شبكة رصد الإخبارية
follow us in feedly

سياراتُ الألمان العظيمة ومذابحُ عسكر مصر

سياراتُ الألمان العظيمة ومذابحُ عسكر مصر
ذَهبتُ الأسبوعَ الماضِي لممارسةِ رياضةِ الجري فِي الغابةِ المجاورةِ لمبنَى "الاتّحادِ الدّوليّ لكرةِ القدمِ"...

ذَهبتُ الأسبوعَ الماضِي لممارسةِ رياضةِ الجري فِي الغابةِ المجاورةِ لمبنَى "الاتّحادِ الدّوليّ لكرةِ القدمِ" (الفيفا) في مَدينةِ زيورخَ. بعدَ انتهاءِ التّدريباتِ الرّياضيّةِ توجّهتُ إلى قِسمِ التّدليكِ الرّياضيّ. أثناءَ الانتظارِ لفتَ نظري العددُ الجديدُ لإحدى المجلاّتِ الألمانيّةِ المتخصّصةِ في السّـيّاراتِ. تصفّحتُ المجلّةَ بصورةٍ تلقائيّةٍ، برغمِ أنّني لستُ من عشّاقِ السّيّاراتِ. بعدَ

انتهاءِ جَلسةِ التّدليكِ، استأذنتُ صَديقي صاحبَ العيادةِ في استعارةِ هَذه المجلّةِ، بعدمَا شَدّتني روعةُ الموديلاتِ المعروضةِ فيها. تذكّرتُ أثناءَ تصفُّحِ المجلّةِ حكايةً طريفةً عَنْ موضوعِ السّيّاراتِ. فعندَمَا التقيتُ عضوًا بارزًا في البرلمانِ الفيدراليّ السّويسريّ قبلَ نحو عامٍ، لبحثِ إمكانيّةِ دعوةِ صديقي هانس كينج، كبيرِ علماءِ اللّاهوتِ في عصرِنَا، لإلقاءِ محاضرةٍ في زيورخَ – فاجأني صَاحبي البرلمانيُّ السّويسريُّ قائلًا: "أتعرفُ الفارقَ بينَ صديقِكَ كينجَ وبابا الفاتيكانِ بندكت السّادسَ عشرَ؟" قلتُ: "هناكَ فروقٌ كثيرةٌ".

فقالَ: "لكنّي أعنِي الفارقَ بينَ ذوقِهما في السّيّاراتِ. فعندمَا كانا زَميلينِ في جَامعةِ تُوبينجنَ الألمانيّةِ، كانَ هانسُ كينجَ يقودُ سيّارةَ بورشه أنيقةً وغاليةً، في حين أنّ البابا السّابقَ كانَ يقودُ سيّارةَ فولكس فاجن شعبيّةً رخيصةً"! ابتسمتُ متعجّبًا. وَبعدَ ذلكَ اتّصلَ بي أَحدُ تلامذتي السّويسريّينَ الّذي يعملُ حاليًا مديرًا في أكبرَ بنكٍ سويسريٍّ، طالبًا مقَابلتي. فلمّا تقَابلنا، جعلنَا

 

.

 

 نسترجعُ الذّكرياتِ الجميلةَ، والأيّامَ المجيدةَ فذكّرني بحكايتنا مَعَ صديقتي شِيمل، عندَمَا رجاني كبارُ مَسؤولي البنكِ السّويسريِّ "يو بي إس" مساعدَتهم لدعوةِ عميدةِ الاستشراقِ الألمانيّ أنّا مَاري شِيمل لإلقاءِ مُحاضرةٍ لهم فِي سويسرا. قُلتُ له: "كانتِ المرحومةُ لا تطيقُ هَانس كينجَ"! فقالَ: "كانتْ تتهكّمُ عليه بأنّه يعشقُ قيادةَ السّيّاراتِ السّريعةِ"!

تصفّحتُ بعدَ ذلكَ مجلّةَ السّيّاراتِ المذكورةَ بتمعُّنٍ. أدهشتْي روعةُ السّيّاراتِ الألمانيّةِ بالذّاتِ. فَهَذِهِ سيّارةٌ "بي إم ڤيه" (أو بالإنجليزيّة: بي إم دبليو)، وتلكَ سيّارةٌ "مرسيدس"، وبعدَ ذلكَ نجدُ سيّارةً حديثةً ماركةَ "فولكس فاجن"، وأخيرًا تعرضُ المجلّةُ أحدثَ السّيّاراتِ الألمانيّةِ من ماركةِ "بورشيه" العملاقةِ. لقد طوّرَ الألمانُ خلالَ العقودِ الماضيةِ موديلاتِ السّيّاراتِ الّتي يُصنّعونها بطريقةٍ مثيرةٍ للإعجابِ حقًّا. فهي سريعةٌ، وآمنةٌ، ومريحةٌ، وجميلةٌ، وممتعةٌ في آنٍ واحدٍ. بعضُ هذه الموديلاتِ تحملُ ملامحَ الطّائراتِ والصّواريخِ. إنّها باختصارٍ ليستْ سيّاراتٍ، بل هي تحفٌ فنّيّةٌ عظيمةٌ.

عِندمَا ترجمتُ فُصولا من كتابِ الباحِثَينِ السّويسريّينِ: أرنولد هوتينجر وإريك جيسلينج: "بؤرةُ الصّراعِ: الشّرقُ الأوسطُ"، ونشرتُهَا ضِمْنَ فُصُولِ كِتابي: "الإسلامُ في عُيُونِ السّويسريّينَ"، لفتَ نظري قولُ أرنولد هوتينجر إنّ ازدهَارَ الصّناعةِ يعتمدُ في المقامِ الأوّلِ على توفّرِ الأجواءِ الدّيمقراطيّةِ. أَوْ بعبارةٍ أخرى: لا صِنَاعةَ، بلا ديمقراطيّةٍ! هذه العبارةُ قرأتُهَا وترجمتُها مُنذُ أكثر من عقدٍ من الزّمنِ، وَمَعَ ذلكَ فقدْ ثبتتْ في ذاكرتي، وتعوّدتُ أنْ أتذكّرها، كلّما تأمّلتُ الأحوالَ المتردّيةَ الّتي وصلتْ إليها مصرُنا اليومَ. فمجرمُو عَسكرِ مِصْرَ لَمْ يبرعُوا إلّا في شَيءٍ واحدٍ، هُوَ الفسادُ والإجرامُ. لقدْ رأينا فشلَ جميعِ الدّيكتاتوريّاتِ العسكريّةِ في تأسيسِ صناعاتٍ متقدّمةٍ مستديمةٍ.

أتذكّرُ مثلا أنّني زُرتُ بعضَ دولِ أوروبّا الشّرقيّةِ، قبلَ انهيارِ الحكمِ الشّيوعيّ فيها. فهالني المستوى المعيشيّ المنخفضُ للسّكّانِ هناكَ، وصدمني تخلُّفُ هذه الدّولِ الشّيوعيّةِ مقارنةً بدولِ غربِ أوروبّا. لم أرَ في شَوارعِ مَدينةِ براغَ التّشيكوسلوفاكيّةِ إلا ماركةَ سيّاراتٍ واحدةً في منتهى القبحِ والتّخلّفِ. وتذكّرتُ السّيّارةَ الّتي حَاولَ المجرمُ عَبد النّاصرِ إنتاجَها في مصرَ في ستّينيّاتِ القرنِ العشرينَ، وكانتْ تُسمّى "رمسيس" فيمَا أتذكّرُ، وكانتْ هي أيضًا في منتهى القبحِ والتّخلّفِ. "لا صِنَاعةَ بِلا ديمقراطيّةٍ". يقينًا حَاولَ بعضُ الطّغاةِ تأسيسَ صناعاتٍ متقدّمةٍ، مثلما فعلَ هتلر عِندمَا شجّع عائلةَ بورشيه على تطويرِ سيّارةٍ شعبيّةٍ: "فولكس فاجن". لكنّ هذه الصّناعاتِ مستحيلٌ أن تنمو وتزدهرَ، وتتألّقَ، إلّا عندما تسطعُ شمسُ الحرّيّةِ، وتهبُ رياحُ الدّيمقراطيّةِ.

محاولاتُ عَسكرِ مصرَ تأسيسَ صناعاتٍ حَديثةٍ في مصرَ، في عصرِ المجرمِ عبد النّاصرِ، لم تكنْ سوى "مغامراتٍ" صبيانيّةٍ مثيرةٍ للسّخريّةِ، إذا ما قورنتْ بالمستوياتِ العظيمةِ الّتي وصلتْ إليها الصّناعاتُ الحديثةُ في دولِ العالمِ المتقدّمةِ. بالطّبع كانَ من السّهلِ عَلى عَبد النّاصرِ وعصَابتِهِ تسويقُ هذه المغامراتِ الهزليّةِ للشّعبِ المصريّ المقهورِ على أنّها بطولاتٌ فريدةٌ، نظرًا لتفشّي الأمّيّةِ، والجهلِ في قطاعاتٍ واسعةٍ من شعبِنا المسكينِ. لكنَّ واقعَ الحالِ يقولُ إنّ الصّناعةَ مستحيلٌ أن تزدهرَ في ظلّ الحكمِ الدّيكتاتوريّ المجرمِ.

ولنتأمّلِ المنجزاتِ العظيمةَ للألمانِ – الّذينَ بدؤوا معركةَ إعادةِ بناءِ دولتهم بعدَ انتهاءِ الحربِ العالميّةِ الثّانيةِ سنةَ ١٩٤٥م – في مجالِ صناعةِ السّيّاراتِ، ونقارنْهَا بفضائحِ عسكرِ مِصْرَ المجرمينَ الّذينَ استعبدوا الشّعبَ المصريّ منذُ سنة ١٩٥٢م. ففِي يومٍ واحدٍ سنة ٢٠١٣م ارتكبَ عسكرُ مِصْرَ المجرمونَ مذبحةً بشعةً، قتلوا فيها أكثرَ من ثلاثةِ آلافِ مصريّ. هَذا هو القتلُ الجسديّ. أمّا القتلُ المعنويّ، والفكريّ، والنّفسيّ، فقد وصلَ عددُ ضحايا مجرمي عسكرِ مِصْرَ أكثرَ من تسعينَ مليونَ مصريٍّ. لقد أشبعنَا العَسكرُ نهبًا، وترويعًا، وإرهابًا، وإذلالًا، وتضليلًا، وسرقةً، ونصبًا، وإملاقًا، على مَدارِ ستّينَ عامًا. هَذا هُو القتلُ البطيءُ الّذي يستمرُّ سنواتٍ طويلةً، بعكسِ القتلِ الجسديّ الّذي يحدثُ فورًا.

فأيّهما أكثرُ إيلامًا، أيّها القارئُ الكريمُ؟ أبلغني، أيّها القارئُ الكريمُ، أيّهما أكثرُ ألمًا، أنْ يقتلنا المجرمونَ بالرّصاصِ، أم أن يقتلونا جوعًا، ومرضًا، وفقرًا؟ أيّهما أحبّ إليكَ، أيّها القارئُ الكريمُ، أن تموتَ بالرّصاصِ، أم أن تموتَ بالذّلّ، والقمعِ، والاستعبادِ؟ بل دعني أستخدمْ عبارةً شائعةً في أمريكا: أيّهما أفضلُ: أن تموتَ واقفًا على قدميكَ، أم تموتَ راكعًا على ركبتيك؟ والمقصودُ هنا هو: أن تموتَ بكرامةٍ منتصبًا، أم تعيشَ مذلولًا راكعًا كالعبدِ للمجرمينَ.

انشغلَ الألمانُ بتطويرِ بلادهم، وانشغلَ مجرمو عسكرِ مِصْرَ باستعبادِ شعبهم. صنّعَ الألمانُ السّيّاراتِ، وفتحَ مجرمو عسكرِ مصرَ المعتقلاتِ. أصبحَ الألمانُ أبطالَ العالمِ سنواتٍ طويلةً في التّصديرِ، وأصبحَ عسكرُ مصرَ أبطالَ العالمِ في التّقتيلِ. انشغلَ الألمانُ بتوفيرِ وسائلِ الرّاحةِ لشعبهم، وانشغلَ مُجرمو عَسكرِ مِصْرَ باستعبادِ شعبِهم. حَرصَ الألمانُ على تنويرِ شَعبهم، وحرصَ مجرمو عسكرِ مِصْرَ على تضليلِ شعبنا. قادَ الألمانَ بلادَهم إلى الرّخاءِ والرّفاهيةِ، وقادَ مجرمو عسكرِ مِصْرَ بلادنا إلى الهلاكِ والفقرِ والتّخلّفِ. هَذه هي حصيلةُ حكمِ حُثالةِ المصريّينَ لشَعبنا العظيمِ ستّة عقودٍ كاملةٍ. ويا لها مِن حَصيلة أليمةٍ، مريرةٍ، قاتلةٍ، مميتةٍ.

لقدْ جَعَلَ مُجرمو عَسكرِ مصرَ حياتنا كابوسًا فظيعًا. ليسَ يتقنُ هَؤلاءِ المجرمونَ إلّا الكذبَ، والنّصبَ، والتّضليلَ. صَارتْ حَياتنا كذبًا في كذبٍ. يكذبونَ علينا في رواحِنا وغدوِنا. يكذبونَ عَلينا في التّليفزيونِ، والرّاديو، والصّحفِ والمجلّاتِ. يكذبونَ علينا فِي أقسامِ الشّرطةِ والمعتقلاتِ. يكذبونَ علينا فِي المدارسِ والجامعاتِ. يكذبونَ علينا في كلّ شَيءٍ. فمَاذا، فَعلنا، يا إلهي، حتّى تبتلينَا بأسوأ حثالةٍ عَرفتها البشريّةُ على الإطلاقِ، في جهلِها، وكذبِها، وعربدتِها، وإجرامِها؟ ماذا اقترفنَا، يا إلهي، حتّى تبتلينَا بعصابةٍ مِنَ المجرمينَ تحكمنَا منذُ سَنةِ ١٩٥٢م؟ ولماذا، يا ربّي، ابتليتَنا بهذِه العصابةِ الّتي تتكوّنُ من أجهلِ عبادِ اللّهِ، وأحطّهم أخلاقًا ودينًا؟

إنّ حصيلةَ حكمِ مجرمي عَسكر مِصْرَ مريرةٌ، يا ناسُ. أوصلنا مُجرمو العَسكرِ إلى أسفَل سافلينَ. صِرنا متخلّفينَ جدًّا، وجهلةً جدًّا، وضعفاءَ جِدًّا، وفقراءَ جدًّا. لا مفرّ لنا مِن تَدميرِ هَذه الدّيكتاتوريّةِ العَسكريّةِ المجرمةِ، إن شِئنا استعادةَ مكانتنا تحتَ الشّمسِ. مُستحيلٌ أن نقبلَ بعدَ اليومِ أن تستعبدَنا عصابةٌ من المجرمينَ، مِنْ حملةِ الثّانويةِ العامّةِ بمجموعٍ ضعيفٍ ضعيفٍ ضعيفٍ. ليسَ يتقنُ عسكرُ مصرَ إلّا الكذبَ، والإرهابِ، والتّضليلَ، والفسادَ، والخيانةَ. لقد باعوا الوطنَ بثمنٍ بخيسٍ. وتحوّلوا إلى جيشٍ احتلالٍ خسيسٍ تنحسرُ مهمّته في استعبادِ شَعبنا الأعزلِ، وإذلالِه، وترويعِه. وَلذلكَ لابدّ من سَحقِ هَذه العصابةِ المجرمةِ، وتدميرِ الدّيكتاتوريّةِ العسكريّةِ، ودحرِ الدّولةِ البوليسيّةِ.



تنفيذ و استضافة وتطوير ميكس ميديا لحلول الويب تنفيذ شركة ميكس ميديا للخدمات الإعلامية 2023