تداولت وكالات اللأنباء مؤخرا خبر زيارة رئيس الوزراء التركى (رجب طيب أردوغان) للقاهرة نوفمبر المقبل للمشاركة فى أعمال مجلس التعاون المشترك المصرى التركى الموقع بين البلدين فى سبتمبر من العام الماضى، والذى يشارك فيه أيضا 13 وزيراً تركيا لتفعيل اتفاقيات وبرامج التعاون المبرمة بين البلدين فى مختلف المجالات. و تأتى هذه الزيارة فى أعقاب زيارة الرئيس (محمد مرسى) إلى تركيا سبتمبر الماضى و حضوره مؤتمر حزب (العدالة و التنمية) الحاكم ، و لكن الخطوة الأهم التى تمت هى تأسيس (المجلس الاستراتيجى الأعلى) بين تركيا ومصر، حيث من المقرر أن يجتمع رئيس الحكومة التركية مع مجلس وزرائه المصغر مع الرئيس المصرى (محمد مرسى) مع مجلس الوزراء المصغر فى القاهرة فى العشرين من نوفمبر القادم لإعلان ولادة (المجلس الاستراتيجى الأعلى) .
و (المجلس الاستراتيجى الأعلى) هذا التى تم تأسيسه هو نواة لمشروع الشرق الأوسط الجديد ، الذى ستكون مصر و تركيا محوريه الرئيسيين ، و انضمام دول الربيع العربى الى هذا الحلف الجديد بالاضافة الى المغرب و دول الخليج .
فى السابق كان للعرب مشروعهم القومى الخاص بهم ، و هو ما تلخص فى مشروع الوحدة العربية الذى نادى به (جمال عبد الناصر) ، و لكن بعد نكسة 1967 أصيب هذا المشروع فى مقتل ، بينما اتخذت الدولة المصرية اتجاها جديدا فى عهد السادات ، و رفعت شعار (مصر أولاً) و هو التوجه الذى تجلى فى توقيع الرئيس (السادات) اتفاقية (كامب ديفيد) مع الكيان الصهيونى فى ظل اجماع عربى على رفض هذه المبادرة ، و أصبح من الصعب بعد ذلك الحديث عن مشروع وحدة عربية فى ظل انكفاء معظم الدول العربية على نفسها و لم يتغير الوضع كثيرا فى عهد الرئيس المخلوع رغم عودة العلاقات مع الدول العربية ، و انما ابتعد (مبارك) أكثر عن العروبة و القومية بتقوية علاقاته مع الكيان الصهيونى .
السؤال الذى يتبادر للذهن هنا هو : لما تسعى تركيا لانشاء حلف مع مصر رغم ابتعاد تركيا عن التدخل فى قضايا المنطقة منذ سنوات طوال ؟
الاجابة على هذا السؤال تتطلب قراءة فى اتجاهات السياسة الخارجية التركية منذ صعود حزب (العدالة و التنمية) الى سدة الحكم .
يعد (أحمد داوود أوغلو) وزير الخارجية التركى هو مهندس السياسة الخارجية لتركيا فى ظل زعامة الحزب الحاكم (العدالة و التنمية) ، فهذا الاستاذ الجامعى الذى ألف كتاب (العمق الاستراتيجى) الذى اعتمده (رجب طيب أردوغان) دليلا له فى سياسته الخارجية ، كان مستشارا سياسيا لرئيس الوزراء حتى مايو 2009 حين عينه (أردوغان) وزيرا للخارجية خلفا للرئيس الحالى (عبدالله جول).
فى البداية كان سعى تركيا الحثيث للانضمام إلى الاتحاد الأوروبى ، و ما سيعود على تركيا من وراء هذه العضوية كونها عضوا فى أكبر الائتلافات الاقتصادية فى العالم ، و لكن رغم سعيها الحثيث و رغم تنفيذها للشروط التى فرضها الاتحاد الأوروبى لعضوية تركيا ، و أبرزها اتمام عملية التحول الديمقراطى و انهاء تدخل العسكر فى السياسة ، بالاضافة الى تأمين الحدود التركية مع دول الاتحاد بما يمنع الهجرة غير الشرعية و تهريب المخدرات و غيرها من الشروط .
و برغم تلبية تركيا لمعظم هذه الشروط رفضت بعض الدول الأوروبية انضمام تركيا إلى الاتحاد الاوروبى ، بسبب أن انضمام تركيا للاتحاد الأوروبي يجعلها ثاني أكبر عضو في الاتحاد من حيث عدد السكان بعد ألمانيا، حيث بلغ عدد سكان تركيا 72.6 مليون نسمة في عام 2005 م. وقد تكون تركيا العضو الأول في الاتحاد من حيث عدد السكان بحلول عام 2015 م وفقًا لبعض التقديرات . مع الوضع فى الاعتبار أن تركيا الديانة الرئيسية فيها هى الاسلام ، و كان هذا السبب وراء رفض فرنسا بزعامة (ساركوزى) انضمام تركيا إلى القارة المسيحية .
بالاضافة الى التخوفات الأوروبية من التقديرات التى تشير إلى أعداد الأتراك الذين سيسمح لهم بحرية التنقل فى أوروبا ، و هى تقديرات تتراوح بين 500 ألف إلى 4.4 مليون شخص بحلول العام 2030.
فشل تركيا فى الانضمام إلى الاتحاد الأوروبى فى عالم تتكتل دوله سعيا وراء التكامل و تحقيق النمو الاقتصادى و الدفاع ، دفع الدولة الصاعدة بقوة فى الاقتصاد العالمى إلى البحث عن بديل . فكان تقارب تركيا مع سوريا (قبل اندلاع الثورة السورية) وصلت إلى الغاء تأشيرات الدخول بين البلدين , و زيادة التعاون فى المجالات الاقتصادية ، بالاضافة إلى دخول تركيا على الخط فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية و اقترابها أكثر من الفلسطينيين بعد عقود من التحالف مع الكيان الصهيونى ، بالاضافة إلى مشاركة تركيا بقوة فى الوساطة بين ايران و الغرب فيما يخص المشروع النووى الايرانى .
على أن هذا ليس السبب الوحيد لسعى تركيا انشاء حلفاً مع مصر . فالعلاقات التركية – الاسرائيلية شهدت تدهورا خطيرا فى السنوات الأخيرة بداية باستقبال تركيا لوفد من حماس عام 2006 بعد حصولها على الأغلبية فى المجلس التشريعى الفلسطينى ، و موقف رئيس الوزراء التركى من حرب اسرائيل على غزة 2008 -2009 ، و انتهاء بحادثة هجوم البحرية الاسرائيلية على سفينة المساعدات التركية (مافى مرمرة) المتوجهة إلى غزة فى مايو 2010 ، ثم خطوات التصعيد بين الجانبين التى تلت تلك الحادثة ، فتركيا خفضت علاقاتها مع الكيان إلى أدنى مستوى و سحبت سفيرها من (تل أبيب) ، و ألغت مناوراتها العسكرية الدورية مع جيش الاحتلا الاسرائيلى ، و فرضت شروطا على اسرائيل لعودة العلاقات ، أبرزها تقديم اعتذار رسمى إلى تركيا عن الجريمة التى اقترفتها ، و تعويض أسر الضحايا الأتراك ال9 الذين قضوا فى هذه الحادثة ، و انهاء الحصار الاسرائيلى على غزة .
غير أن الكيان الصهيونى أبدى تعنتاً ضد تركيا و رفض الاعتذار ، بل و بدأ فى اتخاذ خطوات تصعيدية ضد تركيا ، كان من أبرزها محاولاته للتقارب مع دول مجاورة لتركيا مثل أذربيجان (أبناء عم الأتراك عرقيا) ، بالاضافة إلى مغازلتها لأرمينيا ، البلد الذى تقاربت مع تركيا بعد عقود من العداء بسبب ما تدعيه ارمينيا من قيام تركيا فى الحرب العالمية الأولى بارتكاب إبادة جماعية ضد الأرمن ، و زادت اسرائيل من سعيها لحصار تركيا بانشائها تحالفاً مع قبرص و زارها رئيس وزراء الكيان (نتانياهو) كأول زيارة يقوم بها رئيس وزراء صهيونى إلى الجزيرة المنقسمة بين جزء موالى لتركيا ، و آخر موالى لليونان .
و هى خطوات تسعى من خلالها اسرائيل إلى اضعاف الموقف الاستراتيجى التركى فى محيطه الاقليمى و فى عقر داره كما يقولون .
كل هذه الاسباب تجعل تركيا بحاجة إلى حلف قوى غير تقليدى بلغة العصر مع دول أخرى ، و قد وجدت تركيا ضالتها هذه المرة فى مصر .
فمصر الدولة المحورية الكبرى فى العالم العربى ، تحررت أخيرا من الاستبداد و قامت بثورة عظيمة أبرزت روح هذا الشعب ، و توقه إلى التقدم و الازدهار ، و رغبته فى التخلص من قيود الفساد و القمع نحو دولة عصرية قوية ، تعيد لمصر وضعها الطبيعى المقدر لها كأكبر دولة فى الشرق الأوسط ، " فمصر مخ العرب وعقل العالم العربى، كثير من الأفكار والتيارات يتم تشكيلها فى مصر وهى دولة تعكس ديناميكية العالم العربى وعندما تكون مصر قوية فإنها ستحل الكثير من المشاكل، وإن تضافرت جهود مصر وتركيا فإنهما سيشكلان مركز ثقل قوياً فيما يخص القضية الفلسطينية، وكذلك إعادة بناء الدول العربية الأخرى " بحسب كلمات (أحمد داوود أوغلو) وزير الخارجية التركى فى حواره الأخير على قناة الجزيرة .
هذا السعى التركى للتحالف مع مصر لم يكن ممكنا فى ظل حكم (مبارك) المخلوع الذى لم يروقه دور تركيا فى المنطقة ، و اعتبره منافسا للدور المصرى و تدخلا فى الشئون الداخلية للدول العربية ، فكان (أردوغان) اول زعيم دولى يدعو (مبارك) صراحة إلى الاستماع لصوت شعبه و الرحيل ، و كان الرئيس التركى (عبد الله جول ) أول رئيس يزور مصر بعد الثورة ، و لكن تركيا كانت تنتظر استقرار الأمور فى مصر حتى يتم انتخاب رئيس جديد ، فكان هذه المرة الرئيس (محمد مرسى) رئيس حزب الحرية و العدالة و أحد قيادات جماعة (الاخوان المسلمون) التى تعد أقرب التيارات المصرية من فكر حزب (العدالة و التنمية ) الحاكم فى تركيا ، بالاضافة إلى وجود رغبة لدى الحكام الجدد فى مصر للتواصل مع تركيا ، و الاستفادة من تجربتها فى النمو الاقتصادى و محاربة الفساد فى هيكل الدولة .
تركيا الدولة العثمانية الكبرى سابقا ، و التى كانت تخضع مصر لسيطرتها فى الماضى ، و ارتباطها بعلاقات تاريخية مدا و جزرا مع مصر ، سيجعل من مصر خيارا مثاليا بالنسبة لتركيا ، و الخصائص المشتركة بين تركيا و مصر و العالم العربى أيضا ليست بالقليلة ، فكثير من البلدان العربية خضعت للحكم العثمانى فى السابق ، و أيضا عامل الدين الاسلامى المشترك بين البلدين يعد من العوامل القوية التى ترسم توجهات هذا المشروع الجديد .
لكن الحديث هنا ليس عن حلف بين دولتين فقط ، و انما عن مشروع اقليمى جديد يضم دولا أخرى (بحسب الرؤية التركية) مثل دول مجلس التعاون الخليجى ، و دول شمال افريقيا بالاضافة إلى العراق و بلدان الشام ، على الرغم أن هذا المشروع يبدوا حلما بعيد المنال ، و لكن الأفكار العظيمة كلها كانت كذلك ، فالاتحاد الأوروبى كان يبدو فكرة حالمة للغاية فى خمسينات القرن الماضى ، و على الرغم من الاختلافات فى اللغة و التاريخ و التناحر السياسى سابقا بين هذه البلدان ، فقد نشأ الاتحاد الأوروبى و صار واقعا ملموسا ، و قوة دولية كبرى لا يستهان بها .
لم يعد مشروع الوحدة العربية مستساغا فى السنوات الأخيرة ، و حتى بعد الربيع العربى ، فالفكرة القومية تعرضت لانتقادات كثيرة ، و أصبحت الصورة الذهنية لها فى عقل المواطن العربى ، هى صورة الدولة القمعية التى لا تسمح بالتعدد السياسى و المعارضة ، و لعل أسوأ مثال على ذلك من القوميين ، هم الرئيس الليبى المقبور معمر القذافى ، و الطاغية الآخر فى الشام بشار الأسد ، فهاتين الدولتين أكثر من استخدما شعارات القومية و العروبة ، و لكن ثبت زيف ذلك بعد ثورات الشعوب ، و التى وضحت صورة هؤلاء الحقيقية و أنهم عبارة عن أشخاص يعبدون السلطة و يورثونها لأبناءهم رغم انهم دوما كانوا يصفون الملكية بالرجعية بسبب توريث الحكم و خلافه .
على أن نجاح هذا المشروع الاقليمى الجديد يتوقف على قيام نهضة حقيقية فى مصر ، و تحقيق أهداف ثورة 25 يناير ، و هذا ما تعول فيه مصر على تركيا لمساعدتها فى تحقيقه ، و لعل تقديم تركيا 2 مليار دولار لمصر رغم الأزمة الاقتصادية التى تعانيها تركيا هذه الأيام يدلل على مدى رغبتها فى مساعدة مصر .
فتركيا تريد أن تكون مصر حليفا قويا اقتصاديا مما يخول مصر لعب دور اقليمى فعال على صعيد السياسة الخارجية .
أما عن طبيعة العلاقة بين مصر و تركيا فهى لن تكون على حلتها فى السابق بين مصر و الولايات المتحدة ، فالتحالف هنا يقوم على أساس الندية و المساواة ، و ليس تحالفا يقوم على أساس التبعية و الخضوع للسياسات الأميركية و ركائز المشروع الأميركى فى المنطقة كما كان الحال مع نظام مبارك.
و فى نهاية هذا المقال أترككم مع كلمات وزير الخارجية التركى (أحمد داوود أوغلو) و التى تحدث فيها عن المشروع الجديد فى حواره مع قناة الجزيرة :
" إن منطقة الشرق الأوسط هى الأغنى عالمياً فى المصادر الطبيعية، وهى الأكثر تجذراً فى التاريخ، كما أن التراكم التاريخى للإنسانية معظمه فى منطقة الشرق الأوسط، أما السكان الأكثر ديناميكية والأصغر سناً فى العالم فإنهم يوجدون فى منطقة الشرق الأوسط، وهذا يدفعنا لسؤال هام وهو: مع هذه الإمكانات الهائلة لماذا لا توجد دولة من دول الشرق الأوسط فى مصاف الدول العشر الأفضل اقتصادياً فى العالم؟ ولماذا لا توجد دولة من دول المنطقة من بين الدول العشرين الأفضل اقتصادياً فى العالم عدا تركيا؟ إننا باختصار نريد أن نحول المنطقة كلها تركيا ومصر وسوريا والعراق والسعودية وإيران ودول الربيع العربى وشمال أفريقيا إلى منطقة رفاه اقتصادى، وبالنسبة للوضع الحالى فإننا نعتبر مصر فى يومنا هذا هى الدولة الأكثر أهمية فى المنطقة، وأقول بوضوح تام إن مستقبل تركيا مرهون بنجاح مصر كما أن مستقبل مصر مرهون بنجاح تركيا، وقد قال رئيس الوزراء التركى للرئيس المصرى حينما التقاه فى أنقرة على هامش المؤتمر الرابع لحزب العدالة والتنمية فى 30 سبتمبر الماضى «إن تركيا تضع كل إمكاناتها من أجل إنجاح مصر، وهذه ليست علاقة سيطرة بل علاقة أخوة، لقد كانت علاقات شعوب المنطقة كلها على مدار التاريخ تقوم على الأخوة، وسنبقى أشقاء من الآن فصاعداً "