شبكة رصد الإخبارية
follow us in feedly

سمية الغنوشي: لا دخل للدولة في حجاب المرأة.. فرضا أو منعا!

فجّر مقتل الشابة مهسا أميني أواسط الشهر الماضي، على أيدي عناصر أمنية إيرانية مكلفة بحماية الأخلاق، موجة اضطرابات واسعة شملت طهران وامتدت إلى مدن أخرى.

وبما أن هناك صلة وثيقة بين مسألة اللباس وبين السلطة والقانون في إيران، تداخلت في الحركة الاحتجاجية معطيات السياسة مع الاعتبارات الاجتماعية والاقتصادية، وحتى الإثنية.

وكالعادة، وجدت وسائل الإعلام الغربية في الحادثة ضالتها، فمضت تحرّك مخزون الصور النمطية عن قمع الإسلام للمرأة واقتران حجابها بالإكراه والاضطهاد. والمضحك أن وسائل إعلام خليجية سارعت للالتحاق بالجوقة، وكأن دولها هي النموذج الملهم الأمثل للمرأة المسلمة!

لم تكن مسألة الحجاب موضع جدل أو اعتراض في بداية التجربة الإيرانية، في أوج شعاراتها الثورية ومناخات التعبئة الحربية، في ظل حضور كاريزما الإمام الخميني. لكنّ هذا الزخم لم يلبث أن تلاشى، مع انقشاع سحب الحرب وحلول مرحلة رافسنجاني المنفتحة نسبيا، وتزايد تأثير الفضائيات وتقنيات التواصل الاجتماعي العابرة للحدود الجغرافية والأيديولوجية على الشباب الإيراني، إناثا وذكورا.

هكذا وجدت إيران الإسلامية نفسها في مواجهة معضلة أشبه بتلك التي جابهتها إيران الشاه، لكن بشكل مقلوب.

فقد سعى رضا بهلوي ضمن توجهاته التحديثية والتغريبية إلى فرض السفور على نساء بلاده ومنع التشادور الأسود التقليدي؛ سياسة قوبلت بمقاومة ورفض شديدين من علماء الحوزة الدينية والمجتمع المحافظ. كان ذلك من العوامل المغذية للثورة عليه وصعود نجم الإمام الخميني، الذي جمع بين المعارضة السياسية والاحتجاج الديني.

وكانت المفارقة أن سعت إيران بعد سقوط الشاه إلى استنساخ تجربته على نحو معكوس. ففيما حظر هو التشادور وفرض السفور، جهدت هي في فرض الحجاب ورفض السفور.

وبينما أتاح النظام الجديد لكتل واسعة من النساء الإيرانيات دخول الحياة العامة والمشاركة النشيطة في المجال السياسي، تناسبا مع ارتفاع نسب التعليم وامتداد التمركز الحضري، سعى في الآن ذاته لفرض قيود على اللباس والسلوك، وفق توجهاته العقائدية.

هذا التناقض بين ثنائية التحرر والضبط بقي يسكن التجربة الإيرانية حتى يومنا هذا. فالمرأة الإيرانية تتمتع بحضور قوي وفاعل في الحياة العامة، قياسا بالكثير من شقيقاتها في الجوار الإسلامي، لكنّ ذلك كان مشروطا بالامتثال لحدود وقيود يضعها النظام.

هذا لا يختزل المشهد النسائي الإيراني في نموذج “الحجب والمنع”، ففئات واسعة ضمنه اختارت الحجاب بقناعة ذاتية. لكنّ ذلك لا ينسحب على جميع الإيرانيات، فمن العبث إنكار أن شريحة منهن يرفضنه لاعتبارات ذوقية أو لخيارات أيديولوجية، أو تصور أن محاولات فرضه عليهن ببطش الدولة وترسانة قوانينها وشرطة أخلاقها تجدي نفعا.

والحقيقة أن صراع الدولة مع المجتمع لفرض خياراتها في اللباس والسلوك مأزق واجه ويواجه دولا عديدة، تجندت إما لمنع أو محاصرة الحجاب وحظره، وما تركيا الأمس العلمانية وفرنسا اليوم اللائكية عنا ببعيد.

جارة إيران حظرت الحجاب بقوة القانون وبطش الجيش “حارس العلمانية الأمين”، وحرمت آلاف التركيات من دخول الجامعات ومزاولة التعليم والشغل والمشاركة في الحياة السياسية.

واقع ظالم جسدته أواخر تسعينات القرن الماضي قصة مروة خاشقجي بفصولها الأليمة؛ من محاكمة وطرد من البرلمان ونفي، لا لشيء إلا لتشبثها بحجابها.

وفي تونس، حظر النظام ارتداء الحجاب في الجامعات ومواقع الشغل، وحتى مستشفيات الولادة، باعتباره “زيا طائفيا” وفق “المنشور 108″، الذي أصدره بورقيبة وصمم خليفته المنقلب عليه تطبيقه، بصرامة ووحشية أكثر.

هنا تتقاطع العلمانية المتشددة مع الإسلامية العقائدية في الطابع التدخلي والسعي لفرض أنماط حياة وسلوك محددين بالقوة، لتكريس العلمنة هنا والأسلمة هناك. منهج مشوّه، مرهق للمجتمع وللدولة على حد سواء.

يولّد تدخل الدولة لفرض أنماط معينة من الملبس والمسلك، باسم التحديث والعلمنة أو باسم الإسلام، حالة من القلق والتوتر المجتمعيين، يختلط فيها الغضب السياسي والاجتماعي بالبعد الثقافي والأيديولوجي.

ويؤدّي هذا التدخل الإكراهي في خيارات الأفراد في نهاية المطاف إلى نتائج عكسية.. فإذا ركبت الطائرة يوما من طهران باتجاه إحدى العواصم الأوروبية أقلعتْ ورؤوس النسوة مستورة مغطاة، فما إن تحط حتى تغدو حسيرة سافرة، وقد طار الحجاب ونزل التشادور! وهو لعمري مثال منفّر معبّر عن الفشل الذريع لسياسة فرض الحجاب بقوة الدولة.

مع ارتخاء قبضة مؤسستها العسكرية وصعود العدالة والتنمية منذ عقدين ونصف، لم تجد تركيا العلمانية بدا من الابتعاد عن نموذج التدخل الإكراهي في خيارات الأفراد، والتعايش مع الطابع التعددي للمجتمع التركي. وليس أمام إيران الإسلامية اليوم بدّ من التعايش مع الطابع التعددي للمجتمع الايراني.

ما ضرّ إيران الإسلامية إذا كشفت بعض من نسوتها خصلات من شعورهن أو خيرن عدم لبس الحجاب أصلا؟

وما ضرّ فرنسا اللائكية إذا غطت شابات مسلمات شعورهن في المدارس والمعاهد والفضاءات العامة، انسجاما مع قناعاتهن الدينية؟

ما دخل الدولة بشعر النساء، كشفنه أم حجبنه؟!

مهمة الدولة رعاية المصالح العامة للمجتمع، لا التطفل على الأفراد والتدخل في خياراتهم الشخصية وأذواقهم الخاصة.

نعم، من حق النظام الإسلامي ترغيب الفتيات الإيرانيات في الحجاب وتحبيبه إلى نفوسهن عبر مؤسساته الثقافية والتعليمية والإعلامية، لكن ليس من حقه فرضه على من هنّ له كارهات.

حجاب المرأة تعبير عن قناعات ذاتية منبعها القلب ومناطها إرادة حرة تكسبه القيمة والمعنى. فرض الحجاب بالقانون والبوليس إساءة بالغة له ولحاملته، ترسّخ الصور السائدة عن المرأة المسلمة المضطهدة الخانعة وتعطي مبررا لمنعه وحظره بالقانون وأدوات الدولة، كما تفعل فرنسا اللائكية وتطمح لفعله أحزاب اليمين المتطرف في أوروبا.

فليرفع الكل أيديهم عن حجاب المرأة المسلمة، وليخوضوا معاركهم السياسة بعيدا عنها!

عربي 21



تنفيذ و استضافة وتطوير ميكس ميديا لحلول الويب تنفيذ شركة ميكس ميديا للخدمات الإعلامية 2023