق الأوسط.
وعندما سألناه عما إذا كان قد أمر بقتل خاشقجي، قال إنه “من الواضح” أنه لم يفعل ذلك، وأضاف: “لقد آلمني كثيرًا. إنه يؤلمني ويؤلم المملكة العربية السعودية من ناحية المشاعر”، فتساءلنا “من منظور المشاعر؟” ليتابع حديثه قائلًا “أتفهم الغضب، خاصة في صفوف الصحفيين. أنا أحترم مشاعرهم. لكننا نشعر بالألم أيضًا”.
وأخبر ولي العهد شخصين مقربين منه أن “حادثة خاشقجي كانت أسوأ شيء حدث له على الإطلاق، لأنها كانت من الممكن أن يدمر كل خططه” لإصلاح البلاد. وفي مقابلتنا في الرياض، قال ولي العهد إن حقوقه قد انتهكت في قضية خاشقجي. وأوضح قائلًا “أشعر أن قانون حقوق الإنسان لم يطبق عليَّ. تنص المادة الحادية عشرة من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان على أن أي شخص بريء حتى تثبت إدانته”، وقال إن المملكة العربية السعودية عاقبت المسؤولين عن جريمة القتل، لكن الفظائع المماثلة، مثل تفجير حفلات الزفاف في أفغانستان وتعذيب السجناء في خليج غوانتنامو، لم يُعاقَب عليها.
دافع ولي العهد عن نفسه جزئيًا من خلال التأكيد على أن خاشقجي لم يكن مهمًا بما يكفي لقتله، وأردف “لم أقرأ قط مقالا لخاشقجي في حياتي”، ومما أثار دهشتنا، قوله إنه إذا أرسل فرقة قتل، فسيختار هدفًا أكثر قيمة، وقتلة أكثر كفاءة، مضيفًا “لو كنا ندير الأمور بهذه الطريقة – قتل مؤلفي مقالات الرأي الناقدة – فلن يكون خاشقجي حتى من بين أول 1000 شخص في القائمة، وإذا افترضنا أن هناك عملية أخرى ستجري من هذا القبيل، بالنسبة لشخص آخر، يجب أن تكون محترفًا ويجب أن يكون واحدًا من أول 1000 شخص”. وعلى ما يبدو، كان لديه قائمة اغتيال افتراضية جاهزة للتنفيذ. ومع ذلك، أكد أن مقتل خاشقجي كان “خطأً فادحًا”، وتابع حديثه قائلا “نأمل ألا يتم العثور على المزيد من فرق الاغتيال. أنا أحاول بذل قصارى جهدي”.
ونوه محمد بن سلمان بأنه في حال كان أداؤه ليس جيدًا بما يكفي لجو بايدن، فإن عواقب إدارة سياسة خارجية أخلاقية ستكون على عاتق الرئيس، مضيفًا “تجمعنا علاقة تاريخية طويلة مع الولايات المتحدة، وهدفنا هو الحفاظ عليها وتعزيزها”.
ودعا بايدن ونائبة الرئيس كامالا هاريس إلى “المساءلة” عن مقتل خاشقجي، وكذلك الكارثة الإنسانية في اليمن، بسبب الحرب بين المملكة العربية السعودية والمتمردين الحوثيين المدعومين من إيران، كما يرفض الأمريكيون معاملته على أنه نظير بايدن – حيث يصرون على أن نظير بايدن هو الملك – على الرغم من أن ولي العهد يحكم البلاد بمباركة والده، ويُعتبر هذا الأمر مؤلمًا بالنسبة لولي العهد.
ويدفع محمد بن سلمان بالعلاقات السعودية الصينية، وقال متسائلًا “أين تتركز الإمكانات العالمية اليوم؟ إنها تتركز في المملكة العربية السعودية. وإذا كنت تريد إضاعتها، أعتقد أن الجهات الأخرى في الشرق سيكونون سعداء للغاية”.
وردًّا على سؤال حول ما إذا كان بايدن يسيء فهم شيء ما عنه؛ قال بن سلمان “ببساطة، أنا لا أهتم”، ورأى أن إقصاء النظام الملكي السعودي من شأنه أن يضر بموقف بايدن، وهز بكتفيه وقال “الأمر متروك له للتفكير في مصالح الولايات المتحدة. فليقم بذلك”.
كما أثار اهتمام ولي العهد فكرة أن مواطنيه يخشون التحدث ضده وقال إننا بحاجة إلى المعارضة بشرط “إذا كانت الكتابة موضوعية، دون أي أجندة أيديولوجية”. ولكن لاحظت أنه من الناحية العملية، يبدو أن المعارضة غير موجودة؛ ففي أيلول/ سبتمبر 2017، أمر محمد بن سلمان بمقاطعة قطر، مشيرًا إلى دعم الدولة للحكومة الإيرانية، والإخوان المسلمين، والقاعدة، وغيرها من المنظمات الإسلامية في المنطقة. ليتحول جاره الصغير فجأة من صديق رسمي إلى عدو رسمي، واختفى أولئك الذين دافعوا عنها في السجن.
على ما يبدو؛ لم يكن ينظر إلى هذه المشاعر على أنها موضوعية أو غير إيديولوجية، وقال محمد بن سلمان إنه يمكن مقارنة قطر بألمانيا النازية، وأضاف: “ماذا تعتقد [كان سيحدث] إذا قام شخص ما بمدح وتشجيع هتلر في الحرب العالمية الثانية؟ وكيف كانت الولايات المتحدة لتقبل ذلك؟”، بالطبع كان رد فعل السعوديين ليكون صارمًا تجاه المتعاطفين مع النازيين المتواجدين بينهم، لكن بعد ثلاث سنوات، تصالحت الدولتان، ونشرت الحكومة السعودية صورة لمحمد بن سلمان وهتلر، أي أمير قطر تميم آل ثاني، وهو يرتدي سروالًا قصيرًا ويبتسم في قصر محمد بن سلمان على البحر الأحمر.
قال محمد بن سلمان: “الشيخ تميم شخص رائع”، لم يمثل الصراع القائم بينهما مشكلة كبيرة، بل كان “مجرد خلاف بين إخوة”، واليوم أصبحت العلاقة “أفضل من أي وقت مضى في التاريخ”، ومع ذلك، يظل المنشقون قابعين في السجن، ولا أقصد بذلك فندق الريتز كارلتون.
أما بالنسبة للسجناء الموجودين بالفعل في فندق ريتز كارلتون، قال ولي العهد إنهم كانوا يستحقون ذلك، فبين عشية وضحاها جمع المئات من أبرز السعوديين، وسلمهم إلى أفخم فندق في الرياض، ورفض السماح لهم بالذهاب حتى اعترفوا ودفعوا ما ترتب عليهم. بالنسبة لي يبدو الأمر وكأنه يحاول سحق المنافسين، فيما بدا محمد بن سلمان متشككا؛ حيث قال: “كيف يمكنك القضاء على الأشخاص الذين ليس لديهم أي قوة فعلية منذ البداية؟” لو كانت لديهم القوة، لما تمكن من إجبارهم على دخول فندق الريتز.
وقال محمد بن سلمان إن عملية فندق الريتز كانت حربًا خاطفة ضد الفساد، وحققت نجاحًا كبيرًا وشعبية لأنها بدأت من القمة ولم تتوقف عند هذا الحد، وأضاف: “يعتقد بعض الناس أن المملكة العربية السعودية، كما تعلم، تحاول فقط القبض على الأشخاص الأكثر نفوذًا”، وافترضوا أنه بعد انتزاع الحكومة للمؤسسات من يدي أمثال الوليد بن طلال، وهو أغنى رجل في المملكة، سيُستأنف الفساد عند أدنى المستويات.
لاحظ محمد بن سلمان، بفخر، أنه قد ألقي القبض حتى على أولئك الأفراد الأقل نفوذًا. وبحلول عام 2019، قال محمد بن سلمان: “لقد أدرك الجميع أنه حتى لو سرقت 100 دولار فقط، فإنك ستدفع ثمن فعلتك”، وفي غضون بضعة أشهر فقط، يدَّعِي أنه استعاد 100 مليار دولار بشكل مباشر، ويقول إنه سيستعيد المزيد بشكل غير مباشر، باعتبارها عائدات للردع.
وأقر محمد بن سلمان بأن عملية فندق ريتز ربما بدت كأنها عملية إجرامية بالنسبة للغرباء، لكن بالنسبة له كانت بمثابة حل مناسب وغير عنيف أيضًا لمشكلة الأفراد الذين يستنزفون الميزانية السنوية للمملكة. (أخبرني أحد مستشاري محمد بن سلمان أن أحد البدائل التي اقترحها مساعدوه كان إعدام عدد قليل من المسؤولين الفاسدين البارزين).
خلال الأشهر التي تحوّل فيها فندق الريتز إلى سجن، عُيّن المنظم المالي للمملكة بشكل أساسي ملكًا مؤقتًا، لتكريس السلطة الكاملة للحكومة لاستنزاف هؤلاء المخالفين إلى آخر رمق، لكن محمد بن سلمان قال إن ضيوف فندق ريتز لم يكونوا قيد الاعتقال، والذي يعني أنه سيخضعون للمحاكمة وستوجه لهم اتهامات، ولكن بدلًا من ذلك، قال بن سلمان إنهم تلقوا دعوة “للتفاوض”، وهو ما فعله 95 بالمئة من أولئك الضيوف؛ حيث قال: “لقد كانت تلك إشارة قوية”، وأنا متأكد من ذلك.
في الواقع؛ لا ينتقل العرش السعودي، كما فعل العرش البريطاني سابقًا، إلى الوريث الذكر التالي، بل يختار الملك خليفته، ومنذ أن اختار الملك المؤسس للدولة السعودية الحديثة، عبد العزيز، ابنه سعود وليًّا للعهد عام 1933، اختار كل ملك ابنًا آخر من أبناء عبد العزيز. (الذي كان لديه 36 ولدًا من عدة زوجات ومحظيات، تمكنوا من العيش حتى سن الرشد)، كانوا جميعا كبارًا في السن بما يكفي لتذكر الجمال والخيام، قبل الثراء الفاحش عندما كانوا يحكمون بشكل متحفظ، كما لو كانوا يحاولون الحفاظ على مكاسبهم.
لم يتمكن حتى أذكى الملوك وأكثرهم طموحًا من إنجاز سوى القليل. بدأ عبد الله، الذي تولى السلطة في عام 2005، مسيرته كمصلح، لكن معظم الزخم الذي نتج خلال النصف الأول من فترة ولايته تلاشى عندما أصبح يتكاسل في النصف الثاني وتعرُّض الخزانة الملكية للنهب. (قيل إن أحد اللصوص المزعومين سيئ السمعة في فندق ريتز، وهو شخصية رئيسية في الديوان الملكي، قد سرق عشرات المليارات من الدولارات خلال تراجع قوّة جلالة الملك).
لاحظ سلمان، الملك الحالي البالغ من العمر 86 عامًا وهو من أصغر أبناء عبد العزيز، مخاطر حكم الشيوخ المنفلت وعين خلفًا له من الجيل التالي، لكن أسباب اختياره لمحمد لم تكن واضحة، فمن بين أبناء الملك سلمان هناك فيصل (51 عاما) الحاصل على دكتوراه في العلاقات الدولية من جامعة أكسفورد، وسلطان، البالغ من العمر 65 عامًا، وهو طيار سابق في سلاح الجو الملكي السعودي، وفي عام 1985، أمضى أسبوعًا كاملًا على متن مكوك الفضاء ديسكفري كأخصائي حمولة.
على الأغلب، كان أي من هؤلاء الرجال الأكفاء والمتعلمين من مواطني العالم ليمثّل خليفة طبيعيًّا، لكن سلمان كان يعتقد أن الملك القادم يحتاج إلى التمتع بقدر معين من الجرأة والطلاقة في السلطة التي لا يمكن اكتسابها من خلال المشاركة في ندوة أو استعمال جهاز محاكاة الطيران؛ حيث يميل الجيل الجديد، المولود في عالم الرفاهية، إلى أن يكون رقيقًا، بينما سيحتاج الملك التالي إلى أن يكون نسخة حديثة من أمراء حرب الصحراء مثل جده.
من خارج أفراد العائلة المباشرة، عيّن سلمان ابن أخيه محمد بن نايف وليا للعهد في عام 2015، عندما كان يبلغ من العمر 55 عامًا، وبصفته مسؤول تجسس ومسؤولًا أمنيًّا في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، قاد محمد بن نايف الحرب الداخلية في البلاد ضد تنظيم القاعدة، وفي هذه العملية أصبح على اتصال جيد بنظرائه في واشنطن ولندن، في عام 2009، أصيب محمد بن نايف عندما اقترب منه أحد أفراد القاعدة في إحدى المناسبات محملًا بالمتفجرات.
ووصفت الحكومات الأجنبية محمد بن نايف بأنه اختيار آمن: أي قديم بما يكفي ولكن ليس قديمًا للغاية، كما أنه مقاتل بارع ويحظى بالاحترام خارج البلاد، لكن بالنسبة لسلمان، كان بن نايف مجرّد تمهيد لتجهيز العرش لابنه. (لم يكن محمد بن سلمان قد شغل منصبًا رفيعًا قبل تتويجه من قبل والده واحتاج إلى تقلد منصب وزير للدفاع مدة عامين لتلميع سيرته الذاتية).
في عام 2017، أقال سلمان محمد بن نايف. عندما تطرد أميرًا، فإنك تطرد كل أولئك الذين راهنوا بثرواتهم على نجاحه؛ وتشمل قائمة معارضي محمد بن سلمان حكومات أجنبية خططت لعهد الملك محمد بن نايف، وسعوديون تدفقت ثرواتهم ونفوذهم بفضله. فر كبير مستشاري محمد بن نايف، سعد الجابري، إلى كندا، ويزعم أن محمد بن سلمان أرسل فريقًا إلى هناك لقتله، فيما تزعم حكومة محمد بن سلمان أن الجابري سرق ثروة طائلة ويمول جهوده لتشويه سمعة ولي العهد. (لكن ينفي الطرفان هذه المزاعم). أخبرني خالد نجل الجابري أن: “محمد بن نايف نجا من القاعدة، لكنه لم يستطع النجاة من ابن عمه.”
اقترح آخرون أن شقيق سلمان الأصغر أحمد، نائب وزير الداخلية السابق المحبوب، هو بديل جدير للعرش لمحمد بن سلمان. وبحسب ما ورد، فقد عارض أحمد تعيين محمد بن سلمان وليًّا للعهد، وفي عام 2020، تم القبض عليه بشبهة الخيانة.
بعد تعزيز سلطته، ركز محمد بن سلمان على “رؤية 2030″، وهو غاضب من فشل بقية العالم في الاعتراف بمدى نجاحها، إذ قال: “المملكة العربية السعودية دولة من دول مجموعة العشرين، ويمكنك أن ترى مركزنا قبل خمس سنوات: لقد كنا في المرتبة 20 تقريبًا، واليوم نحن في المرتبة 17”.
كذلك؛ أشار بن سلمان إلى النمو القوي للناتج المحلي الإجمالي غير النفطي، وقدم إحصاءات حول الاستثمار الأجنبي المباشر، والاستثمار السعودي في الخارج، وحصة التجارة العالمية التي تمر عبر المياه السعودية، وقال إن النجاح الاقتصادي والحفلات الموسيقية والإصلاح الاجتماعي، كلها صفقات مضمونة، كما أضاف: “لو كنا نجري هذه المقابلة في عام 2016، كنت لتقول إنها مجرّد افتراضات، لكننا حقّقناها ويمكنك رؤيتها الآن بعينيك”.
لم يكن بن سلمان يكذب، خلال المدة الفاصلة بين زيارتي الأولى للمملكة العربية السعودية، في عام 2019، وهذه المحادثة بعد عامين، ذهبت إلى السينما في الرياض وجلست بجوار امرأة سعودية لم ألتق بها من قبل، وكانت ترتدي الجينز وحذاءً رياضيًّا، وتحرّك كاحلها العاري بينما كنا نشاهد فيلم “زومبي لاند: دوبل تاب”، بينما عندما زرت البلاد لأول مرة، تناولت الطعام في إحدى المطاعم ذات الجدران الحجرية التي تفصل الرجال العزاب عن النساء والعائلات، لكن اليوم هدمت تلك الجدران وأصبح بإمكان الرجال والنساء تناول الطعام معًا دون إثارة الكثير من النظرات الجانبية من الموجودين في المطعم.
يوافق العديد من أكبر منتقدي ولي العهد على هذه التغييرات، ويتمنون فقط لو أنها أتت في وقت مبكر. (كان خاشقجي أحد أكثر المنتقدين، وعندما التقيته في لندن لتناول وجبة فطور وغداء، قبل وقت قصير من وفاته، طلبت منه أن يخبرني عن إخفاقات محمد بن سلمان، حيث قال إن “90 بالمئة” من الإصلاحات كانت حكيمة لكن متأخرة).
دافعت أشهر ناشطة حقوقية نسوية سعودية، لجين الهذلول، عن حق المرأة في القيادة، وعارضت على “قانون الوصاية” السعودي، الذي يمنع النساء من السفر أو الخروج في الأماكن العامة دون قريب ذكر، ولكن سُجنت الهذلول بتهم الإرهاب في 2018، بعد أن أعلن محمد بن سلمان ووالده عن نهاية وشيكة لكلتا السياستين؛ حيث تقول عائلتها إنها تعرضت في السجن للصعق بالكهرباء والضرب، وكان هذا قبل بضعة أشهر فقط من مقتل خاشقجي، كما هددت بتقطيع جسدها وإلقائها في المجاري، حتى لا يتم العثور عليها أبدا. (سبق للحكومة السعودية أن نفت مزاعم تعذيب السجناء).
طالبت الهذلول ونشطاء آخرون بتمكينهم من بعض الحقوق، ووافق الحاكم على منحهم ذلك، لكنهم أخطأوا في الاعتقاد بأن هذه الحقوق هي ملكهم، بدلًا من الثناء على الملك لمنحهم إياها، تم إطلاق سراح الهذلول في شباط/فبراير 2021، لكن عائلتها تقول إنها ممنوعة من السفر للخارج أو التحدث علانية.
تمثّلت جريمة المنشق الآخر، سلمان العودة، وهو خطيب وله أتباع كثيرون، في التفوه علنًا بفكرة عبّر عنها لاحقًا ولي العهد، فعندما بدأ محمد بن سلمان في الشجار مع نظيره في قطر، غرد العودة قائلا: “الله يوفق بين قلوبهم لما فيه خير لشعبهم”. لقد سُجن العودة ولم ينقذه التناغم الفعلي الذي تبلور لاحقا بين الزعيمين؛ حيث يدعي ابنه عبد الله، الموجود الآن في الولايات المتحدة، أن والده، البالغ من العمر 65 عامًا، محتجز في الحبس الانفرادي ويتعرض للتعذيب.
وتقول السلطات السعودية إن العودة إرهابي وعضو في جماعة الإخوان المسلمين التي تدعمها قطر وتعتزم قلب النظام الملكي واستبداله بنظام ديني. (يلعب الإخوان المسلمون دور البعبع في المخيلة السعودية على غرار دور الشيوعيين في أمريكا خلال فترة الخوف الأحمر. ومثل الشيوعيين، عمل الإخوان المسلمون سرًّا على تقويض حكم الدولة، ولكن ليس بالقدر الذي كان متوقعًا)، فيما يقول المدافعون عن العودة إنه يعاقب لجرأته على التحدث بصوت أخلاقي مستقل عن النظام الملكي، ويواجه إمكانية الموت بقطع الرأس.
هل سيفكر محمد بن سلمان في العفو عن أولئك الذين تحدثوا لصالح منح المرأة حقّ قيادة السيارة والتطبيع مع قطر واللذان أصبحا اليوم جزءًا من سياسة الدولة؟ في هذا الشأن قال محمد بن سلمان: “هذا ليس ضمن صلاحياتي. ولم يستخدم أي ملك على الإطلاق” سلطة العفو، ولا ينوي والده أن يكون أول من يفعل ذلك.
أضاف بن سلمان أن المشكلة ليست قلة الرحمة، وإنما مشكلة توازن. نعم، هناك ليبراليون وبعض “الكومبايا” الذين أخلوا بأمن الدولة، وربما قد يكون بعضهم مرشحين للحصول على عفو ملكي، إلا أن بعض الأشخاص الآخرين القابعين في السجون هم في الواقع أشخاص سيئون، لكن منح العفو لا يتم بشكل انتقائي؛ حيث قال بن سلمان: “لنقل أن هناك يسارًا متطرّفًا ويمينًا متطرفًا، إذا غفرت لمجموعة ما، فسيتوجب عليك أن تغفر لبعض الأشخاص السيئين للغاية ضمن تلك المجموعة، وهذا من شأنه أن يقوّض التقدّم الذي حقّقته المملكة العربية السعودية”.
بسهولة؛ وجدت في الرياض شبابًا مبتهجًا بالإصلاحات، ومثل المدن السعودية الكبرى الأخرى، الدمام وجدة، يوجد في الرياض مقاهي متخصصة بوفرة – التي تكون بمثابة مساحات صغيرة مكيفة، في بيئة تتميز بالحرارة والملل، فيما أعرب العديد من السعوديين الذين قابلتهم عن حبهم العميق لأمريكا، وقد أخبرني أحدهم “لقد أمضيت سبع سنوات في ولاية كال ستيت نورثريدج” قبل أن يذكر قائمة المدن التي زارها؛ حيث كان واحدًا من مئات الآلاف من الطلاب السعوديين الذين التحقوا بالجامعات الأمريكية من خلال منح حكومية في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، وذكر الشاب ذاته “لقد درست المالية لكني لم أتخرج قط، ولكنني أمضيت وقتًا رائعًا”، ثم تطرق لذكر أصدقائه الأمريكيين، الذين لديهم أسماء مثل مايك وإيميليو، مشيرًا إلى أنه كان يشرب الكحول ويتعاطى المخدرات لهذا لم تكن درجاته جيدة، فسألته: “هل من الممكن تناول الكمية المناسبة من الميثامفيتامين؟”، فأجاب قائلًا: “عندما عدت إلى السعودية، توقفت عن تعاطيه” وهو ينظر من نافذة المقهى إلى منظر المدينة الجاف؛ مضيفًا: “هذا البلد هو أفضل مركز لإعادة التأهيل على هذا الكوكب”.
في الوقت الحالي، عاد لمزاولة دراسته مرة أخرى في إحدى الجامعات السعودية ويخطط لفتح شركته الخاصة، وكان قد حضر بالفعل حفلات موسيقية، وقال إن أكثر أمنياته كانت الاستماع إلى الموسيقى في الهواء الطلق وتدخين سيجارة فقط، وسألني إذا كنت أعتقد أن ذلك سيحدث، فأجابته أنني لا أعتقد أن ذلك يُعدُّ جزءًا من رؤية 2030، لكنه على الأرجح سيتمكن من تحقيق أمنيته. في وقت لاحق سألت ولي العهد عما إذا كان سيتم بيع الكحول قريبًا في المملكة، متذكرا ما قاله الشاب السعودي، لكن كان هذا هو السؤال السياسي الوحيد الذي رفض الإجابة عليه.
في مقهى آخر في مدينة حائل الشمالية أشار رجل إلى جدارية مرسومة حديثًا للمغنية اللبنانية فيروز؛ حيث كان شعرها يتدلى بشكل جميل على كتفيها، وبجانبها كتبت كلمات إحدى أغنياتها: “أعطني الناي وغني فالغُنى سرّ الوجود”، فيما يتابع الشاب ذاته: “منذ سنة مضت، لم يكن ذلك ممكنًا”، ويقصد بـ”ذلك” في حديثه، كل شيء تقريبًا: شعر المرأة والغناء وإقامة حفلات وحتى عزف الموسيقى في المقهى أثناء حديثنا، فقبل صعود محمد بن سلمان، كان كل عنصر في هذا المشهد ينتهك تشريعات قديمة للمبادئ السعودية، ولكانت الشرطة الدينية، التي تعرف باسم “هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر” تدخلت؛ حيث كانوا يرتدون ثيابًا بيضاء بطول الكاحل، ولحاهم مجعدة وغير مهذبة، ويصرخون على الناس لارتدائهم ملابس غير محتشمة، أو يضربونهم بالعصي لدفعهم إلى المسجد لأداء إحدى الصلوات الخمس اليومية، ومن خلال إمساكهم متلبسين وهم يشغلون أغاني فيروز، كان مدراء المقهى يتعرضون للاعتقال والاستجواب والعقاب، وفي تعبير موجز عن المواقف الأكثر شيوعًا التي سمعتها عن هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قال الشاب: “تبا لهؤلاء الرجال”.
وخلال مقابلاتي التي أجريتها بشأن ممارسات هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، سمعت الكثير من القصص المروعة التي تعرض لها بعض الزوار الأجانب، فعندما سافرت الصحفية مورين داود من صحيفة نيويورك تايمز إلى الرياض في سنة 2002، رصدتها الهيئة في مركز تسوق معربين عن معارضتهم للبسها الذي يظهر قوام جسدها، فيما دافع عنها مضيفها، عادل الجبير الذي شغل منصب وزير الخارجية بعد تلك الفترة، لكنهم لم يتأثروا بمكانته كدبلوماسي بارز، فاضطرت إلى المكوث في غرفتها في الفندق، وفي هذا الشأن كتبت داود: “لقد شعرت بالقلق لأنني كنت في أحد تلك الأفلام حيث يرتكب أمريكي خطأً واحدًا في بلد قمعي وينتهي به الأمر بالتعفن في زنزانة”.
وأخبرت أحد مستشاري محمد بن سلمان أن هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر خلقت معضلة دعائية دولية للمملكة، فأجابني بسؤال “هل لي أن أكون غير مهذب؟ أنا لا أبالي بالأجانب؛ لقد أرهبونا”، كما شبّه الشرطة الدينية برئيس مكتب التحقيقات الفدرالي الأول، إدغار هوفر، الذي كان يعمل بسلطة غير خاضعة للرقابة. (يعود الاسم العربي الرسمي لهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلى مئات السنين، لكنه لا يزال يعتمد كأداة لتدمير رفاهة العيش في المجتمعات؛ حيث يمكن لأي شخص يرغب في عرقلة منافس مهني له أو سياسي أن يدقق في تصرفاته بحثًا عن الأخطاء التي يرتكبها، ثم يتصل بالشرطة الدينية لتعاقبه، أو يمكن للهيئة أن تستعرض سلطتها من تلقاء نفسها، إما لأسباب سياسية – الإطاحة بأمير لا يروق لها – أو لمجرد الترفيه).
قال لي علي الشهابي: “كانت الشرطة الدينية مكونة من أفراد كانوا من الطلاب الفاشلين الذي حصلوا على هذه الوظائف وتم حثهم على إيقاف الفتيات اللطيفات، واقتحام الحفلات وإغلاقها، لقد كانت هذه الشرطة تضم مجموعة سيئة للغاية من العناصر”، كما أخبرني الدبلوماسي السعودي أن البلاد لم تكن بحاجة إليهم، بل كانت المملكة العربية السعودية بحاجة إلى شخص لديه قوة ولي العهد للتخلص منهم، وأضاف قائلا: “عندما يضربك شخص ما لأنه لا يحب ما ترتديه، فهذا ليس مجرد شكل من أشكال المضايقة بل إنها إساءة”.
أمر محمد بن سلمان هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالتنحي، وظل أحد الألغاز الدائمة في المملكة العربية السعودية المعاصرة هو ما يفعله هؤلاء السفاحون، بعد أن أصبحوا غير مرئيين في الشوارع؛ حيث اعترف لي فؤاد العمري، الذي كان يشرف على فرع الهيئة في منطقة مكة المكرمة، أنه منذ الإصلاحات، كان أحد أنشطته الرئيسية هو مراقبة موظفيه للتأكد من أنهم ليسوا متعصبين موالين لجماعة الإخوان المسلمين.
وأسس جد محمد بن سلمان، الملك عبد العزيز، الدولة السعودية الحديثة بدعم من رجال الدين، لكنه اتخذ إجراءات صارمة ضدهم، عندما يتجاوزون صلاحياتهم؛ حيث روى محمد بن سلمان حكاية شهيرة عن جده. في سنة 1921، حضر عبد العزيز جنازة أكبر علماء الدين في المملكة، وأخبر الملك رجال الدين المجتمعين أنهم عزيزون على قلبه – وتقال باللغة العربية، “على عقالي”، وهو الحبل الأسود الذي يحيط بغطاء الرأس ويثبته في مكانه – لكنه حذرهم بعد ذلك: “يمكنني دائمًا هزّ عقالي وإسقاطكم”.
على مدى الخمسين سنة الماضية، اتخذ خلفاء عبد العزيز موقفًا أكثر ليونة مع الوهابيين؛ حيث نمت قوة طبقة رجال الدين السعوديين، وأصبح الحصول على موافقتهم ليتسير شؤون البلاد أمرًا مهمًّا، وفي سنة 1964، حسموا مصير الملك سعود غير الكفؤ عندما سعى أشقاؤه فيصل ومحمد للحصول على موافقة هذه الطبقة الدينية للإطاحة به. في الحقيقة، كانت معارضة هذه الطبقة الدينية المحافظة له تداعيات خطيرة.
في هذا الشأن، يتذكر بيتر ثيرو، المدير السابق لمجلس الأمن القومي الذي عمل على الملف السعودي خلال العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، شعوره بالذعر من الخطب التحريضية التي لا يزال يلقيها الأئمة الذين تدفع لهم الحكومة بعد سنوات من أحداث 11 أيلول/سبتمبر؛ حيث أخبرني ثيرو أنه تحدث مع مسؤول سعودي رفيع المستوى بشأن خطب ما، لكن المسؤول اعتذر عن التدخل في هذه المسألة، مؤكدًا أن الأئمة أصحاب اللحى الطويلة هم بمثابة دوائرهم الانتخابية، لم يضع حكام المملكة العربية السعودية أي قيود تقريبًا على كلام أو سلوك رجال الدين المحافظين، وفي المقابل يعف هؤلاء رجال الدين الحكام من النقد، وأخبرني ثيرو: “كان ذلك النظام الذي استندت عليه الدولة السعودية لسنوات عديدة حتى صعود محمد بن سلمان”.
من يمكنه ألا يهتف لمحمد بن سلمان عندما أعاد التفاوض بشأن هذه العلاقة؟ أخبرني السناتور كريس مورفي، وهو ديمقراطي من ولاية كونيتيكت، أحد أكثر منتقدي محمد بن سلمان في واشنطن، أن الحفلات الموسيقية والقصص المصورة في الرياض لم تساهم بعد في وقف تمويل الحملات الوهابية في الخارج، ويتابع قائلا: “عندما أسافر حول العالم، ما زلت أسمع قصة تلو الأخرى عن الأموال الخليجية والأموال السعودية التي تمول المساجد الوهابية المحافظة للغاية وغير المتسامحة”.
تعتبر السمة المميزة للوهابية التقليدية هي كراهية المسلمين غير الوهابيين، الذين يعتبرهم الوهابيون أسوأ من غير المؤمنين لتحريفهم للدين، ومع بعض التأويلات، يمكن أن تؤدي التعاليم الوهابية إلى ظهور جماعة جهادية على غرار تلك التي أسسها أسامة بن لادن. في هذا الإطار، يوضح مورفي أنه يعتقد “أن الأمر لم ينته بعد”؛ متابعًا قوله: “فالأموال التي تتدفق من المملكة العربية السعودية إلى الجماعات الإسلامية المحافظة ليست شفافة كما كانت قبل 10 سنوات؛ حيث بات يُدفع الكثير منها بشكل خفي، لكنها لا تزال موجودة”.
بعد قضاء ساعات رفقة محمد بن سلمان وبصحبة حلفائه وأعدائه، كنت مقتنعًا بأن تعقيم رجال الدين لم يكن رمزيًا فحسب لأنه كان يقاتلهم بشراسة وبصفة شخصية. أخبرني برنارد هيكل – الباحث في الشريعة الإسلامية في جامعة برينستون – وأحد معارف محمد بن سلمان: “لقد ابتعد الملوك تاريخيًا عن الدين”. وكان إسناد علم اللاهوت والقانون الديني إلى رجال الدين وسيلة وضرورة على حد السواء، لأنه لم يكن لدى أي حاكم، تدريب في القانون الديني، أو في الواقع لحية من أي حجم كبير.
على النقيض من ذلك، يحمل محمد بن سلمان شهادة في القانون من جامعة الملك سعود ويتباهى بمعرفته وهيمنته على رجال الدين. أخبرني هيكل أنه “ربما يكون الزعيم الوحيد في العالم العربي الذي يعرف أي شيء عن نظرية المعرفة والفقه القضائي”.
أوضح محمد بن سلمان قائلاً: “في الشريعة الإسلامية، رئيس المؤسسة الإسلامية هو ولي الأمر، وهو الحاكم”. وكان محقًا، فبوصفه الحاكم هو المسؤول عن تطبيق الإسلام. وعادة ما كان الحكام السعوديون يطلبون آراء رجال الدين، ويعتمدون عليها أحيانًا لتبرير أي سياسة اختارها الملك مسبقًا. ولم يكن محمد بن سلمان يتجه لذلك على الإطلاق.
لقد أوضح أن الشريعة الإسلامية تستند إلى مصدرين: القرآن والسنة، أو السيرة النبوية المجمعة في عشرات الآلاف من الأجزاء من حياة النبي وأحاديثه. قال إن بعض القواعد – ليس الكثير- تأتي من المحتوى التشريعي الواضح للقرآن، وهو لا يستطيع فعل أي شيء حيالها حتى لو أراد ذلك. لكن الأحاديث المنقولة عن النبي كما أوضح ليس لها قيمة متساوية كمصادر للشريعة، وقال إنه مقيد بعدد صغير جدًا لا يمكن الشك في موثوقيته بعد مرور 1400 سنة. وقال إن كل مصدر آخر للشريعة الإسلامية منفتح على التأويل – وبالتالي يحق له تفسيرها على النحو الذي يراه مناسبًا.
يتمثل تأثير هذه المناورة في تجاهل حوالي 95 في المئة من الشريعة الإسلامية والإلقاء بها في حفرة رمال التاريخ السعودي وترك الحرية لمحمد بن سلمان في فعل ما يشاء. قال هيكل إنه “يختصر التقاليد. لكنه يفعل ذلك بطريقة إسلامية. إنه يقول إن هناك القليل جدًا من المسائل التي لا خلاف عليها في الإسلام. وهذا يخوله أن يقرر ما هو في مصلحة المجتمع الإسلامي. ولو عنى ذلك افتتاح دور السينما، والسماح للسياح، أو النساء بزيارة شواطئ البحر الأحمر، فليكن ما يريد”.
وبّخني محمد بن سلمان عندما أطلقت على هذا الموقف اسم “الإسلام المعتدل”، على الرغم من أن حكومته تؤيد هذا المفهوم على مواقعها على الإنترنت، قائلا: “هذا المصطلح من شأنه أن يجعل الإرهابيين والمتطرفين سعداء. إنه يشير إلى أننا في المملكة العربية السعودية ودول إسلامية أخرى نغير الإسلام إلى شيء جديد، وهذا غير صحيح. نحن نعود إلى الجوهر، إلى الإسلام النقي” – كما مارسه النبي وخلفاؤه الأربعة – “كانت تعاليم النبي والخلفاء الأربعة مذهلة، كانوا مثاليين”.
حتى الشريعة الإسلامية المُلزم بتطبيقها ستُطبق على نحو ضئيل. وقد أخبرني محمد بن سلمان قصة – وردت في الحديث – عن امرأة ارتكبت الفاحشة واعترفت بذنبها للنبي وتوسلت إليه لتطبيق الحكم عليها. ولكن النبي أمرها مرارًا وتكرارًا أن تبتعد، مما يعني – على حد تعبير ولي العهد – أن النبي فضّل منح المذنبين كل فرصة للتساهل. (لكن لم يروي محمد بن سلمان نهاية الحكاية: تعود المرأة مع دليل لا جدال فيه على خطيئتها – ابن لقيط – ويوافق النبي حسب ما نُقل عنه على رجمها حتى الموت).
بدلاً من البحث عن الخطيئة ومعاقبتها بطبيعة الحال، قرر محمد بن سلمان تقييد صلاحيات ما يسمى بالشرطة الدينية، وشجّع الخطائين على إبقاء تجاوزاتهم بينهم وبين الله. وقال: “لا ينبغي لنا البحث عن الناس وإثبات التهم الموجهة إليهم. علينا فعل ذلك بالطريقة التي علمنا إيّاها النبي”. ولن تنفذ أحكام الشريعة إلا ضد أولئك الجاهرين بالذنب. كما أكد أن هذه القوانين لا تنطبق على غير المسلمين المقيمين في المملكة، موضحًا “إذا كنت أجنبيًا تعيش أو تسافر في المملكة العربية السعودية، فلديك كل الحق في أن تفعل ما تريد، بناءً على معتقداتك. هذا ما حدث في زمن النبي””.
من الصعب المبالغة في تقدير مدى تأثير هذا التهميش لأحكام الشريعة الإسلامية على تغيير المملكة العربية السعودية. قبل محمد بن سلمان، أصدر رجال الدين المؤثرون فتاوى تظهر ما يمكن تسميته نظرة ما قبل عصر الصناعة للعالم. أعلنوا أن الشمس تدور حول الأرض. ومنعوا النساء من ركوب الدراجات (“خيول الشيطان”) ومشاهدة التلفاز دون حجاب. وأصدر صالح الفوزان – أكبر رجل دين في المملكة اليوم – ذات مرة فتوى معادية لأمريكا تحرم البوفيهات المفتوحة، لأن دفع ثمن وجبة دون معرفة ما ستأكله أشبه بالمقامرة.
وربما استسلم بعض رجال الدين لأنهم اقتنعوا بالتفسيرات القانونية لولي العهد، ويبدو أن آخرين استسلموا للترهيب قديم الطراز، فالآن رجال الدين – المحافظون سابقًا – سينظرون إليك في عينيك وبدون تردد سيتحدثون بتنسيق شبه “آلي” مع برنامج الحكومة، كما دافع وزير الشؤون الإسلامية والإرشاد – الذي لا يبتسم عادة – بمرح عن افتتاح دور السينما والتسريح الجماعي للأئمة الوهابيين؛ حيث أحببته على الفور. ويشير اسمه، عبد اللطيف آل الشيخ، إلى أنه ينحدر من سلالة طويلة من الأخلاقيين الصارمين الذين يعودون إلى محمد بن عبد الوهاب نفسه، وقد أخبرته أنني رأيت مقطعًا من فيلم “زومبي لاند” في بلاده، وإذا أعاد “وودي هارلسون” تمثيل دوره في “زومبي لاند 3″، فسأعود إلى الرياض حتى نتمكن من الذهاب إلى المسرح ومشاهدته معًا. رد على بـ “لما لا؟”.
محمد العريفي، خطيب معروف بمظهره الجميل وآرائه المحافظة، بدأ بشكل غامض في الترويج لرؤية سنة 2030 بعد لقاء مع محمد بن سلمان في سنة 2016. في السابق، كان قد أوعظ بحظر مدائن صالح على السياح المسلمين، وهو موقع أثري مذهل قبل الإسلام في شمال غرب المملكة العربية السعودية، فلقد قضى الله على الحضارة التي عاشت هناك ذات يوم، والمكان سيبقى إلى الأبد تذكيرًا لغضبه. رأت وجهة النظر التقليدية أن المسلمين يجب أن يتبعوا تحذير الرسول بالابتعاد عن مدائن صالح، ولكن إذا كان لا بد لهم من المرور، فيجب عليهم أن يوجهوا نظرهم إلى أسفل وأن يظهروا مخافتهم تجاه الله سبحانه وتعالى. بعد ذلك، في سنة 2019، ظهر العريفي فيما بدا لي، كنوع من فيديوهات الرهائن، صورته هيئة السياحة السعودية، وهو يلقي محاضرة حول تاريخ الموقع ويدعو الجميع للاستمتاع به، وإذا بدا عليه أنه يُظهر خوفًا، فلم يكن ذلك تجاه الله تعالى.
هذه العلامات لا تهدف إلى الحفاظ على الأنقاض؛ إنهم موجودون هناك لتذكيرك بأنك شرير لزيارتك من الأساس.
من غير الواضح في المدن الصغيرة مدى سرعة انتشار التحديث؛ حيث زرت بريدة – عاصمة القصيم – الجزء الأكثر محافظة في البلاد، وخلال اليومين الذين قضيتهما هناك، كانت كل امرأة رأيتها ترتدي عباءة سوداء واسعة، وقد حضرت افتتاح مركز تسوق جديد وجئت مبكرًا لمشاهدة وصول الحشود، حيث انفصل الجنسان عن بعضهما البعض دون مناقشة: نساء في المقدمة، وكلهن يرتدين ملابس سوداء، بالقرب من المسرح؛ حيث كان الأطفال يتلوون القصائد ويغنون؛ ورجال بأثواب بيضاء، في مؤخرة الجمهور وعلى الجوانب. كانت العملية عفوية وطبيعية، ولكن بالنسبة لشخص غريب، كان الأمر رائعًا، كما لو أن الملح والفلفل قد تم رجه في طبق، والحبوب تفصل نفسها ببطء وبشكل مثالي، فالممارسات الثقافية التي تعود إلى عقود أو قرون لا تتوقف فجأة.
كانت الطائف؛ التي تقع خارج مكة على بعد ساعة، المقر الصيفي للملك وأسرته. ويُعتقد أن النبي قد زارها، ويكمل العديد من المسلمين حجهم إلى مكة برحلات جانبية إلى مواقع أخرى من حياة النبي، وقد تعامل الوهابيون تاريخيًا مع هذه الزيارات على أنها غير إسلامية وتستحق الشجب، وكلما وقعت مواقع الحج في أيدي الوهابيين، دمروها بشكل منهجي وبلا رحمة من خلال تسوية الآثار وعلامات القبور وغيرها من الهياكل المقدسة للمسلمين في التقاليد الأخرى.
في صباح أحد الأيام؛ مشيت لمسافة طويلة إلى مسجد يقال إن النبي – صلى الله عليه وسلم – صلى فيه. عند وصولي وجدت مبنىً في حالة سيئة، محاطًا بسياج من الأسلاك الصدئة، وتحولت أجزاء منه إلى أنقاض. لافتة في هذا الموقع – نشرتها وزارة الشؤون الإسلامية – مكتوب عليها باللغات العربية والأردية والإندونيسية والإنجليزية أن الأدلة التاريخية لزيارة النبي غير مؤكدة. واقترحت، علاوة على ذلك، أن “الشعور باحترام أو توقير هذه الأماكن هو نوع من البدعة والتلفيق في الدين، وهو ابتكار لا يقره الله ويؤدي إلى الشرك”.
لاحقًا، التقيت محمد العيسى، وزير العدل السابق في عهد الملك عبد الله، والآن، بصفته أمينًا عامًا لرابطة العالم الإسلامي، مبعوثًا متعدد الأديان لبلاده، ففي الماضي كان رجال الدين السعوديون ينددون بالكفار على اختلاف أنواعهم، ولكن الآن يقضي العيسى وقته في لقاء البوذيين والمسيحيين واليهود، ويحاول الابتعاد عن الظهور العرضي للتعليقات التي أدلى بها في أوقات أقل تصالحية، وسألته عن الموقع، وما إذا كان تسامح المملكة العربية السعودية الجديد – الذي يؤكد عليه بقوة في الخارج، مع غير المسلمين – سيطبق محليًا، وأكد لي أنه حدث بالفعل؛ فقد قال العيسى: “إذا كانت هناك أخطاء في الماضي، فهناك تصحيح الآن”، مضيفًا: “لكل فرد الحق في زيارة الأماكن التاريخية، وهناك قدر كبير من العناية المقدمة لها”، فقلت “لكن العلامات لا تزال مرفوعة”، فأجاب: “أنه ربما يكونون هناك لتذكير الناس بإظهار الاحترام، ويمكنك أن ترى علامات من هذا القبيل في المواقع في جميع أنحاء العالم، مثل: ” لا تلمس أو تأخذ الحجارة””.
لكن هذه العلامات لا تهدف إلى الحفاظ على الأنقاض؛ إنهم موجودون هناك لتذكيرك بأنك شرير لزيارتك من الأساس.
في اليوم التالي لرحلتي إلى المسجد، توقفت عند مقهى ستاربكس في الطائف؛ حيث كان الوقت مبكرًا بعد الظهر، وعندما سحبت مقبض الباب، توقف؛ فقد كان المتجر مغلقًا للصلاة، تمامًا كما لو كانت هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرضت أوقات الصلاة.
بينما كنت أنتظر في الخارج بمفردي، توقفت شاحنة شرطة صغيرة ورائي. أفشى الشرطي السلام فأجبته بالعربية. وبعد استجواب قصير (“ماذا تفعل هنا؟ لماذا أنت هنا؟”) اكتشف أنني أميركي، ولست فلبينيًا كما اعتقد، لذلك اعتذر بشكل محرج ثم غادر. استغرقت دقيقة لأدرك ما حدث: لقد باتت الشوارع خالية من عناصر هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأخذت مكانها الشرطة العادية لكن التيار المحافظ لا يزال طاغيا على المجتمع. وفي بعض الأماكن، كان التغيير فقط في الزي، وتوضح هذه المظاهر المستمرة للتعصب ما يقول منتقدو محمد بن سلمان إنه خطأه النهائي: حتى ولي العهد لا يمكنه تغيير ثقافة المجتمع بمرسوم.
إن الإدراك المتأخر لهذا الخطأ قد يكون وراء أعظم مشاريعه وأبعدها احتمالًا؛ إذا قاومت المدن الحالية أوامرك، فما عليك سوى إنشاء مدن جديدة مبرمجة من البداية على تقديم العطاءات لك. ففي تشرين الأول/ أكتوبر 2017، أصدر محمد بن سلمان قرارًا بإنشاء مدينة في منطقة – أغلبها – غير مأهول على خليج العقبة، بجوار شبه جزيرة سيناء المصرية، والحافة الجنوبية الغربية للأردن، ومدينة إيلات، وتُدعى المدينة “نيوم”، وهو خليط مشوّه بين الكلمة اليونانية نيوس (“جديد”) والكلمة العربية (“المستقبل”).
في الوقت الحاضر؛ لا يوجد سوى القليل من المعسكرات لموظفي مشروع “نيوم”، وهي منطقة صغيرة من إسكان المسالك؛ حيث تنقلهم الحافلات العادية للتسوق في أقرب مدينة – تبوك – وهي مدينة وفقًا لمعايير الصحراء الشاغرة القريبة التي تنتشر فيها الصخور. (إذا كنت تتذكر المشاهد الأولى من فيلم لورانس العرب، عندما يغني بيتر أوتول أغنية “الرجل الذي سطى على البنك في مونت كارلو” وحيدًا تحمله الجمال على أصداء وادٍ من الحجر الرملي، فأنت تعرف المكان). إن طموحات هذه المستوطنة واسعة؛ حيث يقول مديرو “نيوم” إنهم يتوقعون أن تجتذب المدينة استثمارات بمليارات الدولارات وملايين السكان، سواء سعوديين أو أجانب، في غضون 10 إلى 20 سنة.
تطورت دبي بوتيرة مماثلة في التسعينيات والعقد الأول من القرن الحادي والعشرين، فيما قال محمد بن سلمان إنَّ مشروع نيوم “ليس نسخة من أي مشروع في أي مكان آخر”، وليس نسخة من دبي، لكن لمشروع نيوم قواسم مشتركة مع التيار الرئيسي الكبير الخاضع للعولمة أكثر من أي شيء في تاريخ أي بلد، والذي كان حتى وقت قريب ناجحًا بشكل ملحوظ في عزل ثقافته التقليدية عن التزلف للحداثة.
أخذني فريق نيوم في جولة لبضع ساعات وقدموا وعودًا عظيمة بشأن المستقبل، ولقد عرفتُ بأن مدينة نيوم سوف تجذب مستثمريها من خلال خلق بيئة تنظيمية مثالية تتضمن أفضل ممارسات للمشاريع الأخرى، وسوف تستفيد المدينة من التخطيط المركزي، فعندما ترغب مدينة مثل نيويورك أو دلهي في النمو فإنهما تختنقان بسبب حركة المرور والبنية التحتية المتهالكة. في المقابل، لا تمتلك نيوم بنية تحتية موروثة على الإطلاق. سيكون “ذا لاين” محور المشروع – وهو شريط حضري ضيق للغاية يبلغ طوله 106 أميال متصل بقطار سريع واحد ينتقل من طرف إلى آخر في غضون 20 دقيقة. (ولا يوجد قطار قادر عل
حتى الآن، لا تعد نيوم مدينة بقدر ما تمثل طقوس عبادة للبضائع المدنية، فالجوانب العملية يمكن أن تأتي لاحقًا، أو ربما لا تأتي على الإطلاق. (فالتكلفة المتوقعة تبلغ مئات المليارات من الدولارات، وهو مبلغ ضخم حتى بالنسبة للمملكة العربية السعودية)، لذلك تبدو العديد من الأفكار المميزة مجنونة في بداياتها، وما أدهشني هو أن رؤية نيوم في تناقض حقيقي مع السعودية القديمة، حيث يستفحل الفساد والبيروقراطية، ولغاية اليوم لا يزال هذا الكابوس يؤرق في بعض الأحيان أصحاب المشاريع. فلا يوجد في الرياض تقريبًا وسائل نقل عامة. وبغض النظر عن مكان وجودك، فإنه لا يمكنك المشي في أي مكان، ربما باستثناء مسجدك المحلي. لم يتطرق أحد إلى الدين في نيوم على الإطلاق. وحتى موقع نيوم يثير التساؤلات، فهو بعيد عن المكان الذي يعيش فيه السعوديون فعليًا. وبدلاً من ذلك، فقد تم اختيار منطقة خالية تقريباً، كما لو أنها تبحث عن مصدر إلهام من الأردن وإسرائيل.
على هذا النحو، تعكس نيوم إعلان محمد بن سلمان الإفلاس الفكري والثقافي نيابة عن بلاده. القليل من الدول أظهرت استعدادًا لتحمل تكاليف مثل هذا المشروع الضخم مثلما فعلت المملكة العربية السعودية، وبدأ خطة جديدة خالية من أعباء الماضي. وبالنسبة إلى أي جزء من أجزاء المملكة المتمسكة بتاريخها القديم، فإن مشروع نيوم يعد بمستقبل كل ما فيه مخلف لما ألفوه وعليهم الانتظار طويلاً لرؤية ذلك.
خلال فترة التسعينيات والعقد الأول من القرن الحادي والعشرين، كانت المملكة العربية السعودية مُصدِّرًا أساسيًا للرؤية الجهادية. ولكن السرد القياسي الذي تتبناه حاليًا الدولة السعودية نفسها هو أنه تم إغواء المملكة من قبل دعاة الإسلام المتشدد. وفي نهاية المطاف، أعاد الجهاديون الذين أرسلتهم السعودية إلى الخارج (وأشهرهم أسامة بن لادن) توجيه جهودهم نحو النظام الملكي السعودي وحلفائه، حيث كان 15 من أصل 19 مختطفًا في أحداث 11 أيلول/ سبتمبر مواطنين سعوديين.
أخبرني فيليب زيليكو، مسؤول وزارة الخارجية في عهد جورج دبليو بوش والمدير التنفيذي للجنة 11 أيلول/ سبتمبر، بأنه “وقعت سلسلة من الأحداث جعلت السعوديين يدركون أنهم لا يستطيعون الاستمرار في ممارسة اللعبة التي كانوا يلعبونها”. شكلت سنوات العنف التي أعقبت أحداث 11 أيلول/ سبتمبر صدمة بالنسبة للسعوديين ودفعتهم إلى إدراك أن لديهم حسابًا عظيمًا قادمًا، على الرغم من تحرك الحكومة لسحق المتورطين في هذه الأحداث بعد أن بدأ الجهاديون يستهدفون المملكة نفسها. كان ينقص السعوديين خطة لإعادة توجيه طاقات الجهاديين. يقول زيليكو: “لقد احتاجوا إلى قصة ما عن نوع البلد الذي كانوا سيصبحون عليه عندما يكبرون”. فلن تكون الجهادية سمة ذلك البلد. لكن لم يكن هناك أي بديل فوري، سواء للمجتمع أو للأفراد المنجذبين نحو الجهاد. ثم تُركت المملكة العربية السعودية لتفعل ما فعلته معظم الدول الأخرى، بما في ذلك الولايات المتحدة، وهو سجن الإرهابيين حتى يكبروا في السن ويصبحوا عاجزين عن القتال.
ى تحقيق هذه السرعة حاليًا.) ويُفترض أن يكون هناك ممر مخصص للمترجلين – بينما ستكون سكة القطار تحت الأرض – مع طريق قصيرة متقاطعة مع محوره الرئيسي تؤدي إلى الصحراء النقية، إلى جانب مشروع لتحلية المياه وإنتاج الطاقة المتجددة.
خلال السنة الماضية، أبلغني المسؤولون السعوديون أن ولي العهد لديه خطة جديدة لإبطال تأثير الجهاديين. وذات صباح أرسلوا قافلة من سيارات الدفع الرباعي التابعة لأمن الدولة إلى فندقي، ومع وميض الأضواء، تركنا وراءنا ناطحات السحاب الزجاجية في العاصمة واستمرينا على طول إحدى الطرق المستقيمة التي تجلب النعاس وتمتد من الرياض إلى مكان آخر. وبعد ساعة، وصلنا إلى منطقة تسمى الحائر وعبرنا حاجزًا أمنيًا.
الحائر هو سجن تابع لأمن الدولة تديره المباحث السعودية، ما يعني أن سجناءه ليسوا لصوص سيارات ومزورين بل معتدون على الدولة. ومن بينهم يوجد جهاديون من القاعدة وتنظيم الدولة – حيث قابلت ما لا يقل عن 12 منهم – بالإضافة إلى إسلاميين أكثر اعتدالاً مثل الداعية سلمان العودة.
ثم مررنا عبر نقاط التفتيش وعبر البوابات إلى مُجمّع تعصف به الرياح ومغطى بغشاء من الغبار البني الفاتح، مثل التيراميسو. استقبلنا مدير سجون أمن الدولة وما بدا أنه طاقم تلفزيوني مكون من ستة رجال على الأقل يحمل كل منهم لاقط صوت أو كاميرا. كنت قلقًا بشأن ما سيحدث بعد ذلك. فلا تبدو الأحداث ذات القيمة الإخبارية داخل أسوار سجون الإرهابيين جيدة، وكان في الخلفية عدة رجال ملتحين يرتدون بدلات عمل رمادية متطابقة.
ثم اتضح أن مدير سجون أمن الدولة كان بالفعل مهووسًا بالجهاد، وبينما كنا نحتسي الشاي تذكرنا العديد من الشخصيات البارزة في تاريخ الإرهاب السعودي. وبعد أن أنهينا هذا الحديث القصير، دعاني للانضمام إليه في قاعة تشبه قاعة محاضرات في حرم جامعي صغير، وقد نقر على عدسة الكاميرا بينما تبعه المصورون.
داخل القاعة، صعد إلى المسرح رجال يرتدون بدلات. أوضح قائدهم، وهو رجل يُدعى عبد الله القحطاني، أنه ومعظم الآخرين في الغرفة كانوا سجناء، وأن لديهم عرضًا تقديميًا عبر برنامج “باوربوينت” يرغبون في عرضه لي بخصوص المشروع الذي كانوا يديرونه في السجن. وكان طاقم التصوير مؤلفًا من سجناء أيضًا، وبدا أنهم كانوا يوثّقون زيارتي من أجل أعضاء المجموعات الجهادية المسجونين. وما تلا ذلك كان أكثر مجموعة سريالية من شرائح العرض رأيتها في حياتي على الإطلاق، عُرض مخطط تنظيمي لشركة وخطط لمجموعة أعمال يديرها الجهاديون وغيرهم من أعداء الدولة من داخل السجن. بعد ذلك، تحدث القحطاني باللغة العربية وتمت الترجمة من قبل نظيره سريع الانفعال في المكان المجاور.
أظهر المخطط التنظيمي الرئيس التنفيذي القحطاني في القمة، مع إشرافه المباشر على سبعة مكاتب تابعة له، من بينها المالية وتطوير الأعمال وشؤون “البرامج”. وكان يوجد تحت آخر هذه المكاتب مكتب فرعي آخر يسمى “المسؤولية الاجتماعية”.
وأوضح القحطاني أن 89 بالمئة من نزلاء السجون شاركوا في البرنامج حتى الآن. وبطريقة ما، كان مثل أي برنامج صناعة سجون آخر على غرار الولايات المتحدة، يقوم موظفو مراكز الاتصال بالسجناء بتقديم سمك البلطي أو دفع المكانس في ممر السجن مقابل دولار في الساعة. لكن مجموعة سجن الحائر، التي كانت تعمل كشركة تسمى ببساطة “باور”، كانت شركة فعلية وعكست ريادة أعمال قوية.
أخذني القحطاني والمترجم إلى حديقة صغيرة، حيث كان السجناء يزرعون الفلفل تحت أغطية بلاستيكية ويربون النحل ويحصدون عسلهم لبيعه في متجر السجن في عُلب صغيرة عليها شعار “باور”، وقاموا أيضًا بتشغيل مغسلة ملابس وقدموا لي قائمة الأسعار. ثم قالوا إن السجن سيغسل ملابسك مجانًا، لكن الموظفين والسجناء على حد سواء يمكنهم إحضار الملابس هنا مقابل خدمات خاصة، مثل الخياطة بالأجرة. وكان بإمكاني رؤية قمصان مغسولة حديثًا ومطبوعة بأرقام سجناء بالحبر على الياقات. يبدأ كل رقم بسنة الدخول في التقويم الإسلامي. ورأيت واحدة بدأت عام 1431، أي منذ حوالي 12 عامًا.
كان لدى جميع الرجال تقريبًا لحى كثيفة، وكان لدى العديد منهم زبيبة (حرفياً “الزبيب”)، وهي بقعة متغيرة اللون ومجعدة تظهر عند ضغط الرأس على الأرض في الصلاة. وكانت بعض منتجاتهم حرفية وذات طابع ديني. ثم قادوني إلى غرفة صغيرة، وهي مصنع لإنتاج العطور لبيعه خارج السجن، وإلى غرفة أخرى حيث كانوا يصنعون سُبحات من نوى الزيتون.
خاطبني عضو سابق في القاعدة قائلاً: “شم هذه الرائحة هنا”، واضعًا تحت أنفي شريطًا ورقيًا مبللًا بمادة كيماوية لم أتمكن من التعرف عليها، أعتقد أنها كانت رائحة الخزامى. ثم قدَّم لي سجين آخر في مقصف السجن، الذي تديره شركة “باور”، لبنًا رائبًا مثلجًا بالمجان. بدأ اللبن في الذوبان بينما كنت أتجول في السجن، ثم أخذه المترجم الفوري حتى أتمكن من تدوين الملاحظات.
وجدت أن أغرب ما في الأمر هو المركز العصبي لشركة “باور” – وهو مقصورة باهتة اللون مليئة بحجرات المكاتب – حيث كان المديرون التنفيذيون يرتدون بدلات رسمية وكن الموظفون من المستوى المتوسط يرتدون قمصانًا نصف كم زرقاء تحمل علامة “باور” حاملين أجهزة الكمبيوتر الخاصة بهم. كما كان لديهم غرفة اجتماعات بها سبورة بيضاء (مكتوب عليها في الأعلى “بسم الله الرحمن الرحيم” باللغة العربية، وتم مسحها جزئيًا والباقي كان بقايا جلسة عصف ذهني للمبيعات)، مع كرسي استقبال وصور للملك وولي العهد يشرفان على كل شيء.
لا يوجد أغرب من الحياة الطبيعية التي لا يتوقعها المرء على الأقل. ويبدو أن هؤلاء الجهاديين – وهم الأشخاص الذين كانوا مؤخرًا على استعداد للتضحية بأرواحهم من أجل إزهاق روحي – قد تم تحويلهم إلى “موظفي” مكاتب. حاولت المملكة العربية السعودية، قبل خمس عشرة سنة، تغيير أفكارهم عن طريق إرسالهم لمناقشة رجال دين موالين للحكومة، الذين أخبروا السجناء أنهم أساءوا تفسير الإسلام وعليهم أن يتوبوا. ولكن إذا تم تصديق هذا الأمر، فإنه من الواضح أن الإرهابيين لا يحتاجون إلى نقاش مدروس حول إرادة الله، وإنما هم بحاجة إلى تحطيم معنوياتهم بسبب الشقاء وراء الشركة.
لم يكن المترجم الفوري المفعم بالنشاط الذي كنت أتعامل معه، والذي كان يومئ ويصيح طوال الجولة، من الجهاديين العاديين. فقد كان أميركي المولد وعضواً في القاعدة يدعى ياسر عصام حمدي. كان حمدي، البالغ من العمر الآن 41 سنة، قد خرج من تحت كومة من الأنقاض في شمال أفغانستان في كانون الأول/ ديسمبر 2001. وكان صديقه العزيز، الذي انتشل من تحت نفس الأنقاض، هو جون ووكر ليند، من ضمن ما يسمى طالبان الأمريكية. أمضى حمدي شهورًا في سجن غوانتانامو قبل نقله إلى الولايات المتحدة، حيث تم إطلاق سراحه، ذلك أن والده، وهو مسؤول تنفيذي سعودي بارز في مجال البتروكيماويات، استطاع رفع قضية حمدي إلى المحكمة العليا، وربح القضية (حمدي ضد رامسفيلد). بعد ذلك، نُقل حمدي إلى المملكة العربية السعودية بشرط أن يتخلى عن جنسيته الأمريكية (حيث ولد في ولاية لويزيانا). قرر السعوديين أنه بحاجة إلى مزيد من الوقت في السجن، لذلك احتجزوه لمدة ثماني سنوات في منشأة بالدمام، وسبع سنوات أخرى في سجن الحائر. ومن المقرر إطلاق سراحه هذه السنة.
أرشدني حمدي مثل طفل يقود والديه حول المخيم النائم. وأوضح أن شركة “باور” هي جزء من كيان أكبر داخل السجن، يُعرف باسم “إدارة الوقت”، وهو برنامج شامل غير محدد المعالم يهدف إلى تغيير الأفكار الخبيثة للسجناء واستبدالها بأفكار نيّرة. ويقوم هذا البرنامج على تدريب السجناء داخل الشركة، لكنه أيضًا يجمع النزلاء معًا من أجل الأغاني والموسيقى، والقراءات الشعرية ونشر الصحف (حصلت على نسخة ممزقة من صحيفة إدارة الوقت)، وكذلك من أجل إنتاج البرامج التلفزيونية. وشاهدت أيضًا غرفة مليئة بالرجال يغنون أغنية ألفوها بأنفسهم بعنوان “يا وطني!”، ثم عرضوا مقاطع فيديو يشيدون فيها بالحكومة وولي العهد. وتجدر الإشارة إلى أن القاعدة وتنظيم الدولة يُحرّمان معظم أنواع الموسيقى ويشتمون النظام الملكي. وكحال العديد من السعوديين الآخرين، يبدو أن هؤلاء الرجال قد استبدلوا تعصبهم الديني بالتعصب القومي، وقد يتساءل المرء أحيانًا عما يؤمنون به حقًا.
تعقبنا مدير السجون بشكل لصيق، ثم ألقيت عليه نظرة عندما سمعت اسم أحد أشهر النصوص الجهادية، وهو كتاب قواعد اللعبة لدى تنظيم الدولة، الذي يطلق عليه “إدارة التوحش”. إنه دليل مشوه لتدمير العالم واستبداله بآخر جديد، وهذا ما كان يفعله هذا البرنامج بشكل عكسي أي استبدال شهية الجهاديين الوحشية لمستقبل خيالي بأخرى تركز على الواقع والحاضر والنظام الاعتيادي.
أخبرتُ حمدي أنني قد تواصلت مع صديقه ليند، الذي قضى 17 سنة في السجن الفيدرالي في الولايات المتحدة قبل إطلاق سراحه في سنة 2019. وقد استنتجتُ من مراسلاتنا بأنه كان متطرفًا كما كان حاله على الدوام، وأنه أمضى إقامته في السجن – في دراسة انفرادية للنصوص الإسلامية – مما يؤكد نزعته العدوانية وتحوله من مؤيد للقاعدة إلى مؤيد لتنظيم الدولة.
“حقا” سأل حمدي، قبل أن يغامر في تخمين السبب قائلاً: “الولايات المتحدة لا تعرف كيف تتعامل مع المسلمين، عندما كنت في أفغانستان، كان لدي تفكير متطرف”، لكن النزول في سجن سعودي ساعد كثيراً. وأضاف: “الاختلاف هو أنه في السجن [هنا] لدينا برنامج يهدف إلى نسف التفكير الذي نملكه في عقولنا. لقد كان بمفرده لمدة 17 سنة”.
قال حمدي “لم يكن لدينا الوقت لقراءة الكتب الإسلامية؛ بل لم يكن لدينا الوقت حتى لفعل أي شيء سوى العمل على تحسين أنفسنا”. وقد كان متخصصًا في قسم الإعلام في شركة “باور”، ويمكنه الآن إنتاج مقاطع فيديو بجودة عالية. وأضاف “لم أكن أعرف ما هو المونتاج، وما هو التصميم”.
كنا نقود السيارة إلى جزء آخر من السجن، حيث كان مدير السجون يجلس في المقعد الأمامي، فيما يجلس حمدي في المقعد الخلفي. واستطرد قائلاً “لكنني الآن محترف وخبير مونتاج كامل”، ثم أشار إلى المدير الذي اكتفى بالتبسّم ولم يتكلّم أو حتى ينظر إلى الوراء، قائلاً “كل الشكر لهذا الرجل، لقد فتحت لنا الحكومة هذا المكان، وأنا الآن في سيارة أتحدث إليكم بسلام ودون مشاكل”. وقال إنه عند إطلاق سراحه، سيعمل لصالح شركة والده أو سيسعى إلى تحقيق حلمه في الإنتاج السينمائي والتلفزيوني.
تساءلتُ عما قد يكون عليه الحال عندما يكون لديك زميل في العمل مثل حمدي، مع تاريخ عمل غير تقليدي وميل للتطرف إن صح التعبير وحب لأسامة بن لادن؛ لكنه يُقسم الآن مرارًا وتكرارًا بأنه قد غيّر مساره واستبدله تمامًا بمسار يحبه، وهو إنتاج الأفلام والفيديو وأصبح يميل نحو ولي عهد المملكة العربية السعودية، إذ كنت متيقنًا من أن حمدي سيكون زميلًا أفضل من جون والكر ليند.
سألتُ العديد من السجناء في السجن كيف يمكنهم استبدال الجهاد بهذه الأشياء الدنيوية، والتي كانت بالتأكيد تافهة مقارنة بفرصة الموت في سبيل الله، لكنهم ضحكوا بتوتر وكأنهم يسألونني “هل نغادر السجن ونقتُل مرة أخرى؟” كانوا معظمهم لا يزالون في شبابًا في مقتبل العمر يتوقون إلى الحرية، وكان الهدف بالضبط هو نزع أي رغبة وميل لديهم لأي شيئ مثير وغير عادي. بعضهم ذهب إلى سوريا وبالكاد نجا من الموت، وقد كانت لديهم رؤية كافية. قال لي أحدهم “لا نريد سوى حياة طبيعية، سأكون سعيدا لمجرد الخروج والسير في البوليفارد في الرياض، والذهاب لتناول الطعام في ماكدونالدز”.
قال آخر “سافرت إلى سوريا لأنه عُرض عليّ أن أشارك في تحقيق حلم الخلافة”، بينما أخبرني علي الفقعسي الغامدي ـ وهو رجل مولع بالكتب اصطحب بن لادن في تورا بورا ـ أنه أدرك الآن أن مثل هذه الأحلام مزيفة. وتساءل ما هو الهدف من الحلم الكبير والمثير عندما يكون الحلم مزيّفًا؟ إنّ الطموح الصغير الذي يمكن تحقيقه بالفعل أفضل من الطموح الكبير الذي لا يمكن تحقيقه. ونظر إلي بثبات، كما لو كان يحاول إقناعي وليس نفسه، ثمّ قال “إنّ رؤية 2030 حقيقية”.
يجب على أمريكا الآن أن تقرر ما إذا كانت هذه الرؤية تستحق التشجيع، لا سيما أنه إذا كنت قد أخبرتني قبل عشرين عامًا أنه في سنة 2022، سيطبّع ملك السعودية المستقبلي العلاقات مع “إسرائيل”، وأنّ المرأة ستتمتع بعضوية كاملة في المجتمع وأنه سيحارب الفساد ـ حتى في عائلته ـ وسيوقِف تدفق الجهاديين وسينوّع ويُحرّر اقتصاده ومجتمعه، وسيُشجّع العالم على رؤية بلاده ويُشجّع بلاده على رؤية العالم، كنت سأخبرك أن آلة الزمن لديك معطلة وأنك قمت بزيارة سنة 2052 على أقرب تقدير. أما الآن، مع وصول محمد بن سلمان إلى السلطة، فإنّ كل هذه الأمور تحدث، لكنّ التأثير لم يكن مُرضيًا كما كنت أتمنى.
في سنة 1804، قام المستبد نابليون بونابرت باعتقال دوق إنجين لويس أنطوان للاشتباه في تحريضه على الفتنة، رغم أن الدوق كان شابًا وساذجًا ولم يُشكّل تهديدًا كبيرًا لنابليون، إلا أنّ الإمبراطور اللاحق أعدمه الأمر الذي أصاب الملوك في جميع أنحاء أوروبا بالصدمة. إذا كانت هذه هي الطريقة التي تعامل بها نابليون مع دوق ساذج غير مؤذٍ، فما الذي يمكن أن يتوقعوه منه مع نمو سلطته وتلاشي معارضته الداخلية خوفًا؟ نبه إعدام إنجين أكثرهم إدراكًا إلى أن نابليون شخص لا يمكن توقع أفعاله أو استرضائه، واستغرق الأمر عقدًا من المذابح لمعرفة كيفية إيقافه.
وما أشبه اليوم بالأمس، فبينما لم تكن مخططات إنجين لِتوقف نابليون، فإنّ مقالات خاشقجي التي كتبها لإيقاف محمد بن سلمان لم توقِفه، لكنّ مقتله كان بمثابة تحذير بشأن شخصية الرجل الذي سيدير المملكة العربية السعودية لنصف القرن المقبل، ومن المنطقي أن تقلق بشأن هذا الرجل على الرغم من أن معظم ما يفعله جيد ومُنتظر منذ وقتٍ طويل.
في الوقت الحالي، الطلب الرئيسي لمحمد بن سلمان للعالم الخارجي ـ وخاصة الولايات المتحدة ـ هو البقاء بعيدًا عن شؤونه الداخلية؛ وهو الطلب المعتاد من المستبدين الذين يسيئون التصرف. وعلّق قائلًا “ليس لدينا الحق في إلقاء محاضرة عليك في أمريكا، وكذا الشيء نفسه بالنسبة للعالم الخارجي”، وأضاف بأن “الشأن السعودي هو أمر يخص السعوديين، لذا لا يحق لك التدخل في شؤوننا الداخلية”
لكنه في غضون ذلك يُقر بأن مصير البلدين لا يزال مترابطًا. ففي واشنطن، يرى الكثيرون أن صعود محمد بن سلمان كان مدفوعًا بدعم أمريكي. وقد قال لي السيناتور مورفي “كانت هناك لحظة كان بإمكان المجتمع الدولي أن ينظر إلى مقتل خاشقجي بأنه القشة التي قصمت ظهر البعير، ويعلن قطع العلاقات مع محمد بن سلمان”، لكنّ إدارة ترامب أنقذته عندما كان في أضعف حالاته. وأضاف مورفي “إذا أصبح محمد بن سلمان ملكًا في نهاية المطاف، فهو لا يدين بالجميل لأحد بقدر ما يُدينه لجاريد كوشنر”، وهو المبعوث الشخصي لترامب إلى ولي العهد. وفي سياق ذلك، أخبرني لي أحد المحللين السعوديين “أنتم الأمريكيون تعتقدون أن هناك شيئًا غريبًا في الحاكم الذي يرسل صهره غير المؤهل لإدارة العلاقات الدولية، لكنّ هذا طبيعي تمامًا بالنسبة لنا”.
لا يزال البعض يأمل أن لا يصل محمد بن سلمان إلى العرش، وقد قال لي خالد الجبري بتفاؤل “واحد فقط من آخر خمسة أولياء عهد أصبح ملكًا في نهاية المطاف”. لكنّ كل ما أراه يُشير إلى أنّ صعوده للعرش مؤكد، وأنّ البحث عن بدائل أمرٌ مُستبعد، إذ تم تهميش اثنين أولياء العهد الأربعة وتم استبدالهم بمحمد بن سلمان، بينما مات الاثنان الآخران بسبب كِبر سنّهم.
في الوقت الذي تحتاج فيه الولايات المتحدة إلى شركائها في عزل إيران، فإن محمد بن سلمان شريك قوي في المنطقة. وحتى على الصعيد المحلي، يظل بن سلمان الرجل المناسب للمهمة من بعض النواحي. وكما ذكرني فيليب زيليكو، فإنه على الأقل ليس حاكمًا في حالة إنكار، مؤكدًا “أردنا قيادة سعودية تواجه مشاكلها، وتنطلق في صراع طموح لإعادة تشكيل المجتمع السعودي ليُلائم أسلوب العالم الحديث”. والآن لدينا مثل هذا القائد، وهو يقدم خيارًا ثنائيًا يتمثل إما في دعمه أو الاستعداد لطوفان الجهاديين.
كان محمد بن سلمان مُحقًا عندما أشار إلى أنّ موقف إدارة بايدن تجاهه هو في الأساس موقف مُخالف، لا سيما مع كثرة طلب السعودية التوقف عن قصف المدنيين في اليمن، وإيقاف حبس وتقطيع أوصال المعارضين. وعلى الهامش، قد تكون الولايات المتحدة قادرة على إقناع محمد بن سلمان بإرخاء قبضته، ولكن فقط من خلال إقناعه أولاً بأنه سيُكافأ على سلوكه الجيد، ولن يكون الإقناع ممكنًا على الإطلاق دون الاعتراف بأن لعبة العروش قد انتهت بانتصاره.
قال لي: “إذا أدرنا البلاد بشكل عشوائي، فإن الاقتصاد بأكمله سينهار”، وقد اتضّح ذلك في استراتيجية القذافي في ليبيا. كان الملك سلمان قد اتخذ إجراءات تهدف ظاهريًا إلى إجبار ابنه على الحكم بشكل أكثر شمولية بعد وفاته، وقام بتغيير قانون الخلافة لمنع الملك القادم ـ أو أي شخص من العائلة ـ من تسمية أحد أبنائه وليًا للعهد. وكنت قد سألتُ محمد بن سلمان عما إذا كان هذا ما يهدف إليه القانون، فقال نعم. وسألته عما إذا كان يفكر في أي شخص لهذا المنصب، فأجاب بأنّ “هذا الأمر من المُحرّم البتّ فيه، وسأكون آخر من يعلم”.
لكنه عندما يصبح ملكًا، فإن القواعد ستصبح مِلْكًا له، وربما يكون ولي العهد ذا عقل أرق وروح ألطف إذا قام بتنفيذ إصلاحات محمد بن سلمان دون اللجوء إلى أساليبه الوحشية. ولكن من غير المجدي التفكير في السياسة في حالة من الخيال الطفولي، كما لو كان من الممكن استحضار ملك سعودي جديد من خلال إغلاق عينيك وتمني وجوده، ثم فتحهما لتجد محمد بن سلمان هناك. وإذا لم يكن كذلك، فإن الرجل الذي يحكم مكانه لن يكون دالاي لاما في نسخته العربية، بل سيكون ـ في أحسن الأحوال ـ عضوًا في الحرس القديم السعودي غير المستدام، أو واحدًا من الملتحين الجهاديين ـ في أسوأ الأحوال ـ وأكثر ثراءً من كروسوس ومستعد للقتال. وقد برّر محمد بن سلمان عملية فندق ريتز موضحًا “في بعض الأحيان تجد نفسك مُخيّرًا بين قرارين أحلاهما مُر”.
بما أنّ الواقع قد فرض أمامنا محمد بن سلمان، فإنّ السؤال الذي يشغل أمريكا هو كيف بإمكانها التأثير عليه؛ وعلى الرغم من أن هذا السؤال عملي إلا أنه ليس أخلاقيًا. وفي الواقع، إن كلا من السعوديين والأمريكيين الموجودون الآن في فندق ريتز كارلتون مجبرون على المساومة مع السجان الذي يعدنا بالازدهار إذا خضعنا لمطالبه، أو مواجهة الجنون إذا لم نفعل ذلك. المأزق مألوف ومماثل لذلك المأزق الذي وضع فيه كل مستبد عربي علماني أمريكا منذ الخمسينيات، واُستبدلت المجتمعات شبه القبلية في مصر والعراق وسوريا بالمجتمعات الحديثة، وأصبحوا جميعًا ديكتاتوريات قذرة تبرر نفسها على أنها حصن منيع ضد الفوضى.
قبل عشرين عامًا، امتدح مراقبو سوريا بشار الأسد لاتجاهاته الحداثيّة مع انفتاحه على النفوذ الغربي وأذواقه الغربية؛ إذ كان يحب مطرب البوب البريطاني فيل كولينز، فكيف يمكن أن يكون شريرًا؟ أما في الوقت الحالي، فيعترف الجميع خارج دمشق وطهران وموسكو بأنه المنافس الوحيد لصدام حسين على لقب الزعيم العربي الأكثر إجرامًا.
أكمل محمد بن سلمان حوالي ثلاثة أرباع فترة الانتقال، لكنّه حاد عن كونه ملكا قبليا بخصائص ثيوقراطية ليصبح مستبدًا قوميًا علمانيًا. وفي حين أنه لا يجب أن تكون بقية تلك الفترة الانتقالية قاسية مثل البداية، إلا أنّ محمد بن سلمان لا يُظهر أي علامة على التراجع. ومن هنا، يمكن للولايات المتحدة ـ بل يجب عليها ـ إثبات أن أمن المملكة العربية السعودية وتنميتها سيتطلبان أدوات مختلفة للمضي قدمًا، وقد تقترح ما يجب أن تكون هذه الأدوات؛ لكنها ربما لا تستطيع أن تجعل محمد بن سلمان يستخدمها.
يتمثل النهج الأكثر واقعية في التأكد من أنّ الإصلاحات التي أدخلها محمد بن سلمان ستظل ثابتة، وأنّ التغييرات التي أجراها على الثقافة السعودية لا رجعة فيها، كما أن التغييرات المتمثلة في انفتاح البلاد والتهميش القسري لطبقة ملكية ملتوية يصعب التراجع عنها، وهي ملزمة حتى للعاهل المطلق الذي أصدرها. وفيما لاقت خطوة منح رُخَص القيادة للسيدات إشادات جماعية، فإنّ الرجوع عنها سيُعطّل حياة الملايين وسيُذكّي الاحتجاجات في جميع أنحاء المملكة. لذا لا بد لأمريكا أن تعترف بمثل هذه التغييرات وتعمل على تشجيعها.
قد تكون هذه الطريقة الوحيدة لدفع القوة المطلقة إلى إرخاء قبضتها ببطء دون أن يلاحظ أحد. ففي إنجلترا، استغرق الانتقال من ملكية مطلقة إلى نظام دستوري كامل 200 عام، ولم يُشرف عليها دائمًا ملوك مُستقرّون. لا يزال محمد بن سلمان شابًا ومكتنزًا للسلطة، وكل من توقع أنه سيخفف من حدة المعارضة أثبت حتى الآن أنه كان متفائلًا، إلا أنّ الخمسين سنة هي فترة حكم طويلة، ويمكن لجنون الملك محمد أن يُفسح المجال لشيء آخر: إمّا التخلي البطيء عن السلطة – أو ـ كما هو الحال مع الأسد ـ الاستمرار بممارستها بأسلوب أكثر عنفًا.