يُحكى في ما يُحكى.. أن جزيرة نائية في مجاهل المحيط الهادي تسمى “جيسي ستان”، أقام الملك في أطرافها مصنعًا للإسمنت وجمع أبناء الغلابة للعمل فيه بأبخس الأجور، رغم بعدها عن مدنهم وقراهم التي ولدوا فيها وسكنها آباؤهم وأبناؤهم.
على باب المصنع الذي لا تتوافر فيه عوامل الأمان، تقف إحدى المدرعات مرابضة، لتحمي أموال الملك، ورغم المخاطر العالية التي يتعرض لها العمال، لا تقف عربات الإسعاف هناك، فأرواح العمال أبخس ثمنا من ممتلكات الملك، وهذا هو “الفارق الأول” بين المدرعات وعربات الإسعاف في “جيسي ستان”: على أبواب المصانع.. لا تقف أبدا سيارات الإسعاف.. وإنما المدرعات.
وفي مصنع الإسمنت، لا يتمتع العمال بأي وسائل حماية أو إسعاف، فالمصنع لا توجد به وحدة إسعاف أولي، ولا ممرض أو مسعف، ولكن يوجد على أسوار المصنع أبراج حماية، فيها جنود متأهبون دوما لحماية أملاك الملك، بنادقهم مذخرة، وأصابعهم على الزناد، وهذا هو “الفارق الثاني” بين الإسعاف والمدرعات في “جيسي ستان”: الرصاص دائما أقرب إليك من الإسعاف.
ولأن إصابة العمال في تلك الظروف “اللا آدمية” مسألة وقت، فقد حدث ما كان منتظرا حدوثه، إصابة خطيرة أطاحت بقدم عاملٍ بسيط، وتطايرت دماؤه وتناثرت على معدات الملك باهظة الثمن، وقبل أن يصل زملاؤه إليه لإنقاذه وإسعافه وصل أتباع الملك المسؤولون عن المكان، وطالبوه بتنظيف المعدات من أوساخ دمه ودفع ثمن ما تضرر من أشلائه، وهذا هو “الفارق الثالث” بين الإسعاف والمدرعات في “جيسي ستان”: ادفع التعويضات قبل أن تحصل على الإسعافات.
لم يكن العامل الفقير يملك ثمنا للتعويضات، ولا يقوى على الوقوف لتنظيف المعدات، فاتفق زملاؤه مع أعوان الملك وجنوده على تنظيف المعدات بدلا من زميلهم المصاب، وجمعوا الدراهم القليلة في جيوبهم لدفع التعويض.. لكنهم بعد الانتهاء من التنظيف وجدوا زميلهم ملقى على الأرض ولم يطلب له المسؤولون الإسعاف؛ واضطروا في النهاية لطلبها هم بأنفسهم، وهذا هو “الفارق الرابع” بين الإسعاف والمدرعات في “جيسي ستان”: الأغنياء والمسؤولون وذوو السلطان لا يطلبون الإسعاف لعمالهم.. وإنما الفقراء يطلبونها لزملائهم.
وبعد أن طلب العمال الإسعاف، تأخرت في الحضور، لأن المسؤولين لم يطلبوها، وهذا “فارق خامس” جوهري بين الإسعاف والمدرعات في “جيسي ستان”: فـ”الإسعاف تسرع لنجدة الأغنياء.. والمدرعات تسرع لقمع الفقراء”.
احتج الفقراء والعمال وهم يرون دماء زميلهم تسيل، فالمسؤولون لا يحركون ساكنا، وكانوا سببا في تأخر سيارات الإسعاف لأنهم تلكؤوا في طلبها، فأوقفوا الماكينات وتجمعوا في ساحة الموقع للضغط على إدارة الملك وأعوانه لإنقاذ زميلهم، فطلب لهم المسؤولون المدرعات، وفي ذلك فائدة عظيمة في “الفارق السادس” بين المدرعات وسيارات الإسعاف.. تذكروا جيدا: “دائما.. المدرعات تصل أسرع”.
تهللت وجوه العمال وهم يرون بوابات المصنع تنفتح أملا منهم في أن تكون سيارة الإسعاف، وقبل أن يلوح لهم جنود الملك يعتلون المدرعات، أطاحت بهم الرصاصات وطلقات الخرطوش، فسقط بينهم قتيلان، وأصيب ثلاثة، إضافة لزميلهم الذي بترت ساقه ماكينات الملك، وعندها جاءت سيارة الإسعاف فحملت جثتي القتيلين، وهذا “فارق سابع” بين المدرعات وسيارات الإسعاف: المدرعات توقع جثث القتلى.. وسيارات الإسعاف تحملها.
بعد أن مات اثنان وأصيب ثلاثة من العمال الغلابة، بقيت المدرعات أمام باب المصنع، وضاعفوا الجنود، وزادوا مدرعتين في ساحة المصنع، لمراقبة العمال، وبين الحين والآخر تغيران أماكنهما وتتحرك في خيلاء وتحدٍّ للعمال إمعانا في إذلالهم وكسر أي بقية باقية للغضب والكرامة في نفوسهم، وهو “الفارق الثامن” بين المدرعات وسيارات الإسعاف في “جيسي ستان”: المدرعات تبقى وتتضاعف.. سيارات الإسعاف ترحل سريعا.
“الفارق التاسع” بين سيارات الإسعاف والمدرعات في “جيسي ستان”، أن ممثلة شهيرة في تلك الجزيرة النائية خرجت لتتمنى أن تكون ذات يوم “مدرعة لجنود الملك”، لكن أحدا لم يتمن يوما أن يكون “سيارة إسعاف لجثث العمال”.
* ملاحظة: أي تشابه بين القصة الوهمية في “جيسي ستان” وأي قصة واقعية أخرى .. هو من قبيل الصدفة “المقصودة”.