لقبه البعض بـ"شهيد الشرعية والشريعة"، و كان أول زعيمٍ سياسيٍ منتخب في تاريخ تركيا، خرج من تحت عباءة "أتاتورك"؛ ليتحدى تشريعاته العلمانية، وعلى الرغم من أنه أدخل تركيا في حلف شمال الأطلسي، وجعلها رأس حربة الغرب، في مواجهة الاتحاد السوفياتي، فإن ذلك لم يشفع له حينما تحرك الجيش ضده، في أول انقلابٍ في تاريخ تركيا المعاصر، ليحكم عليه بالموت، مع عددٍ من رفاقه، بعد عشر سنواتٍ قضاها في الحكم.
"علي عدنان إرتكين مندريس"، الملقب بـ"عدنان مندريس"، أول زعيمٍ سياسيٍ منتخب ديمقراطيًا في تاريخ تركيا، كان رئيسًا للوزراء بين عامي 1950 و1960. كما شارك في تأسيس الحزب الديموقراطي، وهو رابع حزب معارض، ينشأ بصفة قانونية في تركيا، سنة 1946.
أعدمه العسكريون شنقًا بعد انقلاب سنة 1960، مع اثنين من أعضاء مجلس وزرائه، ليكون آخر سياسي تركي يعدم بعد انقلاب عسكري، وواحدًا من ثلاثة سياسيين، في تاريخ الجمهورية التركية، يقام له ضريح تكريمًا لذكراه.
كان "مندريس" عضوًا ونائبًا برلمانيًا عن حزب الشعب الجمهوري، الذي أسسه "أتاتورك"، لكنه انفصل عام 1945، إلى جانب ثلاثة نوابٍ آخرين؛ ليشكلوا حزبًا جديدًا، هو الحزب الديمقراطي، بزعامة "مندريس"، متحدين إجراءات منع الأحزاب آنذاك.
شارك الحزب الديمقراطي في الانتخابات عام 1950، ببرنامجٍ عجيبٍ توقعت له كل الدراسات الأمريكية الفشل المطلق، حيث كان البرنامج لا يتضمن أكثر من عودة الأذان باللغة العربية، والسماح للأتراك بالحج، وإعادة إنشاء وتدريس الدين بالمدارس, وإلغاء تدخل الدولة في لباس المرأة، ولكن كانت النتيجة مذهلة, حيث سقط حزب "أتاتورك"، إلى 32 نائبًا, وفاز الحزب الديمقراطي بـ318 مقعدًا، وتسلم "عدنان مندريس" مقاليد الحكم رئيسًا للوزراء .
واستجاب "مندريس"، لمطالب الشعب؛ فعقد أول جلسة بمجلس الوزراء في غرة رمضان، وقدم للشعب هدية الشهر الكريم، حيث كان الأذان بالعربية، وحرية الملبس، وحرية التدريس للدين، وبدأ بتعمير المساجد، وأدخل الدروس الدينية إلى المدارس العامة، وفتح أول معهد ديني عال، إلى جانب مراكز تعليم القرآن الكريم، كما قام بحملة تنمية في تركيا، شملت تطوير الزراعة، وافتتاح المصانع وتشييد الطرقات والجسور والمدارس والجامعات.
وجاءت انتخابات عام 1954م، وهبط نواب حزب أتاتورك إلى 24 نائبًا، فسمح بتعليم اللغة العربية، وقراءة القرآن وتدريسه في جميع المدارس، حتى الثانوية، وإنشاء عشرة آلاف مسجد, وأنشأ 22 معهدًا في الأناضول، لتخريج الوعاظ والخطباء وأساتذة الدين.
كما سمح بإصدار مجلات وكتب تدعو إلى التمسك بالإسلام، والسير على هديه، وأخلى المساجد التي كانت الحكومة السابقة تستعملها مخازنًا للحبوب، وأعادها أماكن للعبادة.
وتقارب "مندريس" مع العرب ضد الاحتلال، وفرض الرقابة على الأدوية والبضائع التي تصنع في دولة الاحتلال، فضلاً عن طرده السفير الصهيوني سنة 1956.
مع نهاية عقد الخمسينيات، كانت إجراءات مندريس الداخلية قد استفزت القوى العلمانية، التي تمكنت من حشد قوى اجتماعية، لاسيما داخل الجامعات، والجيش؛ لمعارضة سياسات الحكومة، فوقعت أحداث شغب ومظاهرات كبيرة في شوارع إسطنبول وأنقرة، وقام طلاب مدرسة القوات البرية بمسيرة صامتة إلى مجلس الشعب في أنقرة؛ احتجاجًا على سياسات "مندريس".
وفي صباح 27 مايو عام 1960، تحرك الجيش التركي ليقوم بأول انقلاب عسكري خلال العهد الجمهوري، حيث سيطر على الحكم 38 ضابطًا برئاسة الجنرال "جمال جورسيل"، وأحال الانقلابيون 235 جنرالاً، وخمسة آلاف ضابطٍ، بينهم رئيس هيئة الأركان إلى التقاعد، وتم وقف نشاط الحزب الديمقراطي واعتقل رئيس الوزراء، "عدنان مندريس"، ورئيس الجمهورية، جلال بايار، مع عدد من الوزراء وأرسلوا إلى سجن في جزيرة "يصي أدا".
بعد محاكمةٍ صورية تم سجن رئيس الجمهورية مدى الحياة، فيما حكم بالإعدام على "مندريس" ووزير خارجيته، فطين رشدي زورلو، ووزير ماليته، حسن بلاتقان، وكانت التهمة هي اعتزامهم قلب النظام العلماني وتأسيس دولة دينية.
في اليوم التالي لصدور الحكم في أواسط سبتمبر عام 1960 تم تنفيذ حكم الإعدام بـ"مندريس"، ليكون أول ضحايا العلمانيين في الصراع الداخلي بتركيا.
وبعد أيامٍ، نفذ حكم الإعدام بوزيريه، ودفنت جثامين الثلاثة في الجزيرة، ذاتها حتى التسعينيات؛ حينما جرى نقلها إلى إسطنبول، حيث دفنت هناك، وأعيد الاعتبار لأصحابها، بجهودٍ من الرئيس الأسبق، تورغوت أوزال.
وكتب الصحفي "سامي كوهين": "لقد كان السبب المباشر الذي قاد مندريس إلى حبل المشنقة، سياسته، القاضية بالتقارب مع العالم الإسلامي والجفاء والفتور التدريجي في علاقتنا مع إسرائيل"
وأكد الكاتب أن "مندريس"، خلال زيارته إلى دول الخليج، قام سرًا بأداء فريضة الحج، وكان افتضاح أمر حجّةٍ من أسباب اعدامه ايضًا.