عانت مصر في الستين عامًا الأخيرة من الانحدار الثقافي والاجتماعي والسياسي والاقتصادي وتفشي الفساد والتعصب، بعدما كانت مجتمعًا منفتحًا ومتسامحًا نوعًا ما تندمج فيه ثقافات لمختلف الشعوب.
وترى صحيفة «سالون» أنّ قصة الانحدار الذي أصاب مصر في العقود الماضية تخبرنا بطريقةٍ ما عن مستقبل أميركا «المظلم» الذي ينتظرها. كيف؟
تقول الصحيفة: كانت الإسكندرية ثانية أهم مدينة في مصر مكانًا عالميًا، وهي تقع شرق البحر الأبيض المتوسط في زاوية إفريقيا والشام، وجذبت عددًا كثيرًا من اليونانيين والإيطاليين واليهود الأوروبيين واللبنانيين وغيرهم. وكانت مركزًا للغات والثقافات التي اندمجت معًا في المجتمع.
هكذا كانت مصر في أواخر القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين، أما الآن أصبحت غير ذلك.
التحول في مصر
ومعرفة كيفية التحول الذي أصاب مصر الآن تعد أمرًا صعبًا وضبابيًا، لكن يمكن الإشارة إلى أن ما وصلت إليه هو نتيجة مؤسفة لضعف التخطيط الحضري أو غيابه من الأساس، والزيادة السكانية المتزايدة في مصر والفساد الواسع النطاق. وفي تطور مثير للسخرية، أصبحت المدينة أيضا معقل الإسلاميين على مدى العقود الأربعة الماضية.
هناك بالطبع كثير من القصص عن مصر في ما تسمى الفترة الليبرالية، أو السنوات التي أعقبت الحرب العالمية الأولى في الأربعينيات. ولم تكن مصر أبدًا متقدمة كما تُصوّر الآن، حتى إن المذكرات التي تحدثت عن الحياة في الإسكندرية والقاهرة في منتصف القرن العشرين تصوّر واقعًا أكثر تعقيدًا في فترة الاحتلال الأجنبي؛ إذ انتشر النظام الاقتصادي الإقطاعي والتمييز الديني والفاشية. لكن، مع ذلك، مرّت مصر بسنوات كانت فيها مجتمعًا أكثر تسامحًا وانفتاحًا وديناميكية، وعلى مستوى النخبة، كان الناس في جميع مناحى الحياة والخلفيات والخبرات جزءًا من النسيج الاجتماعي والسياسي والفكري والثقافي والاقتصادي للمجتمع.
لكن، في الستين عامًا الأخيرة، تطورت في مصر مجموعة قوية من الأفكار المتعلقة بالشعبية والقومية والأصولية الدينية التي خدمت المصالح الضيقة للقادة السياسيين المصريين، وهي قصة لا تزال مجهولة إلى حد كبير لفئة غير المتخصصين في السياسة والتاريخ المصريين.
لكنّ المفاجئ هو صلة هذه التغييرات بالمعضلات السياسية والصراعات التي تحدث في الولايات المتحدة حاليًا، حتى في ضوء الاختلافات الواسعة في التاريخ والثقافة والنظم السياسية والتنمية الاقتصادية بين البلدين؛ وبالتالي قصة مصر تحذيرية للولايات المتحدة اليوم. كيف؟
القوى الشعبية
تقول الصحيفة إن السياسات الشعبوية والقومية والدينية، التي وصفتها بالشراب السام، تسببت في الانحدار المصري وأوصلته إلى ما هو عليه اليوم؛ وهذه السياسات والأفكار تنمو الآن من جديد في أميركا.
فعندما استولى الضباط الأحرار على الحكم في مصر عقب انقلاب 23 يوليو 1952 لم يكن لديهم سوى فكرة بسيطة عن كيفية الحكم وما هم بصدده بالضبط؛ إذ أعلن «أنور السادات» عن استيلائهم على مبنى الإذاعة والتلفزيون، وتحدث عن الفساد والآثار المدمرة لاستمرار الاحتلال البريطاني للبلاد، وذكر هؤلاء القادة الصغار «الضباط الأحرار» في البداية أنهم يهدفون إلى «الإصلاح»، ثم أعلنوا عن هدم النظام السياسي الموجود وتبني نظام سياسي جديد يتولون فيه السلطة ظاهريًا.
تقول الصحيفة إن هذا المشروع مكّنهم فيما بعد من احتلال مكانة بارزة في النظام السياسي الجديد، الذي أنتج مجموعة متنوعة من المعارضين؛ بدءًا من الليبراليين والشيوعيين إلى الإخوان المسلمين والطلاب من جميع الأشكال السياسية.
واستخدم الضباط القوة المفرطة لفرض إرادتهم على خصوم نظامهم الجديد. لكن، بحسب الصحيفة، هذه القوة وحدها غير كافية ومكلفة إلى حد كبير؛ لأنهم كانوا بحاجة إلى استراتيجية سياسية أيضًا. وسرعان ما اكتشف جمال عبدالناصر أنّ «الشعبوية» وسيلة فعالة لتأمين نظامه الجديد وقوته، وكان هناك ما يمكن استخدامه لتحقيقها؛ إذ احتل البريطانيون مصر عام 1882 وحكموها عبر ملكية فاسدة وحكومات عاجزة. وفي هذه الفترة اندلعت ثورات ضد هذا الوضع المؤسف، وكان هناك استياء متزايد تجاه النخب التي ترأست نظامًا يديم من التمايز ويزيده.
وهكذا استغل ناصر التأثير الخبيث للقوى الخارجية على المصريين وظاهرة شكّ الأجانب والنظام السياسي الفاسد، فيما أكد النوايا الجديدة للقادة الجدد برفع المستوى الاجتماعي للمصريين، ولعب هو وزملاؤه الضباط الأحرار على أصولهم المتواضعة ظاهريًا؛ على الرغم من أن معظم هؤلاء الضباط كانوا أصلًا من الطبقة المتوسطة أو الطبقة الأعلى منها.
وفي يوليو 1956، أمّم ناصر قناة السويس (التي كانت تحت السيطرة البريطانية منذ عام 1875 عندما أجبر الخديوي إسماعيل على بيع حصص مصر فيها لتسوية الديون المستحقة للبنوك الأوروبية)، واعدًا باستخدام عائدتها العظيمة لمصر فقط، وكان هذا تحركًا منطقيًا؛ نظرًا لأهمية القناة، التي استفاد منها الأجانب فقط، وساهم التأميم في تعزيز قوة ناصر الوطنية، بينما لا يزال «التأميم» حتى الآن عنصرًا أساسيًا في الأساطير الوطنية في مصر.