«وراء كل فاشية ثورة فاشلة. وفي مصر، وراء فاشيتها الحديثة وشموليتها جثث الثوار؛ فأبراج النظام المحصّنة تمتلئ بأناس يُعذَّبون وتُكسَّر عظامهم، يعيشون في ألم داخل الظلام». بهذه الكلمات لخّص الفيلسوف الألماني اليهودي «والتر بنيامين» ما فعله عبدالفتاح السيسي في المصريين وثورتهم.
وفي القاهرة فقط لا يكتظ البرلمان الزائف إلا بصحبة الموالين الأوفياء للسيسي، حتى جدران الجرافيتي في شارع محمد محمود مُحيت؛ وشرع النظام المصري في القضاء على كل معالم الثورة الفنية. وبدأ من الحضارات القديمة التعبير عن الثورة بأشكال فنية؛ وهو ما تمثّله المنحوتات الهيروغلوفية على جدران المعابد في مصر، وتعطينا تصوّرًا كاملًا عن ماضي البلاد وحاضرها ومستقبلها.
لكن، ظهر فرعون جديد في المدينة: عبدالفتاح السيسي، لا يتمتع بحاضر ومستقبل مرعبين فقط، بل والماضي أيضًا؛ باعتباره من المشاركين الأساسيين في الثورة المضادة التي انقضّت على ثورة يناير، التي مثلت بداية جديدة لحاضر مصر وإصلاح مستقبلها، وبعدها تراجعت الأجهزة الرقابية وتقدمت الأجهزة الأمنية؛ وهو الوضع الذي تغير بحلول يوليو 2013، الوقت الذي انتصرت فيه الثورة المضادة.
هذا ما يراه المحلل السياسي المصري المقيم بأدنبرة «سام حماد» في تحليله بشبكة «تي آر تي وورلد» وترجمته «شبكة رصد»، مضيفًا أنّ السيسي ظهر من بعد 2013 واستمر حتى الآن. وفي الانتخابات الأخيرة، لا يصح أن نطلق عليها مصطلح انتخاب؛ بل تمرين عبثي. وعلى الأقل، استطاع مبارك أن يخرج انتخاباته المزورة بمظهر ديمقراطي، وصوّر فوزه كاحتفال بالديمقراطية؛ بينما مضى نظام السيسي في مساعيه المتغطرسة والاستبدادية كما لو كانت انتخابات فعلية.
بعيدًا عن العقل والسياسة
في الحقيقة، أعيد تعيين السيسي مرة ثانية دون ضجة، وما حدث لا يمكن أن نسميه سياسة؛ فوفقا للمعيار الطبيعي، ما حدث منافٍ تمامًا للعقل ومناهض للسياسة؛ فالانتخابات دائمًا ما تمثّل منافسة قوية بين أيديولوجيات واتجاهات مختلفة، وانتخابات 2018 بعيدة كل البعد عنه.
سُحق أيّ شيء متعلق بالانتخابات، حتى ما يمكن أن نسميها «المعارضة المتسامحة» انقض عليها السيسي، وسارع إلى تحييد أيّ تحدٍّ محتمل قد يثير منافسين ملائمين ومشرفين. أمّا المرشحان الأكثر شهرة وحاولا الوقوف في وجهه: سامي عنان وأحمد شفيق، وهما قادة الثورة المضادة في أول انتخابات حقيقية في 2012؛ فسحقهما، بالرغم من أنّ كليهما ليس من أنصار الديمقراطية أصلًا.
«عنان» كان سيدعمه عدد من جماعة الإخوان المسلمين، المحطمة والمحظورة الآن، واختار هشام جنينة مستشارًا له، الذي أطيح به من على رأس أهم جهاز رقابي في مصر «المركزي للمحاسبات» إبّان ولاية مرسي، وكُلّف بمراجعة الحسابات المالية للحكومة ومواطن الفساد التي انتشرت في عهد مبارك. وفي غضون ثلاث سنوات، توصّل إلى أنّ 76 مليار جنيه سرقت من الأموال العامة؛ وحكم عليه بالسجن لمدة عام في 2016 بتهمة نشر أخبار كاذبة وإزعاج الأمن والسلم المجتمعي.
ومثّل اختيار عنان «جنينة» مستشارًا له إشارة رئيسة للسيسي بأنّ عنان لديه نوايا حقيقية في انتقاد الوضع الراهن الذي يدعمه السيسي. وبعد إعلان نيته الترشح، قُبض على عنان واستجوب بتهمة التحريض على القوات المسلحة، كما قُبض على معظم أفراد حملته؛ لكنّ ما فعله بهم نظام السيسي يشير بطريقة أو أخرى إلى أنّهم فعلًا استطاعوا إحداث تأثير.
ما حدث مع شفيق كان مماثلًا لما حدث مع عنان، وهرب شفيق إلى الإمارات بعد تولي مرسي منصب رئيس الجمهورية، وسعى إلى حماية نفسه وثروته المنهوبة من مصر هاربًا إلى الإمارات العربية المتحدة، وبعد أن أعلن نيته الترشح سارع رعاة السيسي في الإمارات إلى فرض الإقامة الجبرية عليه ورفض سفره إلى مصر، ثم أحدث ضجة على سجنه هناك؛ فاضطرت الحكومة الإماراتية لترحيله إلى القاهرة.
وبمجرد أن هبط شفيق في مطار القاهرة اعتقل على الفور بملابسه المتربة، ونقل إلى المخابرات الحربية «السيئة السمعة»؛ ما يكشف أنّ شفيق كان يمثّل بدوره خطرًا داهمًا على السيسي.
وعلى المستوى الآخر، وبالرغم من أنّ الديناميكيات الداخلية للمجلس الأعلى للقوات المسلحة يصعب استقراؤها؛ فهناك إجماع بين الخبراء والمحللين على أنّ هناك انتقادات داخلية على السيسي، وربما حصل شفيق على كثير من الدعم من داخل الصفوة الحاكمة التي تدعم السيسي، وكان بإمكانه تهديد موقفه؛ لذا سارع في اعتقاله.
واعتمد شفيق في منافسته على تنازل السيسي عن جزر مصرية خاضعة لسيادتها إلى السعودية، وهي القضية التي أثارت جدلًا واسعًا في مصر، واتهم كثيرون السيسي بخيانة البلاد، ولم يواجه انتقادات لاذعة بسبب هذا وحسب؛ بل واجه انتقادات علنية من الموالين للطبقة الحاكمة منذ أن استولى على السلطة، وما تبع اغتيال 16 ضابط شرطة في هجوم الواحات.
ويعتبر أحمد شفيق أحد أعلى الأصوات التي وجهت انتقادات للسيسي بسبب الحادثتين: بيع جزيرتي تيران وصنافير ومقتل الضباط المصريين في كمين محكم. كما إنّ الطريقة التي عومل بها شفيق وعنان أشعلت الشائعات بأنّ المجلس العسكري لن يكون في ظهر السيسي للأبد؛ خاصة إذا استمر في التنازل عن سلامة مصر الإقليمية لصالح الإمارات والسعودية و«إسرائيل»، وإذا فشل في تأمين دعم أميركا والقروض للجيش المصري.
وبعد الإطاحة بجميع المنافسين الأقوياء والمحتملين، بحثت الحكومة المصرية عن منافس صوري ليحفظ ماء وجه السيسي، وتوصّلت إلى موسى مصطفى موسى، زعيم حزب الغد، ومن أبرز داعمي السيسي بشكل علني، واختير ليكون صاحب الرقم المميز 3%، بينما السيسي 97%.
وبالمقارنة بين ما فعله السيسي وما فعله الديكتاتور الأسبق محمد حسني مبارك؛ نجد أنّ السيسي تفوّق في قمعيته ووحشيته، ولم يتسامح مطلقًا مع أيّ معارضة، بعكس مبارك الذي سمح بمتنفس ما. وشرع السيسي أيضًا في ضمان ألا يُكرر ما حدث في 25 يناير مرة أخرى، والتعلم من أخطاء مبارك، الذي سمح بالحرية في الحرم الجامعي والتسامح مع الإنترنت، وهي الأهداف التي أصبحت هدفًا رئيسًا للسيسي.
في النهاية، يعتبر الإبداع جوهر الديمقراطية، وتقرير المصير عمل إبداعي في حد ذاته؛ وهو ما مثّلته الجداريات المصرية وما نقلته لنا، فالمصريون خارج النخبة هم من يسيطرون على الإبداع ويبدعون؛ ولهذا يسعى السيسي إلى تدميرهم، فجلّ ما يخشاه الديمقراطية والشباب النشط سياسيًا والمفتوح للعلم والعالم واللإنترنت، إضافة إلى المفكّرين الذين تتجاوز أدمغتهم حدود النظام الكئيب الذي يعيشون تحت ظله؛ فمصر أمة شجاعة تعيش داخل كابوس، بينما النخبة تخلو من الأفكار وتتجول في منطقة وعالم متغيرين.