قالت صحيفة «نيويورك تايمز» إنّ السكان في سوريا محاصرون بين المعادلة التي وضعها الغرب، المتمثلة في «لا إعادة للإعمار حتى رحيل بشار»، وتمتد معاناتهم حتى بعد تحرير المدن التي يقطنونها ورزحت تحت وطأة الحصار المستمر لأكثر من ثلاث سنوات ونصف، وبين إجبارهم على الانتقال من أحيائهم التي ولدوا وعاشوا فيها إلى الأحياء والجيوب التي ما زال المعارضون يسيطرون عليها، وهي أسوأ وضعًا من هذه المُحرَّرة.
وتجوّلت محررة الصحيفة داخل «حي الوعر» بمدينة حمص، الذي كان متميزًا بمبانيه الشاهقة وشوارعه الواسعة وتحوّل الآن إلى شبحٍ؛ ونقلت الأوضاع التي يعيشها السكان، ووقوعهم بين مطرقة بشار وسندان الجماعات المعارضة، والموقف المخزي للمجتمع الدولي تجاههم.
وقالت، وفق ما ترجمت «شبكة رصد»، إنه لم تبق سوى منطقة صغرى من هذا الحي؛ بعدما قُصفت مبانيه، وبدا كما لو أنّ عملاقًا لكمه؛ فشوارعه مكدّسة بالسيارات المحترقة، وقُصف أكبر مستشفى فيه.
وإذا كان الحي يرمز إلى الانتصار القاسي لقوات بشار، فإنه يجسّد أيضًا تحديًا يلوح في الأفق مع اقتراب الحرب من نهايتها، وهذا التحدي هو «سياسة إعادة الإعمار»؛ فهل سينفق العالم الغربي، الرافض لبشار، الأموال على نظام قصف شعبه وجوعه؟
فبعد أن فشلت مساعي إسقاطه؛ لوقوف رسيا وإيران خلفه، فجزء كبير من الأراضي المحررة في حاجة إلى إعادة الإعمار؛ فهل سيتخلى الغرب عن الشعب السوري ويتركه يعيش في أطلال لوجود بشار في السلطة؟
وقال السفير الفرنسي لدى الأمم المتحدة «فرانسوا ديلاتر» إن مساعدة السكان السوريين دون وجود بشار مسألة صعبة للغاية؛ لكنّ هناك طريقًا ضيقًا يجب أن نجده.
وللحكومات الغربية مصلحة في رحيل بشار؛ إذ يمثّل اللاجئون السوريون المتدفقون إلى القارة الأوروبية مصدر قلق لها، ويعتمد حل المشكلة على إعادة بناء سوريا. وبجانب ذلك، إعادة الإعمار مربحة للشركات الغربية والمستثمرين.
وقال المبعوث الخاص للأمم المتحدة في سوريا «ستيفان دي ميستورا» إنّ إعادة بنائها ستكلف ما لا يقل عن 250 مليار دولار.
وفي حي الوعر، الذي استردته القوات السورية حديثًا، خُيّر المقاتلون هناك إما الاستسلام أو مغادرتهم بعائلاتهم إلى الجيوب والمناطق التي ما زال المعارضون يسيطرون عليها. وخرج عشرات الآلاف منهم بين شهري مارس ومايو، ولا يزال هناك عدد -يقدر بـ30 ألف فرد وفقًا للمصادر الحكومية- يقطنون في الشقق والبنايات المحيطة.
وقال البنك الدولي إنّ قرابة خمس بنايات سكنية في سوريا تضرّرت، وواحدة من كل ثلاث مدارس دُمّرت، وأقل من نصف المرافق الصحية تعمل. وفي أجزاء من حلب، ثانية كبرى مدينة في سوريا، لا تزال إمدادات المياه مُدمّرة؛ مما يجبر الصليب الأحمر على ضخ شاحنات تحمل مياهًا يوميًا، وهو أمر مكلّف للغاية، ولا يزال مركز مدينة حمص التاريخي كتلة من الركام.
وكان حصار بشار للمدن هناك وسيلة لقتل الأحياء داخلها؛ إذ ترك المدنيين هناك يتضورون جوعًا، ومع انتهاء الحرب لا يزالون يعانون من عواقبها الوخيمة.
وفي مدينة الغوطة الشرقية، التي تمركز فيها ممتهنو الزراعة، قالت الأمم المتحدة إنّ الحصار المفروض عليها أدى إلى أعلى معدلات لجوع الأطفال المسجّل في النزاع؛ بعدما أصيب قرابة 12% من الأطفال بسوء تغذية.
ووصفت الدبلوماسية في الاتحاد الأوروبي «فيديريكا موغيريني» إعادة الإعمار في سوريا بأنها الركيزة الأخيرة للغرب المتعلقة بالمستقبل السياسي في سوريا، والمحادثات السياسية في جينيف الأسبوع الماضي لم تشمل الحديث عن مصير بشار.
وأضافت، في رسالة عبر البريد الإلكتروني لصحيفة «نيويورك تايمز»، أنها تؤيد فكرة إعادة بناء سوريا في المستقبل، قائلة: «نحن الآن على أتمّ استعداد للانتقال إلى الخطوة التالية؛ لكنّ هذا لن يحدث إلا بعد الاتفاق على الانتقال السياسي في جينيف».
وتحرص حكومة بشار على ابتعاد محادثات جينيف عن فكرة رحيل الزعيم السوري، التي تصرّ عليها المعارضة. وقال «علي حيدر»، وزير المصالحة الوطنية: «استبدلنا فكرة الانتقال بمفهوم الحكم القائم على الشراكة السياسية وإنشاء هيكل سياسي جديد»، لكنه قال إنّ حكومته لم تحظَ إلا بانتصار جزئي.
وأضاف: نحن في ساحة المعركة وضعنا أفضل، أما المعركة الحقيقية فهي في الساحة السياسية.
وفي حمص، ثالثة كبرة مدينة سورية، تُذكّرنا الأطلال هناك بانتصار بشار العسكري، بما في ذلك مدخل فندق كان مقرًا للأمم المتحدة في المدة الماضية. وهناك لوحة كبرى في موقف السيارات يشمل صورة بشار مبتسمًا وتحتها عبارة «يدًا بيدٍ سنعيد البناء».
وفي حي الوعر بحمص، يشرع السكان الآن في إشعال الأثاث للحصول على الدفء؛ فالكهرباء تُقطع لساعات وأيام، ويبدو أنّ الناس هناك يقاتلون بعضهم بعضًا للحصول على ما يكفي أسرهم. وتحت وطأة الحصار، أصبح سعر حليب الأطفال باهظ الثمن؛ ولهذا يعاني الأطفال هناك من سوء تغذية، وبدؤوا في الانتقال إلى مستشفى تديره مؤسسة خيرية، وبالكاد يعمل بإمدادات طبية نادرة للغاية، كالضمادات وقطع الشاش والأدوية وغيرها.
وفي أسوأ الأسابيع التي مرت عليهم، ساعد الموظفون النساء بأطفالهن للوصول إلى الأماكن الأكثر أمانًا في المشفى القليل الإمكانيات؛ خوفًا من القصف، مستخدمين الهواتف والمصابيح الكهربائية والمولدات وإجراءات معقّدة.
وفي ظهيرة أحد أيام نوفمبر، أثناء زيارة مُحرِّرة «نيويورك تايمز» المكان، لاحظت «عبدالله برزي»، 11 عامًا، يجلس في ركن، وذكرت صديقته سارة بأنه يسارع إلى الاختباء في الحمام بمجرد سماعه صوت قذيفة الهاون. وذكرت شقيقته إيمان، البالغة من العمر 14 عامًا، أنّ عمها قُتل في آخر قصف على المدينة وهو ينتظر ابنته في زاوية الشارع أثناء عودتها من المدرسة.
أما «رياض حسن كنعان»، صاحب شقة في الدور الأرضي ببناية سكنية، يسير على أطلال حطام بيته، الموجود داخل أنقاضه بقايا قطع مدفعية، وقال إنهم كانوا يعتقدون أنّ منزله يُستخدم مخزنًا للأسلحة.
وبينما يشرع عمال في رفع حطام وقطع القنابل الملقاة على الحي، عبر أناق حُفرت تحت الأرض؛ تناثرت خزانات المياه في كل مكان، واستخدمتها الفصائل المسلحة مواقع دفاعية. وتميّزت بناية بأكوام الرمال المتمركزة أمامها، وهي موقع دفاعي أيضًا استخدمه المسلحون التابعون لتنظيم القاعدة مركزًا للاحتجاز أثناء سيطرته على حي الوعر.
وانتهى الحصار على الحي بصفقة عُرضت على الناجين منه، بما فيهم المقاتلون المناهضون للحكومة؛ بالاستسلام ونقلهم بواسطة حافلات حكومية إلى الجيوب التي يسيطر عليها المعارضون، واتضح أنّ الظروف كانت أسوأ في هذه المناطق التي انتقلوا إليها.
ووصف تقرير صدر مؤخرًا عن «منظمة العفو الدولية» أنّ ما يحدث تهجير قسري ويمثّل انتهاكًا للقانون الدولي، وأضافت أنّ أيّ مساعدات لإعادة الإعمار يجب أن تضمن عودة المهجّرين من منازلهم في «أمان وكرامة».
كما التقت المحررة بأرملة سورية بقيت مع ثلاثة من أطفالها تحت وطأة الحصار، الذي بمجرد رفعه غادر أحد أنجالها (بالغ من العمر 21 عامًا) إلى بلدة تسيطر عليها المعارضة بالقرب من الحدود التركية؛ لأنه يخشى من الاعتقال إذا بقي مكانه.
وقالت الأرملة، التي لم ترغب في نشر اسمها لسلامة عائلتها، إنّ نجلها على وشك أن يفقد مستقبله، وقالت إنها ستضطر لأن تترك منزلها وتغادر للانضمام إليه. وبدا أنّها مترددة في الإدلاء بمزيد من الأحاديث أثناء مقابلة المحررة معها.
وخلفها، كانت هناك زاوية بناء، قُتل جارها الذي يقطن فيها أثناء وقوفه على شرفة منزله، أثناء محاولته التقاط إشارة هاتف محمول.