شبكة رصد الإخبارية
follow us in feedly

تحليل: قصة تخلّي موسكو عن الرياض عام 1938.. واللقاء الأخير متواضع

الملك سلمان أثناء زيارته موسكو ولقاء الرئيس الروسي فلاديمير بوتين

حازت الزيارة الأولى للعاهل السعودي إلى موسكو كثيرًا من اهتمام وسائل الإعلام العالمية؛ إذ بات ملحوظًا تأرجح العلاقات بين الرياض وواشنطن، ومحاولة السعودية معالجة الأمر ببناء جسور صداقة مع موسكو؛ ليتجاوز الطرفان خلافاتهما الكبرى المتعلقة بالقضايا الإقليمية المشتعلة، وصاحب الملك سلمان وفد يشمل قرابة 1500 شخص، وسط توقعات مرتقبة بعقد صفقات سياسية وتجارية كبرى، حسبما نشرت «شبكة الجزيرة».

وأضافت، وفق ما ترجمته «شبكة رصد»، أنّ الزيارة الأولى لملك سعودي إلى روسيا غرقت في المجاملات الدبلوماسية؛ لكنها افتقرت إلى الجوهر، وما أثمرته الاجتماعات الثلاثة كان أكثر تواضعًا مما كان متوقعًا.

إذ لم توقّع الدولتان سوى اتفاقيات، معظمها مذكرات تفاهم، وتوصّل إلى اتفاق لإنشاء صندوق استثماري للطاقة بلغت قيمته بليون دولار، وصندوق استثمار التكنولوجيا الفائقة، بلغت قيمته مليار دولار. كما تفاوض الجانبان كذلك على بيع أنظمة دفاع من طراز «S-400».

ولكن، وبالنظر إلى عقود الأسلحة التي تبلغ قيمتها 15 مليار دولار التي وافقت عليها الولايات المتحدة مؤخرًا للسعودية؛ يبدو أنّ اتفاق موسكو والرياض متواضع جدًا. كما يتجلى للمتابع أن الاجتماعات الرفيعة المستوى في الكرملين فشلت في تحقيق أي مظهر من مظاهر التقدم السياسي والاقتصادي في العلاقات الثنائية.

ولا ينبغي اعتبار ذلك أمرًا مفاجئًا؛ لأنّ روسيا والسعودية قطعتا علاقاتهما منذ نحو 54 عامًا. فالولايات المتحدة أصبحت الشريك المهيمن للرياض وحليفها الأمني، ربما كانت نتيجة زيارة الملك سلمان مختلفة تمامًا؛ لو لم تكن الرياض أفسدت العلاقات الروسية السعودية قبل 80 عامًا وتسببت في الانقطاع.

ومن المعروف أنّ الرياض وموسكو تمتّعتا بعلاقات دافئة بشكل ملحوظ في العشرينيات والثلاثينيات من القرن الماضي؛ إذ كان الاتحاد السوفيتي رائدًا دبلوماسيًا في السعودية، وأولى دولة اعترفت بقيام دولة عبدالعزيز آل سعود، ملك الحجاز وسلطان نجد، في فبراير 1926.

السلطان عبدالعزيز بن سعود في روسيا عام 1930

وكان الانتشار السوفيتي الساحر في شبه الجزيرة العربية في 1920 تتويجًا لمحاولات من موسكو للحصول على موطئ قدم في المنطقة قبل ذلك. وفي وقت مبكر من عام 1900، بدأت السفن العسكرية الإمبراطورية الروسية تتواتر على الخليج وتجري محادثات من ميناء في الكويت مع وجهات أخرى.

وزار الطيار الروسي الشهير فارياج الكويت في ديسمبر 1901 واستقبله الأمير مبارك الصباح؛ على الرغم من اتفاقه مع بريطانيا العظمى على ألا يستقبل الضيوف العسكريين الأجانب. وفي هذه الزيارة، تعرّف الروس للمرة الأولى إلى عبدالرحمن آل سعود، الذي كان في منفاه في الكويت في حينها، جنبًا إلى جنب مع ابنه الأكبر عبدالعزيز. وبعد عام استعاد آل سعود الرياض من منافسيهم «آل راشد».

وفي الوقت الذي سعى فيه بيت آل سعود للحصول على دعم دولي، نظرت لندن إلى الشاب عبدالعزيز مع كثير من التشكك. وهذا السبب في أنه كان على اتصال مع القنصل الروسي في مدينة بوشهر الفارسية يدعوه إلى زيارة؛ فزار القنصل الكويت في عام 1903 برفقة سفينة عسكرية روسية تسبّبت في احتجاج من لندن.

لكن، لم تقرّر موسكو بعد الثورة البلشفية التركيز الجاد على الخليج، تمامًا مثل الإمبراطورية الروسية؛ إذ رأى الاتحاد السوفيتي قيمة الوجود الدبلوماسي في المنطقة وسيلة للوقوف في وجه بريطانيا.

وبصرف النظر عن ملاحقة تطورات العلاقة مع بيت آل سعود، نظر الاتحاد السوفيتي إلى مملكة الحجاز التي كان يحكمها الشريف حسين مسيطرًا على مكة والمدينة وسيلة للوصول إلى العالم الإسلامي بأسره. كان حسين على خلاف مع لندن، واتصال بحلفاء أجانب أقوياء؛ وهذان سببا مشاركة ممثله في روما في محادثات مع السوفيات.

كريم حكيموف في اللباس العربي التقليدي

ويكشف الاتصال الدبلوماسي الواسع النطاق بين مفوض الشؤون الخارجية السوفيتي للشؤون الخارجية جورجي تشيشيرين والدبلوماسيين السوفيتيين عن مدى أهمية رؤيته لشبه الجزيرة العربية ودورها في العالم الإسلامي. وقال تشيشيرين في مذكرته إلى جوزيف ستالين، الذي دعا إلى تعيين مسلم سوفيتي مبعوثًا إلى الحجاز، إنّ «الدخول إلى مكة المكرمة له أهمية حاسمة لنا؛ لأنه سيزيد من نفوذنا في شبه الجزيرة العربية وخارجها».

واعترف المفوّض بأنّ الارتحال إلى مكة وشعيرة الحج كانا فرصة مثالية للوصول إلى الآلاف من المسلمين من المستعمرات البريطانية والفرنسية وإشعال المشاعر المعادية للاستعمار. وفي أغسطس 1924، وصل القنصل السوفيتي العام «كريم خاكيموف»، وهو مسلم من أصل التتار، إلى جدة، وبعد وصوله مباشرة أطلق عبدالعزيز حملته ليتولى الحكم على الحجاز.

وأرسلت المذكرات الدبلوماسية من المفوض السوفيتي للشؤون الخارجية إلى خاكيموف بأن يظهر نفسه كحليف لجميع العرب، دون أن يظهر صراحة تفضيل أيّ من الجانبين.

فكتب تشيشيرين إلى خاكيموف: «إذا سلك ابن سعود سياسة توحيد العرب فإنّ ذلك سيكون في مصلحتنا، وعلينا أيضًا أن نحاول الاقتراب منه كما فعلنا مع حسين، الذي حاول توحيد الجزيرة العربية»؛ إذ رأى الاتحاد السوفيتي في توحيد العرب خطوة أولى نحو تمكين المسلمين في المنطقة وتقويض الحكم البريطاني في المنطقة.

وبحلول ديسمبر 1924، سيطر عبدالعزيز على مكة، وكان خاكيموف مقتنعًا بأنّ الوقت بات مناسبًا لتقديم نفسه إلى ابن سعود.

وفي أبريل 1925، عندما كانت جدة محاصرة، سمُح له بأداء العمرة، حيث كانت مكة مقر ابن سعود؛ وبالتالي فرصة لمقابلته، وهو ما لا يُسمح لدبلوماسي غربي غير مسلم، وتكشف رسائل خاكيموف إلى موسكو أن لقاءه مع عبدالعزيز كان جيدًا بشكل استثنائي، وحتى فكرة الوساطة السوفيتية بين الحجاز ونجد كان ينظر إليها بشكل إيجابي من آل سعود.

وبنهاية 1925، سيطر آل سعود على جدة، وأعلن عبدالعزيز في فبراير 1926 نفسه ملك الحجاز وسلطان نجد؛ وبمجرد أن علمت البعثة السوفيتية الخبر تحقق لخاكيموف ما سعى إلى كسبه من احترام ابن سعود وصداقته. قاد كريم خاكيموف في فبراير 1926 سيارته الشخصية، يعتليها العلم السوفيتي، من جدة إلى مقر ابن سعود في الصحراء لتسليم مذكرة رسمية تعترف بوضعه ملكًا. يعد السوفييت أول من اعترف بلقبه الجديد، وردّ عبدالعزيز برسالة شكر للسوفييت؛ لحيادها في الحرب مع حسين، وأعرب عن استعداده «للعلاقات مع حكومة الاتحاد السوفييتي ومواطنيها».

تحسّنت العلاقات السوفيتية السعودية أكثر عندما عقد المؤتمر الإسلامي في مكة المكرمة عام 1926 الهادف إلى حل النزاع على مكة والمدينة المنورة. في ذلك الوقت، كانت سيطرة ابن سعود على هذه البقاع المقدسة تواجه معارضين من الشخصيات الإسلامية، وهذا هو السبب في أنه من الأهمية بمكان للملك الحصول على الاعتراف في المؤتمر.

كريم خاكيموف والأمير فيصل في موسكو 1932

وإدراكًا لذلك، ناقض الاتحاد السوفيتي أساسيات أيديولوجيته الإلحادية؛ إذ أرسل ستة علماء إسلاميين سوفيتيين للمشاركة في المؤتمر. وألقت موسكو، التي تضم 30 مليونًا من المسلمين السوفييت، بثقلها خلف الملك عبدالعزيز؛ إذ صوّتت لانتخابه رئيسًا للمؤتمر. والأكثر من ذلك أنه نتيجة لجهود خاكيموف، اُنتُخب المندوب السوفيتي «نذير بي تورياكولوف» نائبًا لرئيس المؤتمر. ثم أُرسل عام 1928 رئيسًا جديدًا للبعثة إلى المملكة.

وكان قلق لندن الأكبر النفوذُ السوفيتيُّ في جدة، وما قد ينتج عنه من نشر الدعاية الشيوعية بين المسلمين أثناء الحج. في الواقع، كانت هذه فكرى لدى دبلوماسيي موسكو في جدة. ولكن، في الواقع، كانت للبعثة السوفيتية صعوبة في الوصول إلى السكان المحليين والحجاج.

وفي مواجهة كثير من المقاومة، قرّر الدبلوماسيون الاكتفاء بالتركيز على إقامة روابط تجارية بين موانئ البحر الأسود السوفيتية والحجاز. وتمكّن خاكيموف من إقناع الملك عبدالعزيز برفع القيود المفروضة على السلع السوفياتية التي كانت موجودة في المملكة؛ بسبب ضغط لندن.

أغرقت البضائع السوفيتية أسواق المملكة واصلة لها من مدينة أوديسا الساحلية عام 1930، وكان أكبر إنجاز للدبلوماسيين السوفييت في جدة دخول سوق الكيروسين والبنزين، الذي كان يهيمن عليه البريطانيون، كما أرسل الاتحاد السوفيتي أطباء إلى المملكة لرعاية الحجاج أثناء الحج.

ونتيجة لجهود خاكيموف لتطوير علاقاته مع ابن سعود، زار ابنه الأمير فيصل، الذي أصبح ملكًا عام 1969، الاتحاد السوفيتي ضمن رحلته الأوروبية الواسعة في عام 1932. حاولت موسكو إقناع فيصل والوفد المرافق له في الزيارة منح مليون جنيه إسترليني من المساعدات المالية التي كان الملك عبدالعزيز بحاجة إليها؛ عبر تعريفه بإنجازات الصناعة السوفيتية وتسامح السوفيت مع الديون السعودية التي تراكمت حينها.

وفي زيارته لأذربيجان السوفيتية، التي كانت تمر بازدهار نفطي، أُعجب الأمير فيصل بصناعة النفط في البلاد؛ معربًا عن رغبته في توظيف التكنولوجيا نفسها في المملكة السعودية.

لقاء الملك فيصل بوزير الخارجية الأميركي هنري كيسنجر 1975

بدأت تتعرض العلاقات السوفيتية السعودية إلى تراجع كبير، وبما أنّ قوة جوزيف ستالين كانت تتصاعد؛ أصبحت العلاقة بين النظام الشيوعي والإسلام مضطربة. وفي عام 1932، حظر الاتحاد السوفيتي بشكل غير رسمي المسلمين من أداء الحج، بينما واصل الأطباء السوفيتيون العمل في المملكة، واستمرت البعثة الدبلوماسية في نشر دعايتها بين السعوديين.

وبعد أن أمضى كريم خاكيموف سنوات في اليمن وموسكو، عاد إلى جدة رئيسًا للبعثة عام 1935؛ على أمل تنشيط العلاقة التي توقفت تدريجيًا في غيابه. حاول خاكيموف التفاوض على عقود تجارية جديدة مع الملك؛ لكنّ موسكو لم تعد تهتم.

لقد كان هذا الوقت الذي يشهد صعود نجم هتلر وازدياده قوته في أوروبا، وكذلك ستالين، الذي كان متشككًا في وجود الاتحاد السوفيتي في الخليج منذ البداية؛ فلم يعد يرى أنّ الشراكة مع الملك عبدالعزيز مفيدة. وفي الواقع، إسقاط أيّ طموحات سياسية للخليج كانت بإدارة الاتحاد السوفيتي؛ إذ اعتقدت موسكو أنّ ذلك سيساعدها على عقد شراكة مع إنجلترا.

استدعت موسكو خاكيموف وتورياكولوف في زيارة روتينية إلى وزارة الخارجية. ولكن، عند وصولهما، اعتقلا للاشتباه في أنهما جواسيس؛ وأعدم خاكيموف في يناير 1938. غضب الملك عبدالعزيز عند سماعه أنّ الدبلوماسيين السوفيتيين الذين اعتبرهم أصدقاءه قتلوا، وبعد شهرين من إعدام خاكيموف في موسكو، اكتشف الجيولوجيون الأميركيون أكبر رواسب للنفط الخام في العالم في الظهران.

وهذا ما دفع الاتحاد السوفيتي إلى تعيين رئيس جديد للبعثة في جدة عام 1938. ومع ذلك، رفض الملك عبدالعزيز التعيين؛ قائلًا إنه لا يرغب إلا في رؤية خاكيموف أو تورياكولوف في جدة. واتّهم موسكو بالتحريض على ثورة في العالم الإسلامي وقطع العلاقات الدبلوماسية مع الاتحاد السوفيتي.

ومن ثم؛ غادر جميع الدبلوماسيين السوفيتيين المتبقين جدة وأغلقت البعثة عام 1938، وطويت محاولات الاتحاد السوفييتي في القضاء على منافِسِه بريطانيا، وبعد ذلك تولت الولايات المتحدة تطوير النفط السعودي واستغلاله.

ولم تعد العلاقات بين روسيا والسعودية بالكامل منذ عام 1992، بعد انهيار الاتحاد السوفيتي. ومنذ 25 عامًا، لم تتطور العلاقات بينهما؛ باستثناء زيارات رمزية، ولا تزال الجهود الدبلوماسية التي يبذلها كريم خاكيموف لإقامة علاقات قوية ودائمة بين موسكو والرياض لا مثيل لها.



تنفيذ و استضافة وتطوير ميكس ميديا لحلول الويب تنفيذ شركة ميكس ميديا للخدمات الإعلامية 2023