لم تكن فلسطين مخفية في الدوافع التي أنتجت انقلاب ٣ يوليو؛ بيد أنها كانت متوارية لدى الساسة والكتاب الذي انشغلوا في محاولة تفسير الانقلاب؛ خلف جملة من الأسباب التي كانت تصمت عن عنصر حقيق بأن يمثل العمود الفقري في دوافع انقلاب عبد الفتاح السيسي، وهو فلسطين، وهذا لا يعني أن السبب الفلسطيني هو العنصر الوحيد المشكل لدوافع الانقلاب، وإلا فإن هذا سقوط في فخ الاختزال الذي يعجز عن إدراك الانقلاب في أبعاده المتعددة، كما سقط آخرون في ذات الفخ حينما رأوا في الانقلاب مجرد تعبير عن مصالح النخبة العسكرية المتضررة من ثورة ٢٥ يناير وصعود جماعة الإخوان المسلمين إلى الحكم، أو رأوا فيه تعبيرًا عن استعادة نظام مبارك وأجهزة الدولة المبادرة لإجهاض الثورة وإخراج جماعة الإخوان من المشهد تمامًا، أو رأوا فيه استجابة طبيعية لضعف الإدارة السياسية لجماعة الإخوان وعدم تمكنها من إحراز التوافق اللازم للعبور بالمرحلة الانتقالية، أو غير ذلك من الأسباب الاختزالية التي فسر بها حدث الانقلاب.
تتمدد دوافع الانقلاب وتتداخل في مجالين اثنين؛ الأول: داخلي، وهو الذي تتدافع وتتزاحم فيه العوامل الذاتية، من قوى ومصالح وتيارات، يأتي في مقدمتها الدولة المصرية بأجهزتها ونخبتها العسكرية، وهي التي استطاعت إدارة تناقضات ما عرف بقوى الثورة، واستثمار إمكانات الدولة والمجتمع لإزاحة الإخوان والتفرد بالحكم.
ولأن الدولة، وتحديدًا بنخبتها العسكرية، هي الأقوى والأكثر فاعلية والأقدر على استخدام الإمكانات من بين القوى المتدافعة، فإنها هي التي فازت برهان القوى الدولية والإقليمية للانقلاب على الحكم الشرعي الذي أفرزته الثورة، ومن هنا يأتي التداخل ما بين المجال الأول: الداخلي الذاتي، والمجال الثاني: الخارجي الإقليمي والدولي.
في المجال الثاني؛ تتداخل أيضًا اعتبارات القوى المتعددة المعنية بالمشهد المصري والفاعلة فيه، وفي مقدمتها أمريكا بصفتها رأس النظام الدولي الاستعماري، الذي لم يكن ليسمح بأن تمضي سيرورة الثورات العربية باتجاه تحقيق نهضة مستقلة عن هيمنته الاستعمارية، أو باتجاه احتمال تحقيق قدر ما من الوحدة العربية، إضافة إلى ما سببته الثورات العربية من إرباك شديد لكيان العدو الصهيوني طرح عليه من جديد هاجسه الوجودي، وهو ما فرض على هذا الكيان بدوره أن يعمل على معالجة الوضع المتغير وبصورة حاسمة تمنع إعادة إنتاج الحيرة الوجودية من جديد، وبما يدفع وبصورة أسرع نحو تصفية القضية الفلسطينية.
وفي هذا المجال الثاني أيضًا؛ وجدت قوى الثورة المضادة، والتي لا تزيد على كونها أدوات للنظام الدولي الاستعماري، بنسب تجعل بعضها أكثر ارتباطًا بالإدارة الاستعمارية، وتحديدًا بالكيان الصهيوني، ولا سيما تلك الدول ذات الدور الوظيفي تاريخيًا فيما اتصل بقيام دولة العدو وحمايتها، وإن كانت هذه التبعية المباشرة للنظام الدولي الاستعماري لا تمنع من وجود أهداف ومصالح ودوافع خاصة بهذه الدول.
وفي المجال الثاني أيضًا، وجدت قوى أقل التحاقًا بالنظام الدولي الاستعماري، أو في حالة مناورة معه، ولكن طموحها الإقليمي الجارف يجعلها تفضل مصر تابعة للنظام الدولي الاستعماري على أن تكون ذات رؤية مستقلة تنهض بها لاحقًا للقيام بدور إقليمي كبير، وهذا الأمر ينطبق على إيران، إلى جانب أسباب أخرى تمثلت في العداء بأثر رجعي للثورات العربية بعد وصولها دمشق، ولعل هذا فيه ما يفسر دعم إيران لبعض القوى التي استخدمها العسكر كغطاء شعبي لانقلابهم، وترويج بعض أجهزة إعلام المحور الإيراني الهامة للانقلاب، ولكن العامل الإيراني من حيث التأثير في مجرى الأحداث المصرية يأتي في مرتبة دنيا بالنسبة للعوامل الأمريكية والصهيونية والعربية، إلا أنه مؤشر على إمكان المقامرة بفلسطين ومقاومتها لأسباب من هذا النوع.
فلا شك أن الانقلاب ظاهرة مركبة، شديدة التداخل، التقت فيها العوامل الداخلية والخارجية، وفاز في رهان هذا الالتقاء الدولة بمؤسستها العسكرية من بين القوى المصرية التي لا تفتقر إلى الارتباطات الخارجية أو تفتقر للمناعة المبدئية والأخلاقية الكافية، إلا أنه فوز لم يكن من موقع القوي المستقل الذي يفرض شروطه حيث يحتاجه الآخرون، ولكنه الطرف القوي داخليًا المعدّ والمصنوع خارجيًا لهكذا مهمة تاريخية، تكبح نهضة الأمة ومشروعها التحرري وتبقي مصر أداة للهيمنة الاستعمارية على منطقتنا وأمتنا.
الدور الصهيوني في الانقلاب اتضح أولاً في الدعاية السوداء التي استهدفت فلسطين وأهلها من طرف الإعلام المصري الذي تديره بالكامل تلك الأجهزة التي تتسمى بالسيادية، ثم بالتدمير الكلي للأنفاق التي تربط غزة بسيناء، وهو ما نجم عنه تدمير عدد من بيوت سكان رفح المصرية، ثم تعزيز الحضور العسكري المصري في سيناء بالاتفاق مع الصهاينة، وقد رافق هذا الانقلاب اشتغال صهيوني دولي معلن للترويج للانقلاب وتوفير الشرعية الدولية له، وطوال هذه الفترة تصدرت التهديدات المصرية باحتلال غزة أو توجيه ضربة عسكرية لـ "حماس" المشهد على لسان إعلاميي الانقلاب أو بواسطة تسريبات مجهولة المصدر، حتى وصلت تطورات استهداف غزة إلى الحرب الصهيونية الأخيرة على غزة والدور المصري المريب فيها، وأخيرًا إقامة المنطقة العازلة على طول الحدود بين غزة وسيناء وبعمق نصف كيلو متر مع خندق مائي، بما يفصل غزة نهائيًا عن سيناء، وبما يمنع حفر الأنفاق من جديد.
الذريعة المعلنة لإجراءات عزل غزة، هي العلاقة المزعومة لـ "حماس" بالعملية الأخيرة في "كرم القواديس"، وبـ "الإرهاب" في سيناء عمومًا، وهي ذريعة مختلقة، لا تستحق المناقشة الجدية، ويكفي لدحضها التفاصيل التي يعلنها إعلام الانقلاب، حينما يعلن عن أسماء منفذين مزعومين سبق واستشهدوا قبل الحادثة أساسًا، إلا أن إعلان الخارجية الأمريكية عن تأييدها إجراءات الجيش المصري في سيناء، وأنها لهذا الهدف قدمت له طائرات الأباتشي، يؤكد أن خطط العزل معدة قبل حادثة "كرم القواديس"، وكأنهم استثمروا هذه الحادثة، أو اختلقوها لتنفيذ هذا المخطط.
إذن؛ من الواضح أن هذا الانقلاب جاء بأجندة تستهدف القضية الفلسطينية عمومًا، والمقاومة في غزة خصوصًا، وفي مقدمتها حركة "حماس" بما تمثله من رأس للمقاومة الفلسطينية، وحاكم فعلي لقطاع غزة، وامتداد للحركة الإسلامية.
وإذا كانت إجراءات الدولة المصرية العدوانية تجاه القضية الفلسطينية قد بدأت منذ كامب ديفيد، وترسخت طوال حقبة مبارك، فإنها لم تكن قد بلغت حتى الحد الأدنى من المستوى الذي بلغته الآن من بعد الانقلاب، فإذا كانت ممارسات مبارك ضد القضية الفلسطينية تأتى من موقع الخاضع، فإنها الآن تأتي من موقع التابع المباشر الذي ينفذ خططًا وإملاءات محددة دون أن يمتلك الهوامش التي تتيح له القدرة على المناورة أو الرفض، وهو ما يعني أن الحضور الصهيوني في الانقلاب أكبر من تلاقي المصالح وأبعد، ونتاج عمل طويل.
وفي هذا السياق يتضح أن إجراءات سلطة الانقلاب العدوانية التي تستهدف القضاء على المقاومة في قطاع غزة، وخاصة بعد الحرب البطولية الأخيرة التي خاضتها المقاومة الفلسطينية وفي صدارتها حركة "حماس" دفاعًا عن غزة، لا تأتي كرشوة بهدف استجلاب الشرعية الدولية وتحقيق بعض المكاسب الاقتصادية، ولكنها تأتي تنفيذًا لأوامر مباشرة ومخططات جاهزة، وهنا لا معنى للحديث عن انتهاء دور مصر الإقليمي بانعزالها عن قطاع غزة، لأن هذا الدور محدد بتصفية القضية الفلسطينية والقضاء على المقاومة في غزة وكبح حركة التغيير العربية، فما دامت مصر تقوم بهذه المهمات فإنها لا تزال تحظى بالدور الإقليمي الممنوح لها من النظام الدولي الاستعماري وقاعدته في المنطقة الممثلة بالكيان الصهيوني.
المريب؛ أن هذه الإجراءات التي تستهدف قطاع غزة ومقاومته من طرف النظام الانقلابي في مصر، تتزامن مع تكثيف الصهاينة اعتداءاتهم على المسجد الأقصى، وقيام بعض الدول العربية باعتقال ناشطين في مجالات الدفاع عن الأسرى الفلسطينيين والمسجد الأقصى، وتبني مؤسسات إعلامية عربية كبرى متمولة خليجيًا لخطاب إعلامي يكرس حق اليهود في المسجد الأقصى، كما تفعل قناة العربية مؤخرًا، وذلك كله بعد الحرب الأخيرة على قطاع غزة التي كشف فيها نتنياهو وعدد من الساسة الصهاينة عن وجود حلف (إسرائيلي/ عربي) غير مسبوق.
ورغم أنه لا يمكن القول أن "حماس" لم تقترف الأخطاء في مقارباتها لحركة التغيير العربية، فإنه لا يمكن فهم بعض الكتاب الفلسطينيين والعرب الذين يدعونها لمراجعة سياساتها تجاه النظام المصري الحالي، دون أن يأخذوا بعين الاعتبار عدوانية هذا النظام الابتدائية تجاه "حماس" والقضية الفلسطينية، ودون أن يملكوا الشجاعية الكافية أو البصيرة لرصد هذا الانقلاب في سياق مهماته الإقليمية المفروضة عليه، كما أنه لا يمكن تفهم من يطالب "حماس" بإثبات براءتها من علاقتها بـ "الإرهاب" في سيناء، وهذه التهم أساسًا هشة وسخيفة إلى الحد الذي يجعل تردادها عملاً وقحًا ومشينًا ولا يخلو من الدلالة على نقص في العقل والمروءة.