يحاول النظام الحاكم في مصر ضرب فكرة السياسة والتسييس التي كانت إحدى ثمار ثورة الخامس والعشرين من يناير.
ومنبع ذلك ليس فقط إحساس النخبة العسكرية الحاكمة بالخطر من أن يؤدي التسييس إلى الفهم، ومن ثمة لاحقاً إلى الفعل، ما قد يهدد وجود النظام نفسه، وإنما أيضاً لقناعة العسكر بأن الشعب لا يعرف مصلحته، لذا لا يمكن تركه لحاله، لذلك يجب أن تُفرض عليه وصاية من “الأخ الأكبر” الذي يعرف كل شيء. ليس هذا المنطق غريباً على الأنظمة العسكرية، بل يمثل أطروحة أساسية لتبرير قفزها على السلطة، وقمع المعارضين لاحقاً الذين يتحولون دوماً إلى “عملاء وخونة” في نظر هذه الأنظمة.
ثمة وسائل كثيرة لوأد حالة التسيسس لدى عموم الناس، وقتل اهتمامهم بالشأن العام في أي مجتمع. منها على سبيل المثال تفريغ مضمون الممارسات والمؤسسات السياسية، بحيث تصبح بلا قيمة لدى المواطنين. ومنها أيضا أن يتصدر المشهد السياسي مجموعة من الموالين والتابعين للسلطة، أو مجموعة من “الأراجوزات” الذين لا يتمتعون بأية خبرة سياسية تؤهلهم لتمثيل المواطنين. فمثلاً، عندما تجري الانتخابات البرلمانية، ولا يشارك فيها أحد، كما حدث في مصر أخيراً، فهذا تفريغ للممارسة الانتخابية من معناها ووأد جدواها.
وعندما يصل إلى البرلمان تابع ومؤيد للسلطة التنفيذية ومزايد عليها، أو فاسد يسعى إلى تحصين نفسه وتعزيز مكاسبه، فهذا تفريغ للمؤسسة التشريعية من أهم أدوارها، وهو الرقابة والتشريع. وحين تتحول الأحزاب إلى مجرد كيانات كرتونية، تؤمن وتبارك ما تريده السلطة منها، فهذا تفريغ للمعارضة السياسية من معناها ووظيفتها. وعندما يتحول الإعلام إلي بوق رسمي للسلطة، يدور معها أينما دارت، يفقد وظيفته الأساسية سلطة رابعة، وظيفتها تمثيل الشعب وليس السلطة. وعندما تقوم المؤسسات السيادية (العسكرية والاستخباراتية) بممارسة السياسة، والتدخل في إدارة الشأن العام اليومي، فهي، عندئذٍ، تتخلى عن وظائفها الأسياسية في حماية الأمن القومي للبلاد، وتستنزف نفسها في قضايا، يمكن أن يقوم بها مدنيون أكفاء.
نحن، إذاً، إزاء عملية تفريغ تكاد تكون ممنهجة ومتعمدة للممارسات من معناها، وللمؤسسات من وظائفها الأساسية، وهو تفريغ لا يأتي من فراغ، أو يجري اعتباطاً، وإنما تقف في خلفيته عملية تصنيع “الفرعون” الذي يمكنه أن يملأ هذا الفراغ، بحكمته وسلطته وسياساته، خصوصاً إذا كان هذا الفرعون “فارغ المعنى والمضمون”، ولا يحظى بأي قدرات أو إمكانات سياسية. وهو أمر انطبق بشكل كبير على الرئيس المخلوع، حسني مبارك، الذي كان معروفاً عنه ضآلته وقدراته السياسية.
لذا، كان يحتقر المفكرين والمثقفين، ولا يعيرهم اهتماماً، كونه أقل من أن يفهم لغتهم، ويعرف منطقهم. الآن، لدينا رئيس هو قطعاً أقل وعياً وفهما من مبارك، وتكاد معرفته بالسياسة تقف عند حدود تنفيذ أوامر رؤسائه. وهو الذي عندما سُئل في أثناء حملته الانتخابية عن برنامجه، بدا متفاجئاً وتائهاً، وكأنما نزلت عليه صاعقة من السماء، ففقد القدرة على الرد، أو تقديم إجابة مقنعة، فكان رده العفوي “برنامج إيه؟ محدش قالي إن لازم أقدم برنامج”. رئيس أو حاكم يعتقد أن الدستور الذي كتبته لجنة اختارها بعناية أنه “كُتب بُحسن نية”، ممهداً الطريق نحو إمكانية تعديله، من أجل زيادة سلطاته وصلاحياته.
ولدينا رئيس لا يريد برلماناً ولا رقابة على قرارته، ولا أن يسمع كلمة انتقاد له في الإعلام. وهو رئيس يسعى، بكل قوة، إلى تسخيف السياسة، وجعلها أمراً ثانوياً وهامشياً في حياة المواطنين الذين يُراد لهم أن يوافقوه، من دون مناقشة، وأن يسايروه من دون مراجعة.
ومن الواضح أن القائمين علي السلطة في مصر لا يريدون، بأي حال، أن يكون للشعب أية كلمة في إدارة الشأن العام، ويرغبون ألا يغرق المواطنون في السياسة، وأن ينشغلوا فقط بتوفير لقمة العيش. وهي الطريقة نفسها التي اتبعها مبارك، وكانت نتيجتها معروفة.
من هنا، يمكن فهم عملية تأميم المجال العام، وقمع المعارضين، وتجريم التظاهر، وتوجيه الاتهامات الجاهزة لكل من يحاول الاعتراض على الأوضاع القائمة. وهؤلاء تجري معاقبتهم، كي يرتدع الباقون، ويتم التضحية بهم من أجل منع بقية شرائح المجتمع الحديث في السياسة. يريدون مجتمعاً أصم، لا يرى ولا يسمع ولا يتكلم، ويسعون، بكل جهد، لعرقلة أية محاولة قد تؤدي إلى عتق هذا المجتمع وإخراجه من حالته البائسة.
ولا يدرك الطغاة (وهذه عادتهم!) أنّ وأد السياسة لا يعني، بالضرورة، وقف الاهتمام بالشأن العام، وأن تفريغ المؤسسات والممارسات لا يعني، بالضرورة، أن الناس سوف تنصرف عنهم وتتركهم وشأنهم. ويغيب عنهم أن الوجه المقابل لهذه الأطروحة تحول المجتمع نحو مسارات أخرى، أبرزها العنف والرغبة في الانتقام من السلطة، ومن فيها، وذلك في لحظة محددة، لا يحددها الحاكم، وإنما من كان يحتقرهم يوماً، وهم الشعب.