كان آخر ما كتبته منذ شهر يوليو 2013 يتعلق بحثّ أصحاب القرار من كل الأطراف السياسية على حقن دماء الشباب البريء واحترام سيادة القانون وتغليب الصالح العام – من كل الأطراف، وعلى حث الإسلاميين خصوصاً على حماية المشروع الإسلامي الإصلاحي الكبير بل والدعوة الإسلامية نفسها، والذي قلت إنهما سيتعرضان للخطر على مستوى العالم إذا “انتحرت” الحركة الإسلامية سياسياً. وقد حدث ذلك للأسف الشديد. وتوالت الأحداث، وكنت أرقبها بألم شديد على ما آل إليه حال مصر على كل المستويات السياسية والاقتصادية والصحية والثقافية والتعليمية بل والفنية والرياضية. وقد آثرت عدم التعليق على التفاصيل في الأحداث المتلاحقة حتى لا أنجرّ إلى جدل عقيم.
بين فريقين
الجو الاستقطابي الحالي العجيب في مصر جعل المصريين يعيشون فعلاً في بلدين مختلفين: نصفهم في بلد يتصورون أن مشكلته الكبرى هي “الإرهاب” وأن العالم يتآمر عليهم نصرة لهذا الإرهاب ولابد إذن -عندهم- من اللجوء إلى العنف وإلى سلاح الجيش وإلى اضطهاد من يخالفهم من المصريين بل ونزع الجنسية المصرية نفسها منهم لحلّ الأزمة الخطيرة!
أما النصف الآخر من الشعب فيعيش في بلد آخر هو كان -عندهم- على وشك النهوض والتقدم والنصر والتمكين في شهور معدودة فتآمرت عليه الدنيا -أيضاً- لأن الدنيا كلها ببساطة “تعادي الإسلام” كما يقولون، وأنه لابد -عندهم- أن تنهار الدولة نفسها أو توشك أن تنهار حتى يتعظ النصف الأول! والكثرة الغالبة من المصريين الذين تحدثت معهم منذ ذلك الوقت لا يريدون سماع صوت العقل، بدءاً بالشباب “الإسلامي” الذين ظنوا في شهر يونيو الماضي أنه من المستحيلات أن تستخدم الشرطة والجيش العنف المفرط والقتل الجماعي لفض الاعتصامات وأن منطق ما هو “ممكن” عندهم يقتضي إلى الآن عودة الدكتور مرسي إلى الرئاسة، وهو وهم عجيب.
الأطروحات السياسية الكبرى حاليًا لا تحمل حلاً للمشكلة المصرية أبداً، سواء “انتُخب” وزير الدفاع السابق لرأس السلطة أم لا، حلّ المشكلات المصرية عندي -وعلى رأسها المشكلة السياسية- هو حلّ أخلاقي وثقافي وتعليمي وحضاري بالأساس، ويأتي من أسفل إلى أعلى.
ورغم انطلاقي من منظومة القيم الإسلامية فالأمر سواء عندي: أكان هذا الإصلاح بناء على قيم الإسلام من حركة أو حكومة “إسلامية” أو كان بناء على قيم مدنية إنسانية من حركة أو حكومة “ليبرالية” أو سمّت نفسها “مدنية” أو حتى “علمانية”، أو مزيج متوازن من كليهما معاً وهو الأولى حتى يشترك المصريون جميعاً في الحل كلٌّ حسب وجهته.
نحو حل أخلاقي حضاري
وحتى لا يساء فهم الصمت عن التعليق على الحماقات الكثيرة الحاصلة أو الارتفاع عن مستوى الحوار المتدني الحالي، على أنه تأييد للخطأ أو الظلم أياً كان، أو أنه خوف من طرف من الأطراف أياً كان بدا لي أن أسجل باختصار وفي نقاط محددة موقفاً مبدئياً من ما يحدث في “أم الدنيا” مع تجنب التفاصيل. أرجو أن يتسع صدر القارئ الكريم لموقف لا ينحاز إلا للمبادئ المجردة:
أولاً- نحتاج إلى ثورة أخلاقية وثقافية وتعليمية ثم اقتصادية وتقنية وتشريعية، قبل أي ثورة سياسية حقيقية وحتى ينجح الحراك السياسي الثوري أياً كان ويتحول إلى ثورة حقيقية وتغيير حقيقي. لابد من توجيه الجهود إلى هذا العمل والتركيز بشكل أقل على السياسة بمعنى السلطة التنفيذية، لأن المجتمع المصري أثبت أنه ليس مستعداً للإصلاح السياسي ولو افترضنا أنه من أناس مخلصين أو ديمقراطيين، وأنه يحتاج إلى تأهيل حضاري وأخلاقي أولاً – أقولها وأنا فرد من أفراد هذا الشعب وأعتز بذلك.
ثانياً- السلطة السياسية ليست هدفاً في حد ذاته بل هي أصلاً وسيلة لتحقيق أهداف نبيلة وهذه الأهداف هي لصالح المستضعفين وذوي الحقوق أولاً. ولا يصح ولا يجوز أن يكون السعي إلى هذه السلطة على حساب مصالح الناس العامة نفسها، فضلاً عن أن يكلف ذلك أرواح الناس وحياتهم. السلطة التي تبنى على الدماء البريئة لن تنجح ولا خير فيها، وهذا لكل الأطراف: من يسفك الدماء دون وازع من ضمير هو مسؤول عنها أمام الله تعالى، ومن يستطيع أن يوقفها بتنازلات أو مناورات سياسية أياً كانت ولا يفعل فهو كذلك شريك في الإثم ولو بدرجة أقل.
سيادة القانون مع ضمان عدالته
ثالثاً- صمام الأمان وحياة المجتمع في أي دولة حديثة هو سيادة القانون، وضياعه في أي دولة لا نتيجة له إلا الفوضى وبالتالي فلا يصح معاقبة أي جاني في مخالفة صغيرة أو كبيرة إلا بالقانون، ولا يصح تغيير السلطة السياسية إلا بالقانون. كالذي حدث في يوليو الماضي خارج إطار القانون (سمه ما شئت: إرادة شعبية، عزل، خلع، انقلاب .. الأسماء لا تهم ولكنه كان تغييراً بالقوة وخارج إطار القانون سواء كانت الأسباب وجيهة أو غير وجيهة)، وينبغي أن نضمن أن لا يتكرر ذلك بعد أن أصبح واقعاً اليوم لا رجوع فيه. ولا يصح العقاب الجماعي أو العشوائي لأي فئة أو هيئة من الحكومة ولا من الشعب لأنه ظلم مخالف للقانون، ولا يصح التنازل عن القصاص في الدماء البريئة من أي طرف لأنه حتى لو استمر القتلة خارج دائرة الحساب فسوف يأتي يوم تنهار فيه النظم التي أيدتهم ويدفعون ثمن الدماء عاجلاً أو آجلاً. {من قتل نفساً بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعاً}. ﴿المائدة: ٣٢﴾
رابعاً- هذا “القانون” الذي نتحدث عن سيادته لابد أن يكون عادلاً ولا يصح أن يكون وسيلة للظلم. فلا يصح إصدار قوانين جائرة تحرم الناس من حقوقهم وإلا زاد الطين بله، ولا يصح تقنين الاستبداد بقوانين سخيفة على غرار ما حدث في تاريخ مصر المملوكي من تجريم “الحاكم بأمر الله” لبعض المأكولات أو الإشارات أو الملبوسات، ولا يصح تقنين الظلم في اتهام قطاع عدده بالملايين من الشعب المصري كلهم بأنهم خوارج أو إرهابيون وهي جريمة خطيرة، لأنه إذا أصبح الظلم مقنناً ضاعت العدالة وسقط القانون ودولته.
خامساً- هناك ما يسمى بالشرعية الثورية، وفيها يقضي “الثوار” على مخالفيهم بمحاكمات سريعة وعقوبات صارمة، ثم تمضي حركة التاريخ. قد تكون أحد أخطاء ثورة يناير 2011 عدم فعل ذلك، ولعل عدم وجود قيادة موحدة للثورة كان هو السبب في ضياع تلك الفرصة، والتي هي أقرب للخيال منها للواقع على أي حال. ولكن الآن لا يصح تطبيق هذه “الشرعية الثورية” على عدد ملايين أو حتى مئات الألوف من الناس. ولا يمكن تحقيق النتيجة المرجوة منها في مجتمع منقسم على نفسه ، لأنه من المستحيل أن يعتبر نصف المجتمع المصري الذي يقترب من مائة مليون إنسان – يعتبر النصف الآخر كله خونة ويطبق عليهم حد الخيانة العظمى. هذا انتحار جماعي للبلد ولن يؤدي إلا إلى ما يسمى “حرب أهلية” في العرف المعاصر.
سادساً- لابد من الحفاظ على مكونات الدولة تحت كل الظروف. لا يصح أن يدعو الداعون إلى محاربة القضاء أو الجيش أو الشرطة أو وزارات الدولة نفسها، وإنما لابد من تقويم هذه الأجهزة ومحاسبة المجرمين من أعضائها دون المساس بهيبتها. والجيش المصري بالتحديد مؤسسة إستراتيجية مصيرية لمصر والعرب بل وللمسلمين جميعاً، ولابد من الحفاظ عليه وحمايته من الانقسام أو الضعف . ولكن هذه الأهمية والحماية لا يصح أن تكون ذريعة لأن يفعل قادة الجيش ما يشاءون بحجة أن الجيش مهم، أو يتدخلوا في الشأن السياسي بتعيين هذا وعزل هذا وتفويض ذاك. لابد من العودة إلى حاكم منتخب ديمقراطياً ولابد أن يحترم الجيش الآليات الديمقراطية من الآن فصاعداً إذا كان ما حدث ليس “انقلاباً عسكرياً” كما يصرّون.
الشرعية الثورية والحرب الأهلية
سابعاً- أخطأ الإخوان خطاً استراتيجياً كبيراً حين أنشأوا حزباً ورشحوا رئيساً [1]، ثم أخطأوا حين حكموا بلداً كمصر دون تدرج في الخبرات ودون نفوذ حقيقي على مفاصل الدولة، ثم أضاعوا فرصاً ذهبية للمناورة أمام القوة الفعلية على الأرض ولو من باب حقن الدماء ومن أجل بقائهم في الخريطة السياسية، ولكن أخطاء الإخوان السياسية لا يصح أن تكون سبباً في إنكار حسناتهم على مدار تاريخ طويل في مصر وفي غيرها من البلاد، ولا يصح أن تكون أخطاؤهم -القاتلة سياسياً- سبباً في تجاوز الإنصاف في التعامل معهم، فضلاً عن قتلهم وقتل أولادهم في الشوارع! لا يصح أن يفلت مجرم من العقاب أياً كان سواء كان عضواً في الجماعة أو ليس منها، ولكنه يحاسب كفرد في حدود القانون الجنائي، ولا يصح اتهام أو عقاب كل المنتمين والمؤيدين سياسياً لجماعة بهذا الحجم والعدد خاصة أنه لم يعرف عن الجماعة انتهاج منهج العنف -كجماعة- إلا على مستوى أفراد بعينهم، وذلك على مدار تاريخ طويل وإلى اليوم. لابد من التفريق بدقة بين الجماعات الإسلامية التي تنتهج العنف -على مستوى الجماعة كلها- والتي لا تنتهجه إلا كحالات فردية. ضياع هذا التفريق يدفع الشباب إلى تعلم العنف والتخلي عن السلمية.
مصر بين تجفيف المنابع ودورها الاستراتيجي
ثامناً- لا يصح توهم أنه يمكن “تجفيف المنابع الإسلامية” بمصر على طريقة بن علي في تونس والقذافي في ليبيا، لأن التاريخ يعلمنا أنه حتى بن على في أوج سلطانه قد فشل في خطته الشمولية في بلد صغير وقريب للعلمانية كتونس، فضلاً عن بلد كبير والإسلام فيه متجذر وله تاريخ طويل كمصر. هذا لا يؤدي إلا إلى التطرف.
تاسعاً- لا ينبغي أن يؤدي الانكفاء على مشكلات الداخل المصري إلى نسيان أو إهمال أو بيع قضايا إقليمية وعالمية مهمة، كالقضية الفلسطينية، والمأساة السورية، والمشكلات العربية والأفريقية والإسلامية الأخرى.
وقد لا يعجب البعض الكلام عن المبادئ ولا يريد البعض إلا أن يرى انتصاراً لرأيه أياً كان، ولكن الآراء البشرية والاجتهادات السياسية كلها تصيب وتخطئ ولا يصح منها على الإطلاق إلا ما كان موافقاً للمبادئ الأخلاقية، والمبادئ -كالعدل وسيادة القانون وحقوق الإنسان والصالح العام والاهتمام بالعلم والثقافة والتدين- أولى بالاهتمام في هذه المرحلة شرعاً وعقلاً، بل هي في رأيي المخرج الوحيد من هذه الأزمة الخطيرة. وبالتالي فتوافقي أو معارضتي لأي رأي أو شخص هو في اقتراب هذا الرأي أو ذلك الشخص من تحقيق هذه المبادئ في الواقع، والأسماء والأشخاص والأحزاب لا تهم، وإنما العبرة بالمعاني والقيم والمقاصد.