الزعيم الوطني الإفريقي “نيلسون مانديلا” الذي ناضل من من أجل تحرير شعبه من عسف النظام العنصري الأبيض، بقي في السجن مدة 27 عاما، إنتخبه الشعب رئيسا لجنوب أفريقيا في العاشر من شهر مايو عام 1994م لمدة خمس سنوات، عمل خلالها على تثبيت ركائز الديمقراطية وإنجاز الإصلاحات السياسية والإقتصادية والإجتماعية الضرورية. رفض “مانديلا” ترشيح نفسه لفترة رئاسية ثانية بسبب تقدمه في العمر كما أشار هو إلى ذلك، وإيمانه بضرورة إعطاء الفرصة للقيادات الشابة والدماء الجديدة لقيادة البلاد نحو مستقبل أفضل.
وإذا أجرينا مقارنة بين موقف “مانديلا” الذي وصل إلى سدة الحكم بطريقة دستورية وديمقراطية، وبين مواقف أكثر الحكام العرب نرى العجب العجاب. فأغلب الحكام العرب وصلوا إلى سدة الحكم إما على ظهور الدبابات والمصفحات العسكرية في ظلام الليل، وإما في غفلة من التاريخ، وكرسوا سلطانهم بدساتير تعطيهم حقوقا تعلو على حقوق “الله” سبحانه وتعالى، ولا تلزمهم بواجبات تجاه شعوبهم. ذواتهم الشخصية مقدسة ومصونة ولا يجوز المس بها أو التعرض لها من قريب أو بعيد، والشعار الذي إتفقوا عليه هو: “إما أن نحكم أو أن ندمر”.
وفي هذه المقالة سنعرض لمواقف بعض من الحكام العرب الذين طبقوا هذا الشعار عمليًا على الأرض:
“صدام حسين” الذي حكم العراق من شهر يوليو لعام 1979م حتى شهر أبريل من عام 2003م. ورط الشعب العراقي في حروب عبثية مع جيرانه وأشقاءه. أدت هذه الحروب إلى إذلال الجيش العراقي وإنهاك البلاد وإفقار الشعب.
إبان أزمته مع الولايات المتحدة الأمريكية التي قررت ظلما وعدوانا إسقاط نظامه المتسلط وغير الشرعي، طرح المرحوم “الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان” رئيس دولة الإمارات العربية وقتها، مبادرة شخصية لحماية العراق وشعبه، جوهر المبادرة هو أن يتخلى “صدام” وباقي أعضاء القيادة عن السلطة في غضون أسبوعين ومغادرة العراق، مع توفير حماية للقيادة العراقية محليا ودوليا ومع الحصانة من أي محاكمة.
لم يكتب النجاح لتلك المبادرة، وتم إحتلال العراق والقبض على “صدام” الذي أخرج من حفرة قذرة، وتم إعدامه لاحقا. ومن وقتها والعراق يعيش حالة حادة من الإنقسام الطائفي والعرقي، ولا يبدو في الأفق القريب بارقة أمل لتجاوز هذا الوضع البائس.
“معمر القذافي” وصل إلى السلطة عبر إنقلابي عسكري في شهر سبتمبر من عام 1969م، وبقي في السلطة حتى الربع الأول من عام 2011م (أي حوالي 42 سنة). وصف النقاد السياسيين “القذافي” بالحاكم المستبد أو الغوغائي.
في نهاية الثمانينيات من القرن المنصرم، حصل “القذافي” على أسلحة كيميائية مما جعل ليبيا تحت حكمه توصف بالدولة المنبوذة، وتم فرض عقوبات سياسية وإقتصادية عليها. بعد أسبوع من إلقاء القبض على “صدام حسين” في عام 2003م، وافق “القذافي” على قدوم فريق التفتيش الدولي إلى ليبيا للتحقق من برامج أسلحة الدمار الشامل، وسلم طواعية كل ما لديه من أسلحة كيميائية (دفع الشعب الليبي ثمنها الباهظ من عرقه ودمه) إلى فريق التفتيش الدولي.
أليس هذا عبثا بثروات الشعوب، وتصرفا سفيها من حاكم سفيه لا يفقه شيئا في علم السياسة؟ في فبراير من عام 2011م، وفي اعقاب الإنتفاضات العربية في تونس ومصر، بدأت الإحتجاجات ضد حكم “القذافي” ثم تصاعدت تلك الإحتجاجات وتحولت إلى إنتفاضة في جميع أنحاء ليبيا.
وبسبب القمع الوحشي للإنتفاضة الشعبية تم تشكيل حكومة للمعارضة إتخذت من مدينة بنغازي مقرا لها، هذه الخطوة أدت إلى نشوب الحرب الأهلية التي عجلت بالتدخل الدولي. في أواخر شهر أكتوبر من عام 2011م، تم القبض على “القذافي” من قبل جيش التحرير الوطني الليبي وتم إعدامه، ويقال أنه وجد مختبأ في إحدى قنوات الصرف الصحي. ليبيا تعيش حاليا في حرب أهلية وقبلية شرسة تدمر البشر والحجر والثروات، ولا يعلم إلا “الله” جلت قدرته وعلا شأنه متى ستنتهي هذه الحرب العبثية.
“علي عبد الله صالح” الذي حكم اليمن لحوالي 34 عاما (منذ العام 1978 حتى فبراير 2012م) وهي أطول فترة حكم لرئيس في اليمن. لم يشهد اليمن أي تقدم ملحوظ طوال سنوات حكمه، فقد ظل قطاعا كبيرًا من الشعب يرزح بالمعاناة تحت خط الفقر، واستمرت الأمية متفشية في العديد من المناطق، وأنتشرت الوساطة والفساد، والسيطرة على الثروة من قبل أفراد عائلته والمقربين منه.
دخل اليمن في ركاب إنتفاضات الربيع العربي عام 2011م، حاول “صالح” القضاء عليها لكنه لم يستطع الصمود وخصوصا بعد تعرضه لمحاولة إغتيال في شهر يونيو من العام نفسه.
مارست دول مجلس التعاون الخليجي الضغوط عليه للتنحي عن السطلة ونقلها لنائبه “عبد ربه منصور هادي”، مقابل تحصينه من الملاحقات القانونية وبقاءه في اليمن بصفته رئيسا لحزب المؤتمر الشعبي العام.
اعتبر إرغامه على التنحي إهانة شخصية، ولم يهدأ له بال حتى ينتقم لنفسه من الشعب اليمني، حيث قام بالتحالف مع الحوثيين الذين تصدروا الأحداث بعد الإنتفاضة ليمكنهم – عبر العناصر المواليه له داخل الجيش والأجهزة الأمنية – من الإستيلاء على العاصمة وأغلب مفاصل الدولة. اليمن أصبح حاليا أرضا تتواجد عليها القاعدة وأخواتها، وتدور فيها حروب بالوكالة عن جهات إقليمية ودولية يدفع ثمنها الشعب اليمني.
“بشار الأسد” يحكم سوريا منذ عام 2000م، ورث الحكم عن أبيه الذي وصل إلى الحكم عبر إنقلاب عسكري عام 1970م وحكم البلاد بالقوة مدة ثلاثون عاما. في يوم الثلاثاء 15 مارس عام 2011م انطلقت مظاهرات شعبية من درعا ودمشق متأثرة بموجة الإحتجاجات العارمة التي إندلعت في أكثر من بلد عربي مطلع العام نفسه، سرعان ما انتقلت إلى جميع المدن السورية والمراكز الحضرية ولا زالت مستمرة، رافعة شعارات ضد القمع والفساد وكبت الحريات، ومطالبة بإسقاط النظام الذي استخدم ضدها الأسلحة الثقيلة والكيميائية، وقوات الجيش النظامي والحرس الجمهوري.
وقد نتج عن هذا الحراك الشعبي حتى يومنا هذا أكثر من 220 ألف قتيل، وربما ضعف هذا العدد أو أكثر من الجرحى والمعتقلين، إضافة إلى ملايين اللاجئين (المشردين) في الداخل والخارج. أما الدمار الإقتصادي والعمراني فيقدر بحوالي 200 مليار دولار أمريكي، على أن تتصاعد الأرقام إلى مستويات أعلى إن لم يتوقف مسلسل التدمير والقصف العشوائي.
النظام لا يسيطر حاليا إلا على حوالي نصف مساحة سوريا، والنصف الآخر تتقاسمه المعارضة السورية مع كل المنظمات الإرهابية التي تجمعت على الأرض السورية من كل حدب وصوب. مستقبل سوريا ومصير “الأسد” مظلمان ولا يعلمهما إلا “الله” سبحانه وتعالى.
المرحوم “مانديلا” كان بإمكانه ترشيح نفسه لفترة رئاسية ثانية وضمان الفوز لعدم وجود من ينافسه، ورغبة الشعب في بقائه رئيسا لفترة ثانية. لكنه ضرب أروع الأمثلة في نكران الذات، والثقة في قدرة شعبه على إختيار قيادة شابة تقوده إلى الأفضل. لهذا بقي “مانديلا” رمزا وطنيا في عقول وقلوب شعبه، وكسب إحترام وتقدير شعوب العالم أجمع.
النتيجة الطبيعية لحكم متسلط وفاسد، وقيادات كالتي ذكرناها لا تتمتع بمواهب سياسية وأخلاقية، هي: شعوب تشعر بالذل، وإقتصاد منهار يئن تحت وطأة الديون المتراكمة، وتخلف في العلم والفكر، وجيوش من العاطلين، وملايين في المهجر يعيشون ذل الغربة، وإنهيار في الأخلاق والقيم بسبب الفقر المدقع، وحروب أهلية وإثنية تأكل الأخضر واليابس، وأوطان مستباحة من قبل الغرباء والأعداء.
المصدر: جريدة إيلاف