في ثالث أيام عاصفة الحزم، خرج نصر الله في حديث ليملأ فيه فراغًا إعلاميًا لم يملؤه الحوثي ولا كل الناطقين باسمه، ولا حتى الناطق باسم وزارة الخارجية الإيرانية، مقدمًا وجهة نظر الحوثيين وإيران، ومخاطبًا أعداءهم من على منصة إرث المقاومة وجمهورها.
اعتمد الحديث بشكل أساسي على مهاجمة السعودية وآل سعود بشكل رئيسي، ذاكرًا تقصيرهم في القضية الفلسطينية ولبنان، وتآمرهم على العديد من البلدان العربية، ومحاربتهم الثورات العربية وربيعها، وصولًا إلى عمليتهم الأخيرة، عملية عاصفة الحزم.
لا يختلف الكثير على أغلب ما ذكره في السياق السابق، ولا ينكره إلا من يرى في السعودية وعاصفتها خلاصًا سنيًا من الشيعة وامتدادهم، أو بعض الاخوان المسلمين، الذين انشغلو مؤخرًا في التغييرات الداخلية السعودية، ويعولون اليوم على تغيّر سياساتها الخارجية لاستعادة أنفسهم، أو نوع ثالث أكثر حماقة من النوعين السابقين، يظن في السعودية ونظامها خيرًا دون أي دلالة.
ومن خلال الهجوم على السعودية، تركز الحديث على الدفاع عن إيران وتفنيد مقولات مهاجمتها، من خلال إنكار الدور الإيراني وهيمنتها على اليمن، بالرغم من تصريحات القادة الإيرانيين التي تتحدث بنفسها عن النفوذ الإيراني فيها، الأمر الذي جعل سليماني يتحدث عن مؤشرات تصدير الثورة الاسلامية إلى اليمن في تاريخ 11 فبراير٢٠١٥.
وبالفعل لن نجد فيها -أي اليمن- قواعد أو جيوش إيرانية مثلما قال، تمامًا مثلما لن نجد قواعد أو جيوش إيرانية في سورية ولا حتى في العراق، الأمر الذي لا يلغي قدرتنا على رصد دور وهيمنة إيران بشكل واضح فيها، بذات القدرة التي رأينا فيها تطور الهيمنة الإيرانية على سورية، وصولًا إلى نشاط الميليشيات العراقية الشيعية وغيرها في سورية، والتي تُدار وتُوجّه من الإيرانيين بشكل مباشر.
ولم يفت على نصر الله استغلال الدور الرئيسي للسعودية في تنظيم ورعاية الثورات المضادة في الربيع العربي، للإشارة بأنها -السعودية- تقوم اليوم بذات الدور في اليمن، ليعرج منه على دور إيران الأخلاقي في احتضانها، في سياق تلبيتها لإرادة الشعوب.
هل نوع الاحتضان الإيراني لليمن هو نفسه الذي لاقاه شعب سورية المهجَّر والمقتول اليوم على مدار سنين ثورته؟ّ! وهل تلبية إيران لإرادة الشعوب هي ذاتها تلك التلبية والترحيب بانقلاب السيسي فوق دماء شعبه، ووصفه بالثورة، ووضعه في ذات سياق الثورة الإيرانية؟!
السعودية لا ترى الشعوب ولا تستمتع لصوتها، ولا تكترث لقتل المدنين في اليمن اليوم، مثلما قال نصر الله، هي تستمع لمصالحها قبل أي شيء، ثم تفرض على الشعوب قرارها، وتُحملهم فاتورة اختياراتها، تمامًا مثلما قامت إيران بذات السيناريوهات في سورية والعراق ومصر.
“هل لديكم دليل قطعي على أن الحوثيين يشكلون خطرًا على السعودية؟”، يسأل نصر الله السعودية، متناسيًا اقتحام الحوثيون لحدودها، سنتناساه أيضًا، ونعتبره كذب من الإعلام السعودي وحلفائه، ولكن هل نستطيع تجاهل تهديدات القيادات الحوثية للسعودية بأنها المرحلة القادمة؟! ما فائدة الإنكار وقلب الحقائق؟!
وفي حديثه عن العراق، يذكر دور السعودية في إرسال ودعم وتمويل “وحوش الأرض” -على حد وصفه- للقيام بالعمليات الانتحارية، في سياق يُسقط على إيران قبل غيرها، باحتوائها لقيادات ومنظري القاعدة -حتى الآن- في بلادها، لاستخدامهم في العراق، وتعزيز المذهبية لدى الشيعة ومظلوميتهم من بعدها، حتى يتسنى لهم مناصرتهم، وتلبية حاجتهم من الخطر الذي صنعوه، أو شاركوا في صنعه على أقل تقدير.
ويسقط أكثر على سورية، التي أخرجت “وحوش الأرض من السجون”، ودعمتهم بالمال والتدريب، وسهلت دخولهم للعراق، واستخدمتهم للانتقام من المالكي آنذاك، قبل أن تستخدمهم لصنع “التطرف” و”الإرهاب” في سورية، تحقيقًا لمقولة النظام السوري الأولى المضادة للثورة السورية “الإرهاب”، ليبرر من بعدها قتل الشعب السوري، كونه “الحاضة الشعبية للإرهاب”!
كيف يتجاهل نصر الله حقائق مثل ذلك؟! وهي الأهم في السياق الذي اختاره للهجوم على السعودية، خاصة وأنّ رجلها اليوم، المالكي، الذي قام حزب الله بتكريمه في جنوب لبنان “عرين المقاومة”، واعتبره رجلًا من رجال المقاومة، قد سبق واعترف في ٢٠٠٩ بأنّ سورية هي من تقوم بإرسالهم وتدريبهم في قواعد داخل سورية، في تصريح واضح وصريح، جاء بعد تقديمه أدلة على ذلك للأمم المتحدة، والتي اعتبرتها أدلة دامغة.
كما كانت ورقة داعش حاضرة في حديث نصر الله، فقد عاد لنشأة التنظيم، حيث يصدف أن فترة النشأة التي ذكرها نصر الله، يبرز فيها دور إيران وسورية بشكل رئيسي، قبل أن تستقر داعش بقرارها، فمن ناحية التسهيل؛ لقد أفرج النظام السوري عن قياداتها، وسهلّا -إيران وسورية- حركة عناصرها، ودعماها قبل أن تتتمرد عليهم، هذا إن اعتبرناها قد تمردت بالفعل، فلا نستطيع إهمال تلاقي المصالح المستمر بينهم حتى اليوم.
ولعلّ في تحليق الطائرات السورية فوق نقاط تواجد داعش بسلام، لتقصف ما بعدها من الكتائب المسلحة المعارضة؛ أقوى دليل على ذلك.
وعن دور السعودية في سورية، قال “الهدف الحقيقي أن تصبح سورية تابعًا، وأن يصبح الرئيس بشار الأسد تابعًا، ولكن سورية أرادت أن تبقى دولة مستقلة”، صحيح جدًا!، وبعد ذلك غيّر الأسد رأيه، وسلّم سورية لإيران وميليشياتها وكتائبها العراقية الشيعية وغيرها، والتي تحمي دمشق اليوم بشكل رئيسي، وتتواجد في حلب بكثافة، مقابل حمايته وبقائه هو مستقلًا، ولكن بحدود قصره، أو غرفة منامه!
ألا نستطيع اعتبار الأسد، في سياق النموذج الذي أشار إليه لذاك، “الأمير المرفه السعودي المترف سلطانه، الذي يدفع أبناء العالم لسفك دمائهم، والهجوم على شعب مظلوم عزيز فقير مناضل كادح، من أجل ذاته وسلطانه”، والذي لولا عدم استجابته لمطالب شعبه، ورفضه للتنحي، ومساعدة إيران قبل أي شي، لكانت سوريا وشعبها “الفقير المناضل الكادح” في حال أفضل من اللحظة الأولى التي قرر فيها أنْ يكون؟
يتساءل نصر الله عن سبب المسارعة باللجوء لعاصفة الحزم، وفيما إذا كانت دعوة الرئيس الهادي كافية لإعلان الحرب على الشعب، وهو الأقدر على إجابته من خلال علمه مسبقًا بإعلان حليفه بشار الأسد الحرب على شعبه، ردًا على هتافات التغيير، ومسارعة إيران وميليشياتها لتلبية طلب مساعدته.
“الجمهورية الإيرانية لا تسأل ولا تتدخل وحتى لو سألها أحد لا تجيب”، كيف ذلك؟! وهي من تعرقل تنحي الأسد بحمايته ودعمه، وهي من تملك قرار الحرب والسلم لحزب الله، وقرار انتقاله من الاستراتيجية الدفاعية إلى الهجومية، متى أصبحت الجمهورية الإيرانية لا تتدخل؟! ألم يؤكد قيادات حزب الله أن كل حروبه تمت “تحت إمرة الولي الفقيه”؟!
يوصي نصر الله “باستيعاب اليمن بالعطف، والتعاطي بالاخوة والتواضع والعقلانية والحلم، وليس بعاصفة الحزم”، أكان يقصد عواصف الحب والعطف، تلك التي قام بها الحوثيون وحليفتهم إيران، وأوصلت اليمن وأوصلتنا إلى عاصفة الحزم؟!
ما هو نوع الشعب الذي تحدث عنه نصر الله في عدة مواضع من حديثه؟! عندما يقول أن إيران انحازت للشعب اليمني، انحازت لأي نوع من الشعوب وعلى أي نوع مقابل؟! هل الحوثيون من ذات نوعية شعب بشار الأسد؟! ماذا عن الشعب الذي قتله الحوثيون في المظاهرات السلمية في صنعاء على سبيل المثال؟! يبدو أنّ للفظ “الشعب” دلالات خاصة بإيران وحلفائها.
من استمع لنصر الله من بداية حديثه لآخره، سيأتيه شعور بأن إيران مجرد جمعية خيرية، جاءت لتصلح وتسد الفراغ الذي تركته السعودية، وهي لا تقوم بشيء إلا مناصرة المستضعفين والمساكين والجائعين!، وهو سياق ذكي لتقديمه اليوم كمقولة، كفيلة بتجييش جمهور، يحتاجه حلفه في حرب إعلامية، غلب عليها التأثير السعودي وحلفائها!
هالة المقاومة وإرثها كانت المنصة، ومن عليها قال نصر الله كل ما سمعناه، وأثار لدينا كل هذه الأسئلة وغيرها، ولكن، من المؤكد أن المنصة التي عرفناها في الحروب على إسرائيل توسعت مساحاتها، أو انتقلت لمكان خارج السياق المعروف تمامًا، حيث فشلت هذه المرة باستغلال مقاومة اسرائيل كورقة للتأثير في قضية اليمن، مثلما قامت بتغطية تدخلها وتدخل إيران في سورية، فشعار “الطريق إلى فلسطين والقدس يمر عبر اليمن” لا يصلح تقديمه كما قُدم “الطريق إلى فلسطين والقدس يمر عبر سورية.
وبالرغم من ابتسامته التي غلبت على الحديث، نصر الله يعي أن معركة اليوم في اليمن معركة وجود، يمكن تغليبها على لعب العلاقات العامة، ولكنه في ذات الوقت، يراعي ضرورة الحفاظ على ذات الجمهور، “جمهور المقاومة”، بجانبه، بمجرد ظهوره، والذي سيتكرر – حسب قوله – خلال أسبوع أو عشرة أيام، وسيراعي مع كل ظهور أهمية تجييش جمهوره لملامح مشروع باتت أكثر وضوحًا لنا، مهما كلّف ذلك من التلاعب بالحقائق والكلمات، أو حتى تزويرها، تمامًا مثل كل ساسة العالم والناطقين باسمها، فنحن اليوم أمام الناطق باسم إيران وحلفائها ومشاريعها باللغة العربية.