رغم مرور مئات السنين، فإن التماثيل التي بناها الغربيون لقادتهم العظام مازالت منتصبة في الساحات والميادين، بينما تقوم الجماهير بتحطيم تماثيل بعض الحكام العرب بعد رحيلهم، وأحياناً أخرى خلال حياتهم، كما يحدث الآن للعديد من الطغاة؟ ما السبب يا تُرى؟ إنه بسيط جداً، فلا يمكن أبداً فرض التماثيل بالحديد والنار، ناهيك عن أن الشعوب هي التي تبني عادة التماثيل والنصب لقادتها تكريماً لهم، وتحميها بعد مماتهم. أما عندنا نحن العرب فالذي يأمر ببناء التماثيل لهذا الزعيم أو ذاك هو الزعيم نفسه أو نظامه أو المنافقون من حوله ليرهبوا الشعوب بها وبصوره على الطريقة الأورويلية دون أن يدروا أن تلك التماثيل مصيرها التحطيم والزوال والدوس تحت الأرجل في يوم من الأيام، لأن الجماهير لم تكن راضية عن أصحاب تلك النصب أثناء حياتهم، فما بالك أن تقبل بها بعد زوالهم. بعبارة أخرى، فإن الشعوب تـمهل ولا تـهمل، فأحيانا ينتظر التاريخ طويلاً قبل أن يُنزل عقابه بالطغاة والمستبدين، وأحيانا أخرى يقتص منهم قبل هلاكهم كما يحدث هذه الأيام للطغاة العرب المحاصرين بالثورات الشعبية.
كم تكالبت الأقلام على بعض القادة التاريخيين في عالمنا العربي وغيره! وكم حاول البعض تشويه تاريخ بعض الشخصيات والأحداث عاماً بعد عام! وبطريقة شبه منظمة أحيانا، كأن ينتقصون من قدرها وبطولاتها وإنجازاتها، ويغيرون مسمياتها وألقابها العظيمة التي حققتها بعرق جبينها، لكن لم تستطع أن تنال منها، لأن الحق كالزيت دائما يطفو فوق الماء. فالتاريخ يستطيع في أوقات كثيرة أن ينتقم للمجني عليهم بطريقته الخاصة، فيعيد الحقوق إلى أصحابها ولو بعد حين. وكم حاولت بعض القوى الغاشمة أن تحرف التاريخ عن مساره، وتلونه، وتزينه حسب أهوائها وغاياتها، كما فعل بعض الحكام الحاليين والبائدين! لكنها أيضا فشلت فشلاً ذريعاً، فمن المعروف أن جهات كثيرة حاولت أن تعظّم من شأن بعض رجالاتها وبطولاتها الوهمية أو الملفقة، فقامت بحملات منظمة على مدى السنين خلال حياتهم وبعد مماتهم كي تصنع منهم شخصيات تاريخية يخلدها التاريخ. وكم من الملايين أنفقت لهذا الغرض في الدعاية والكذب والتطبيل والتزمير، لكن ما إن مرت السنين على رحيل هؤلاء حتى تبخر كل شيء، فلم يبق منهم حتى الذكرى رغم الجهود الهائلة التي بُذلت، ومازالت تُبذل كي يبقوا على قيد التاريخ.
كم يبدو التاريخ صارماً مع الطغاة والسفاحين من الحكام، فهو يميل دائما إلى محاسبتهم ومعاقبتهم عقاباً شديداً دون أن ينسى جرائمهم وبشاعتهم بحق الإنسانية. تلك هي لعنة التاريخ على كل الذين أزهقوا أرواح شعوبهم لإرضاء نزعاتهم الدموية السافلة والحقيرة والدنيئة، فأقاموا دولهم المضرجة بالدماء فوق أكوام من الجماجم والجثث. وقد يقول قائل في هذا السياق إن التاريخ خلّد العديد من القادة العظام الذين تلطخت أياديهم بالدماء، ولم يضرهم هذا أبداً، وهذا صحيح، لكن انتصاراتهم وبالتالي فظاعاتهم كانت ضد أعدائهم، وهذا أمر مباح، لا بل يُعتبر نوعاً من البطولة، حسب مقاييس التاريخ. أما بالنسبة للطغاة والمستبدين الجديرين بالاحتقار فهم أولئك الذين لم ينتصروا إلا على شعوبهم بالقتل والدمار والتشريد وتكبيل الحريات ودوس الكرامات، فهؤلاء لا تحل عليهم إلا اللعنات، وهم للأسف الشديد كثر، فالماضي البعيد والقريب مليء بالستالينات العرب الحاليين والبائدين، لكن مكانهم محجوز مسبقاً في قعر التاريخ، فالأسفل للسافلين دائماً.
وكما أن التاريخ يعاقب الجزارين والجبارين بطريقته الخاصة، فإنه أيضا يكرّم العظماء الحقيقيين، فالشعوب أذكى من أن تخدعها الألقاب الكبيرة وعبارات الإطناب والتعظيم المفروضة بقوة الحديد والنار والكلاب البوليسية وأجهزة الأمن، فتماثيل العظماء الحقيقيين تبقى لمئات السنين، ولا تؤثر فيها سوى العوامل الجوية من برد وصقيع وحر. أما تماثيل أولئك الذين يزعمون العظمة، ويحاولون فرضها زوراً وبهتاناً عن طريق الترويع والتخويف والدعاية والأكاذيب وحملات التطبيل والتزمير والنفخ فهي آيلة للسقوط في أقرب فرصة مواتية، لكن ليس بسبب تقلبات الطقس، بل بأيدي الشعوب الثائرة، فتماثيل بعض الطغاة العرب كانت تملئ ساحات وأبنية العديد من البلدان، لكن ما إن أتيحت أول فرصة للشعوب كي تقتص من جلاديها حتى انهالت على تلك التماثيل بالفؤوس والأحذية والركلات، فلم يبق منها شيء يُذكر، فتم تدميرها وأحياناً حرقها عن بكرة أبيها. فالتماثيل تبقى لأمد طويل إذا كانت الشعوب راضية عن أصحابها فقط، أما إذا كانت ضحية لهم ولهمجيتهم وديكتاتوريتهم القبيحة، فهي تكون على أحر من الجمر كي تزيلها، وتبنى مكانها مراحيض عامة انتقاماً من الطغاة وميراثهم الوسخ. أين تماثيل ونصب القادة الشيوعيين فيما كان يُسمى أوروبا الشرقية؟ لقد تم رميها في مزابل التاريخ وهو مكانها الأمثل. فالشعوب لا تنسى جلاديها حتى بعد مرور قرون على نفوقهم، لكنها أيضا لا تنسى قادتها العظام.
انظر كيف عاقبت الشعوب العربية طواغيتها بتمريغ تماثيلهم بالتراب والأوساخ، وانظر كيف كرّمت الشعوب العربية أبطالها الحقيقيين الذين حرروها من رجس الاستعمار العثماني والبريطاني والفرنسي والإيطالي وغيرهم، فكل النصب التي أقامتها الشعوب لهؤلاء الثوار مازالت شامخة تزّين ساحات الوطن العربي وميادينه بمباركة كاملة من تلك الشعوب، ورغماً عن أنوف الطغاة الذين حكموا البلاد العربية بعد الاستقلال، وحاولوا أن يفرضوا تماثيلهم الزائفة بالحديد والنار. لكن بينما ستبقى تماثيل المحررين الأصلاء منتصبة، فإن التماثيل المفروضة ستنهار عاجلاً أو آجلاً.
وينطبق الأمر ذاته على الشعوب الأخرى. انظر كيف كرّم البريطانيون وينستون تشيرتشل في استفتاء القرن! فقد اختاروه كأعظم زعيم بريطاني في القرن العشرين، ومازالت تماثيله البرونزية والحجرية منتصبة عالية شامخة في الساحات العامة والحدائق، فذكرى الزعماء العظام لا تحميها قوات الأمن والشرطة والحكومات المتعاقبة، بل ذاكرة الشعوب.