لا أدري كيف انطلى على بعض الباحثين والسياسيين بسذاجة غير معهودة، أن الخلاف في مصر بين الإخوان المسلمين هو خلاف بين نهج السلمية ونهج الثورية الذي فهم منه تبني العنف أو العسكرة، وهو تصور وفهم وإن دل على السذاجة الفادحة في الفهم، فهو يدل على مغالطات كبرى، أود توضيحها هنا.
بدا للمشاهد أن هناك رأيين في الإخوان، رأي اختفى أصحابه لفترة من المشهد، ثم عاد بمقال، وتحرك ما، تحت دعوى الحفاظ على خط الجماعة وهو السلمية، وكأن توجها آخر أراد اختطاف الجماعة لخط العسكرة والتسلح، ولنتأمل سويا بكل حياد ما يلي:
للسلمية أدوات تجعلها ناجحة بقوة، وهي أربعة ملفات تدار بها، ملف في الداخل وهو الحراك بكل مكوناته وأموره، وهو ما يديره إخوان الداخل بلا شك. وثلاثة ملفات في الخارج مسؤول عنها إخوان الخارج، وهي: 1ـ إعلامي. 2ـ حقوقي. 3ـ سياسي. والمسؤول عن هذه الملفات والإجراءات طيلة عام ونصف منذ الانقلاب حتى بضعة أشهر مضت، هو هذا الفصيل الذي فجأة عاد للمشهد إعلاميا فقط، فماذا تم على يديه خلال هذه المدة في هذه الملفات الثلاثة المهمة للسلمية؟
على المستوى الإعلامي، كان إعلام الجماعة أداؤه سيئ وضعيف بشهادة الجميع، وعلى المستوى الحقوقي الدولي، أخفق في معظم القضايا المرفوعة بالخارج، وأعطى الملفات لأناس لا علاقة لهم بالحقوق والقانون، وعلى المستوى السياسي، خرَّب علاقة الجماعة والحراك بكل الدول الداعمة له، بداية من جنوب أفريقيا، وانتهاء بقطر وتركيا، وهذا ما لا ينكره راصد لأداء الإخوان والحراك من داخل الإخوان وخارجهم.
هذا الإخفاق في أدوات السلمية جعل الشباب يكفر على الأرض بها، ظنا منه أنه لا جدوى منها، وأنه لا قيمة لها، فمن المسؤول عمليا عن كفر الشباب بالسلمية وضغطه للجوء للعنف؟ يقينا هو من أدار المشهد في هذه المرحلة بهذا المستوى السيئ، والذي كان (وِكْسَة) كبيرة بلا جدال. ومن كان سببا في المشكلة، يقينا لن يكون جزءا من الحل، فضلا عن أن يكون الحل ذاته. هذه نقطة علينا ألا نتجاوزها في الحديث حتى نفهم الحوار والجدال الدائر داخل الإخوان الآن.
ضغطت قواعد ومجموعات ضغط داخل الإخوان لإجراء انتخابات داخل مصر وخارجها، لتغيير من يدير المشهد، وتم ذلك، حسبما أعلن د. أحمد عبد الرحمن مسؤول المكتب المنتخب، وبدأت أدوات السلمية السالفة الذكر تعمل نوعا ما، ليس بالمستوى المنشود، لكنها بداية تنبئ عن رؤية، وهو ما تقتنع به القواعد في الإخوان: لن نعطي أحدا دعما أو تأييدا على بياض، من يعمل سيدعمه الصف، ومن يتخاذل سيتغير، بكل وسائل التغيير الشرعية داخل الجماعة.
فالخلاف الدائر الآن ليس كما فهمه الناس من خلال الإعلام وغيره، أنه خلاف على السلمية والثورية، كما أوضحت، وأزيد إيضاحا أكثر فأقول: لو أراد هذا التوجه إنهاء فكرة العنف، هذا عند افتراض وجودها، فسبل إنهائها فكريا سهلة، وليس بإصدار مقال للدكتور محمود غزلان فك الله أسره وأسر إخوانه جميعا، والذي لا يمثل أي مرجعية معتبرة لدى صفوف الإخوان من حيث التأصيل الشرعي، أو المرجعية التنظيمية، ليس تقليلا من شأن الرجل، بل هي توصيف لحاله داخل الجماعة حاليا، فليس الرجل فقيها إسلاميا حتى يعتبر كلامه فتوى شرعية يلتزم بها الإخوان، وليس للرجل موقع تنظيمي كمرشد الجماعة أو أحد نوابه مثلا.
كما أنه ليس من عادة الجماعة عند علاجها لأمر من الأمور الخطيرة كهذه، تعتمد على مقال عابر، فعندما نمت فكرة التكفير في السجون بين بعض الأفراد، تنادت جماعة الإخوان، واستكتبت فقهاءها وعلماءها، فكتبوا بإشراف مرشد الجماعة داخل السجن (أ. حسن الهضيبي) وكتبوا (دعاة لا قضاة)، متصدين بذلك لقضية التكفير، فهل عندما تنمو فكرة العنف داخل الجماعة، ولو من باب التفكير، وهي أخطر من قضية التكفير، تسكت مؤسسات الجماعة، ولا تصدر الجماعة فيها وثيقة واضحة، أو كتابا مؤصلا، يعالج هذه القضة الخطيرة؟!!
ألم أقل لكم إن الخلاف الدائر ليس خلافا بين السلمية والثورية بمعنى العسكرة، بل هو خلاف بين السلبية والثورية بمعناها الشامل، وليس العسكري، ليس الخلاف خلافا بين أيديولوجيا وأخرى، بل هو خلاف إدارات وإرادات، وصراع بقاء، ومحاولة العودة للمشهد، لفكر وأداء لم يعد الزمن ولا الصف الإخواني يتقبله بحال من الأحوال، بل تعالت الأصوات في وقت ما بمحاكمة أفراده، لكن منع من ذلك الظرف الحالي الذي تعيشه الجماعة، وأن علينا أن نلتفت لإنهاء الانقلاب وآثاره، ثم بعد ذلك نفرغ لحساب كل من أخطأ ومحاكمته.
(ملحوظة): ما ذكر في المقال ليس كل ما في الأمر، لكني فقط بينت ما يسمح به الظرف، حيث طلب الكثيرون مني التوضيح، لكني لا أستطيع حاليا البوح بأكثر من ذلك، وهو ما يكفي لتوضيح الصورة، خاصة للباحثين والسياسيين، ممن ولجوا هذا الباب دون سبر لأغواره، ووقوف على حقيقته.