مع الإعلان عن إنجاز الاتفاق النووي بين إيران والدول الست الكبرى، فقد تغيرت التوازنات بالمنطقة. ومرد ذلك أن تحسين علاقات إيران مع الغرب بعد الاتفاق سيغير المعادلات الإقليمية، بتداعيات جيو ـ سياسية كبرى، وآثار مباشرة على بؤر النزاع الإقليمي في العراق وسوريا ولبنان واليمن.
منطقياً، سيتطلب الأمر وقتاً حتى تمكن رؤية أبعاد التغيير الإقليمي وطبيعته الجيو ـ سياسية، كما ستلعب موازين القوى على الأرض دورها الأساس في رسم صورة المشهد الصراعي في تلك البؤر. وفي المقابل، هناك تداعيات جيو ـ اقتصادية للاتفاق تطال منطقة الخليج العربي والدول العربية الخليجية، تمكن رؤيتها من الآن، وهي تتبلور لتكتمل في فترة زمنية أقرب نسبياً. تتناول السطور المقبلة التداعيات الجيو-اقتصادية للاتفاق النووي على كل من قطر ودولة الإمارات.
تكنولوجيا الغاز ترسم العلاقة بين إيران وقطر
من شأن رفع العقوبات الاقتصادية، وبخاصة العقوبات المفروضة على قطاع الطاقة، أن يمكن إيران من الدخول مجدداً إلى سوق الطاقة العالمي. بدوره، سيتطلب ذلك فتح سوق الطاقة الإيراني أمام الشركات الكبرى، والأميركية ضمنها، للتطوير والاستكشاف والتنقيب والإنتاج والنقل، والتي تملك تكنولوجيا متطورة حرمت العقوبات إيران من الوصول إليها، فاكتفت حتى الآن بتكنولوجيا صينية وروسية.
ولما كانت إيران ثاني أكبر احتياطي مؤكد للغاز الطبيعي في العالم، فمن المنطقي أن ينصب الاهتمام الدولي والإيراني على تطوير حقولها من الغاز الطبيعي بالتكنولوجيا الجديدة، وتأمين طرق إيصاله إلى مستهلكيه في أوروبا والعالم.
وتتشارك إيران وقطر (ثالث أكبر احتياطي مؤكد في العالم) في حقل غاز هو الأكبر في العالم وتتقاسمانه، بحيث يعود لإيران الجزء الشمالي منه، وتطلق عليه «بارس الجنوبي»، ولقطر الجزء الجنوبي منه والذي تطلق عليه «حقل الشمال». ويمتد الحقل، البالغ الضخامة، بعرض الخليج بمساحة عشرة آلاف كيلومتر مربع، وتقدر احتياطاته المؤكدة بنحو 1300 تريليون قدم مكعب (ما يوازي 221 مليار برميل من النفط).
ولأن الحدود البحرية بين إيران الواقعة إلى شمال الخليج والدول العربية الواقعة إلى جنوبه تجري بنسق معين وفقاً للقانون الدولي، فقد تم تقسيم الحقل وفقاً للحدود البحرية المذكورة، فكان نصيب قطر منه مساحة قدرها ستة آلاف كيلومتر مربع تحوي 800 تريليون قدم مكعب من الغاز الطبيعي، ونصيب إيران منه مساحة أربعة آلاف كيلومتر مربع، بنصيب 500 تريليون قدم مكعب لإيران. ويعد هذا الحقل بالتحديد أساس الثروة القطرية من الطاقة، إذ يشكل نصيب قطر منه خمس احتياطات الغاز المعروفة في العالم. وحتى الآن كانت قطر سباقة في استخدام الحقل المشترك والإنتاج منه، فبدأت منذ العام 1991، بالتعاون مع «شركة شل»، الإنتاج من الحقل، أما إيران فبدأت الإنتاج منه في العام 2003 عبر «شركة بارس للنفط والغاز».
ومع سبقها الزمني، فقد استطاعت قطر، بتحالفها الاقتصادي والدولي، شراء أحدث التكنولوجيات في عالم الغاز الطبيعي، أي الغاز المسال. وفي حين يعتمد منتجو الغاز الكبار: روسيا (أكبر احتياطي مؤكد في العالم) وإيران على أنابيب نقل الغاز الطبيعي ذات التكنولوجيا التقليدية العتيقة، فقد استثمرت قطر مئات المليارات من الدولارات في تكنولوجيا الغاز المسال وسفن نقله، فاستطاعت الوصول إلى أسواق خارجية بعيدة للغاية عن محيطها الجغرافي، وهي ميزة ما زالت تمتلكها حتى لحظة كتابة هذه السطور.
وإذ تسربت أنباء خلال السنوات الماضية من مصادر صحافية غربية بأن قطر ربما تستخرج أكثر من حصتها في الحقل، بسبب امتلاكها لتكنولوجيا استخراج أكثر تطوراً من إيران، لن يعود ذلك الأمر ممكناً بالسهولة ذاتها في المرحلة المقبلة. هذا التقدير يستند إلى اعتبارين: الأول أن علاقات طهران المتحسنة بواشنطن سياسياً واقتصادياً ستقلص هامش مناورة التكنولوجيا المتقدمة التي تملكها قطر في ما يدعى استخراجا «جائرا»، والثاني أن فتح السوق الإيراني أمام التكنولوجيا الأميركية سيعدل الميزان التكنولوجي بين طهران والدوحة في مجال الغاز الطبيعي.
وتحسباً للاتفاق، فقد حاولت الدوحة مد الخيوط مع روسيا، الدولة الأولى في إنتاج الغاز الطبيعي بالعالم، حيث افتتحت شركة «غازبروم» الروسية قبل فترة قليلة مكتباً تمثيلياً لها في الدوحة، على الرغم من الخلافات السياسية العميقة بين الطرفين في قضايا المنطقة، لكن أفق التعاون الغازي بين قطر وروسيا لن تخرج عن الطابع الرمزي لاعتبارات متعددة. باختصار، ستتعدل العلاقة الجيوـاقتصادية بوضوح بين قطر وإيران في مجال الغاز الطبيعي لمصلحة الأخيرة بعد إبرام الاتفاق النووي.
مناطق التجارة الحرة تغير المعادلة مع الإمارات
تتميز العلاقات الإيرانية ـ الإماراتية بخصوصية أساسية، مفادها وجود خلاف واضح في الرؤى السياسية، خصوصاً حول الجزر الثلاث، طنب الكبرى وطنب الصغرى وأبو موسى، وحول ملفات المشرق العربي، وفي الوقت ذاته توافر قاعدة لتعاون اقتصادي وثيق بين إيران وإمارة دبي.
وجعل ذلك الأمر الإمارات الشريك التجاري الأول لإيران من بين أعضاء دول مجلس التعاون الخليجي، وأحد أبرز الشركاء التجاريين لإيران على مستوى العالم. وتضاعف التبادل التجاري بين إيران وإمارة دبي بسبب العقوبات الاقتصادية التي فرضت على إيران ثلاث مرات، خلال الفترة بين العامين 2005 و2009 ليبلغ تسعة مليارات دولار سنوياً. ثم عاد التبادل التجاري ليتراجع مع تجاوب دبي لمقتضيات العقوبات الدولية المفروضة على إيران، ليتراجع عن ذلك الحد، إلا أن دبي ظلت شريكاً تجارياً مميزاً لإيران. وبسبب العقوبات الاقتصادية المفروضة على إيران، فقد زادت جاذبية الإمارات في العيون الإيرانية، حيث ارتفع عدد الشركات الإيرانية العاملة انطلاقاً من الإمارات، ومعها التبادل التجاري بين البلدين الجارين.
في لحظة كتابة هذه السطور، تتصدر الإمارات دول مجلس التعاون الخليجي في التعاملات الاقتصادية مع إيران، وتليها السعودية، في حين تأتي سلطنة عُمان التي تتمتع بعلاقات سياسية متميزة مع إيران في مرتبة اقتصادية متأخرة نسبياً. ولعب موقع الإمارات المتميز على خريطة التصدير وإعادة التصدير العالمية عموماً والآسيوية خصوصاً، دوراً أساسياً في إمالة ميزان القوى الاقتصادي لمصلحة الإمارات في مواجهة إيران خلال العقد الأخير. وفوق كل ذلك أمكن للطرفين بناء «مصالح مشتركة» فوق أرضية تجارية ثابتة، الأمر الذي شكل ديناميكية خاصة لعلاقات متناغمة اقتصادياً ومتنافرة سياسياً.
الآن تتغير صورة المشهد الإماراتي ـ الإيراني بعد توقيع الاتفاق النووي، والرفع المرتقب للعقوبات، حيث ستتأثر القوة النسبية لورقة الاقتصاد الإماراتية في إدارة علاقاتها مع إيران، لأسباب ثلاثة؛ الأول أن رفع العقوبات الاقتصادية عن إيران سيطلق يدها في تشكيل علاقاتها التجارية مع العالم، بحيث تنوع إيران تجارتها الخارجية مع شركاء إضافيين، ولا تعود تعتمد بشكل أساسي على دبي. والثاني أن إيران تزمع بالفعل تدشين ست مناطق حرة على سواحلها الجنوبية بموجب خطتها للنهوض الاقتصادي، الأمر الذي سيضع دبي في مواجهة منافسة تجارية غير مسبوقة. والثالث أن خطة إيران للنهوض الاقتصادي المشتملة على توسيع وتحديث مطاراتها القائمة، وبناء أخرى جديدة، للصعود إلى مركز العقدة في الطيران التجاري الدولي بين شرق آسيا والشرق الأوسط، سيهدد المكانة التي تحظى بها دبي على هذا الصعيد أيضاً.
الخلاصة
يرتب الاتفاق النووي بين إيران والدول الست الكبرى رفعاً تدريجياً للعقوبات الاقتصادية المفروضة على إيران، ما يغير من الإطار الجيو ـ اقتصادي لعلاقاتها مع كل من قطر والإمارات لأسباب مختلفة.
وستلعب الفوائض المالية دوراً في توسيع هامش المناورة الخليجية، حتى مع تراجع الأسعار في السوق العالمية للطاقة. بالمقابل، فإن قدرة إيران على استقطاب التكنولوجيا المتطورة للغاز الطبيعي، وتنفيذ خططها للنهوض الاقتصادي ولمشروعات البنية التحتية، ستقلل الفترة الزمنية لإنضاج التغير الجيو-اقتصادي في علاقاتها مع كل من قطر والإمارات، ذلك الذي بدأ عده العكسي بالأمس مع توقيع الاتفاق النووي.