مع انتشار الحروب والإضطرابات في المنطقة العربية خلال السنوات الأخيرة، حدث فراغ فكري أعطى الأصوات المتطرفة الفرصة للظهور وإستغلال التدخل الغربي واستبدادية السلطة في نشر فكرهم السام، ولكن بعد التخلص من “داعش”، كيف نضمن أن لا تأتي جماعة أخرى مثلها لتملأ الفراغ الفكري الذي سيحدث؟
نشرت صحيفة ميدل ايست مونيتور مقال للكاتب رمزي بارود، رصد من خلالها الأزمة التي لم ينتبه لها سوي القليل، ولم تحظى بإهتمام إعلامي طارحاً عدة جوانب الأزمة.
وإلى نص المقال :
بعد عودتي للشرق الأوسط خلال الأشهر الماضية، لاحظت غياب المثقفين العرب في منطقة أخرجت العديد من المثقفين الممييزين، ولكن هذه الطبقة أصبحت الآن مهمشة.
أما الرؤى العربية فمحظورة لعدة أسباب أهمها ظهورالدعاية الطائفية، أو إسكات المفكرين وتهديدهم، أو أنهم فشلوا في التعبير عن رؤيتهم بعيداً عن الطوائف التى ينتموا لها، وأدى هذا الفراغ الفكري إلى وجود الأصوات المتطرفة التى تدعو إلى الإبادة الجماعية للجميع.
ويبدو أن العديد من علماء الدين توحدوا لمواجهة الاصوات التى استخدمت الدين لتعزيز أجندتهم السياسية. وعلى الرغم من مبادراتهم المتكررة فإن هذه المبادرات لم تحظىبإهتمام إعلامي .
فعلى سبيل المثال وقع حوالي 100 ألف رجل دين مسلم في يونيو 2016 فتوى تدين داعش. وأصدر العديد من رجال الدين في مختلف المناسبات مثل هذه الفتوى.
وعلى الرغم من عدم تمثيلهم للمسلمين في الشرق الأوسط وآسيا وأفريقيا، إلا أن الغرب رأى أن داعش تمثل الإسلام.
وفشل الجميع في ربط التطرف بالدين، حيث أن الإسلام ساهم تاريخياً في رفع الغرب من العصور المظلمة إلىعصر الفلسفة، ويعود الفضل للعلماء المسلمين خلال العصر الإسلامي الذهبي في تمرير إنجازاتهم في الكيمياء والرياضة والفلسفة وغيرها من المجالات إلى أوروبا في القرن الثاني عشر.
وكانت المدن الإسلامية المتطورة مثل الأندلس وأسبانيا بوابات لنقل العلم الإسلامي إلى الغرب الأوروبي الذي كان غارقاً في الحروب والخرافات.
وتغير الوضع مع سقوط غرناطة في 1492، حيث حدثت مذابح كثيرة للعرب واليهود في أسبانيا استمرت لمئات الأعوام، وسعى حينها اليهود لإيجاد ملاذ آمن في العالم العربي واستمرت فترة التعايش السلمي بين العرب والمسلمين حتى منتصف القرن العشرين. وبينما تغير الزمن ظل جوهر الإسلام متماسكاً.
ولم يتغير جوهر الإسلام على الرغم من تباين الأطراف المتحدثة بها ما بين مثقفين أثروا في العالم، أو داعش الذين اجتزئوا من الدين ما يخدم أجندتهم ونشروا القتل والفساد.
وعند طرح تساؤلات بشأن داعش، غالباً لا نحصل على إجابات ذات معنى بسبب أن الاسئلة والنقاشات تحصر في سياق الأمن الغربي ورفض النقاش عن ظهور داعش في المناطق التى تغزوها أمريكا والغرب.
ويبدو أن الجماعات الإسلامية سواء القاعدة او داعش تظهر في المناطق الموجود بها الجيوش الغربية في الشرق الأوسط، وتزدهر في المناطق التى لا توجد بها قيادة مركزية قوية أو فاقدة شرعية أو لا تحظى بدعم الشعب، مما يترك الباب للتدخل الغربي وبعدها ظهور المتطرفين.
ولم تملك اليمن أو الصومال قيادة مركزية قوية منذ سنوات، وكذلك ليبيا ومالي، ولا يبدو غريباً أن تقع هذه المنطقة فريسة للتدخل الغربي ولظهور المتطرفين.
وغالباً تبرر القوى الغربية تدخلها بمحاربة الإرهاب، وهكذا تستقوى الجماعات المتطرفة بهذه التدخلات من خلال التجنيد وإعطاء شرعية لأنفسهم للدفاع عن دولتهم ضد الغرب. وبدأت هذه الدائرة منذ الغزو الأمريكي للعراق في 2003، ولا يتم نقاش ذلك في الإعلام الغربي.
أما بالنسبة للوضع الفكرى في العالم العربي فتغير خلال السنوات الأخيرة حيث أصبحت الأفكار قابلة للشراء، ومن أمثلة ذلك إستخدام الكتابة والفكر لخدمة أحزاب بعينها، ويعتمد الوضع على من يدفع أكثر، وهكذا وقع المفكرون في ضحايا بتحولهم لمثل هؤلاء الأشخاص.
وكان هناك وقت يتنافس المثقفون للخروج بكتابات فريدة، وهو مزيج من الأيدلوجيات القومية والإشتراكية والإسلامية والتى كان لديها تأثير هائل على تثقيف الشخص العربي.
وحتى في الوقت الذي كانت فيه الحركات تتمحور حول شخص أو حزب حاكم، فإن الحركة الفكرية العربية التى ظهرت خلال النضالات المناهضة للإستعمار وما بعد الإستعمار ظلت نابضة للحياة وذات فائدة.
وأدت الإنتكاسات التى أعقبت الثورات في 2011 والحروب الأهلية إلى إستقطاب هائل، وسجن العديد من المفكرين أو صمتوا فيما إختار عدد منهم إلى الهروب إلى الدول الغربية. وكرس المثقفين الزائفين أنفسهم إلى من يقدم أعلى سعر.
وأدى الفراغ الفكري إلى ظهور داعش والقاعدة وغيرها من الجماعات لملىء الفراغ بأجندتهم، وعلى الرغم من أن هذه الأجندات مرعبة إلا أنهم أتوا في وقت يأس فيه العرب مع تزايد التدخل الغربي، وعدم ظهور أي حركة فكرية محلية لتقديم خارطة طريق لمستقبل خالي من الطغيان والإحتلال الأجنبي.
ولذا يجب أن يعلم الجميع أنه حتى إذا هزمت داعش على الأرض فإن أيدلوجياتها لن تختفى، ولكن ستخرج منها جماعات آخرى، حيث أن داعش نفسها خرجت من جماعات متطرفة آخرى.
ولا يستطيع المفكر العربي الغربي ولا المفكرين المحليين ملىء هذا الفراغ في الوقت الراهن، وهو ما يترك مساحة للمزيد من الفوضى والتى يمكن أن تملائها جماعات متطرفة آخرى.
ولا يمكن أن بدء هذا النقاش عن طريق الجامعات الغربية، ولا وسائل إعلام عربية تابعة للحكومات حيث أنه يمكن أن تفرض روايات تدعم المصالح الذاتية، وبدلاً من ذلك يجب أن يبدء المفكرين العرب سواء مسيحيين أو مسلمين نقاشات حول الوضع. ويمكن أن نعتبر أن بدء مثل هذه الحركة هو الأمل لرسم بديل مستقبلي في المنطقة.
ويجب أن نعلم أنه بدون مقاومة فكرية فإن العرب سيستمروا محاصرين في خيارين أولهما هو خضوعهما للتدخلات الخارجية أو بقائهم رهائن للأنظمة التى تدعم نفسها فقط.