ما زال بعض الذين عارضوا الرئيس محمد مرسي يتحرجون من استعمال كلمة انقلاب لوصف السلطة القائمة، رغم إقرارهم بأنها جاءت بالسلاح لا بمظاهرات أي فريق.
وما زال كثيرون يحملون نفس المشاعر التي أججت الخلاف ومهدت الطريق مع أسباب أخرى شرحناها في شهادتنا على العصر لانقلاب كان يُمكن تجنبه.
ما لا يدركه البعض أن المشاعر السيئة بين أبناء شعبٍ واحدٍ يُمكنها أن تدمر حاضره ومستقبله إذا وصلت لحالة الانقسام وإذا استمرت لحظة الغرق؛ إذ ستجد مَن يفضل الغرق على أن يقبل يدك الممدودة إليه، ومَن يقبل غرقك ويرفض أن يمد إليك يده.
لم يحمل ثوّار يناير/كانون الثاني في التحرير شيئاً من هذه المشاعر الضالة، فكيف تسربت إلى نفوسهم ودمرت وحدة نسيجهم وجعلت مطالبهم أحلاماً بعيدة المنال؟!
ربما أتناول ذلك بمقال آخر، وأقتصر هنا على الاختلاف حول وصف الانقلاب.
المسألة بسيطة، فإما أننا نعارض نظاماً هو امتداد لثورة يناير لكنه يُخطئ فعلينا أن نعطيه الفرصة، أو أننا نواجه نظاماً نقيضاً لكل ما حملته ثورة يناير، ولن يزيده السكوت إلا تجبراً واعتداء على الحقوق.
فبغض النظر عن تظاهرت في 30 يونيو/حزيران أو الإعلام الذي صوّر الأوضاع بشكل كوميدي ليتهيأ المسرح لاستقبال المنقذ، فهذه لم تكن سوى عوامل مساعدة لا رئيسية ولا حاسمة، فالسلاح وحده هو الذي حسم يوم 3 يوليو/تموز 2013.
من قام بثورة يناير اتصف بصدقه مع نفسه وعدم توجسه للآثار السلبية أو الإيجابية التي لو جلس لاستحضارها فلم يكن ليجرؤ على أن يُشارك في ثورة. فالثورة تعبير عن غضب جارف لظلم غير محدود وأملٍ أشبه بالحلم في بناء مستقبل أفضل يحرك الملايين ممن يؤمنون به.
أنا وأنت لن نصل أبداً لأي ثورة طالما لم يكتمل غضبنا لحدوده القصوى. فلو آمنت أن النظام القائم شرعي فأنت تهدم أول عناصر الحسم النفسي الذي يحتاجه الثائر، وإذا قطعت بأنه انقلاب فلن يفرض عليك ذلك أية فواتير سابقة أو لاحقة، بل لن يُدينك؛ لأنك تظاهرت ضد رئيس منتخب فاستعمل الانقلاب تظاهراتك لإسقاطه بالسلاح.
أنت، بكل بساطة، كنت تستخدم حقك في أن تتظاهر وتُطالب وتحتج، ولم يكن مطلوباً منك احتساب الآثار والنتائج، فهي مهمة السياسيين الذي فشلوا في حسابها وخابوا في تلافيها.
أنت لست متهماً بكراهية الرئيس المنتخب، فالديمقراطية تسمح لك بحب من تحب وأن تكره من تشاء، ولست متهماً بأنك تظاهرت ضده، فجوهر الحرية التي بحثنا عنها معاً في ميدان التحرير كان حقي وحقك في الاحتجاج ضد أي سلطة وأي رئيس. وكون الرئيس شرعياً منتخباً لا يعني حرماني أو حرمانك من تلك الحقوق أو لومي أو لومك لممارستها؛ فلا يُلام من يُباشر حقه عن النتائج السياسية لممارسته لحقوقه؛ إنما يُلام من يستغلها لإسقاط المسار الديمقراطي.
فلا تجعل نفسك مُداناً اليوم بدعم شرعية الانقلاب؛ لأنك تُشكك في كونه انقلاباً.
التمسك بأن ما حدث في 3 يوليو 2013 انقلاب يعني تمسكاً بما أنجزته ثورة يناير من شرعية أن يختار الشعب وألا تتعالى سلطة عليه وألا تستعمل الأدوات المملوكة للشعب لقمعه.
التمسك بأنها سلطة انقلابية، يُظهر هذا التناقض الفاضح بين الحلم الذي حملناه والقمع الذي تحمله، والعزة التي عشقناها والانبطاح الذي تمثله أمام الغير، فلا يبقى لدى أي منا شك في أن ما نواجهه هو نفس ما واجهناه قبل ثورة يناير.
نحن أمام نفس النظام الذي خرجنا لإسقاطه، لكنه تعرى من الحياء وألقى قفازه الذي كان يُداري به خشونته وقسوته التي فضحها الشاعر عبدالرحمن يوسف يوماً في قصيدة له سنة 2008 قائلاً:
سجدتَ للغرب دوماً.. مستبدلاً قِبلتك
بأدمعي ودمائي.. كتبتُها قصتَك
خذلتَ كل شريف حتى غدتْ لذتَك
وكل أبناء شعبي قد شاهدت قسوتَك
وكم منحتَ لصوصاً يا قاسياً رحمتك
نحن ما زلنا في نفس دائرة الصراع، بين العيش ومن يسرقونه، والحرية ومن يسجنونها، والكرامة ومن يهدرونها، والعدالة ومن يستبيحونها.
ثورتك التي بذلت لأجلها الدموع والدماء وأياماً طويلة بالسجن هي التي فرضت على تلك السلطة التعري والابتذال في أدائها حتى غدت أضحوكةً في الفشل وأمثولةً في القمع ورمزاً للفساد.
أنت حاصرتها حتى تعرت، فلا تسمح لها بأن تناور في المسافة بين عشقك لثورتك واختلافك مع رفقائك ممن أحسنوا يوماً مثلك، وأخطأوا يوماً آخر مثلك.
هي سلطة انقلاب؛ لأنها أعادت الكرة لملعب مبارك الذي يُتابعك راضياً من شرفته على كورنيش المعادي الذي باع شركاته ولوث نيله وهرب أمواله، لكنه يهنأ بأيامه الأخيرة بينما أنت في عزّ شبابك مُطارد أو محاصر أو قلق أو مسجون.
عُدنا كما كنا أيام مبارك؛ ربما ما زاد هو عدد القبور التي سكنها أصدقاؤنا، والتنوع الذي شهدته سجونهم، بين إسلامي وليبرالي وعلماني ومسيحي، ومن لم يُفكر في تصنيف نفسه بل وطلاب المدارس الثانوية، والشتات الذي انتقل إليه آلاف من حملة الحلم.
نحن أمام انقلاب على ثورة حاول الشعب أن يصنع بها مُستقبلاً مختلفاً فعاد الماضي أشد بُغضاً؛ وعلى إرادة شعب حاول أن يجعلها وسيلة الاختيار للحكام ومراقبتهم، فعاد الحكام ليتسيّدوا المجلس بينما الشعب يمر أمامهم في طوابير أشبه بطوابير الأسرى.
أمام هذا الانقلاب تتراجع قيمة الأشخاص وتنزوي الجماعات والأحزاب، فكل ما تراه عيناك ليست إلا رسائل موجهة لهذا الجيل وللأجيال القادمة:
حبس الرئيس وإهانته هو رسالة لمن اختار وليس لمن اختير، وإهانة لصاحب الإرادة وليس لموضوعها.
حبس النشطاء هو إنذار لكل شباب مصر أن ما حدث في يناير لا يجوز أن يتكرر، وأن السلطة هي الخط الأحمر لا الشعب.
اعتقال الصحفيين وملاحقتهم إعادة لترويض الكلمة حتى تكون وفقاً لما يحدده رقيب السلطة وليس وفقاً لما يشعر به ضمير صاحبها.
طرد المذيعين، يعني أن الشاشة لا يجب أن يحتلها أو أن يشغل أي قدر من مساحتها إلا وجوه السلطة، بل لم يعد لأحد الحق في أن يؤيدها مستقلاً، بل يجب أن يكون مأموراً وعبداً في تأييده.
ليس لدينا ترف في أن نترك أحداً أو أن نتخلى عما تحت أيدينا مما يدمغ السلطة بأنها انقلابية، على رئيس منتخب وعلى صحافة حرة وعلى حرية تعبير وعلى الاستقلال الوطني وعلى وحدة تُرابنا، وإجمالاً على الأمل الذي حمله شعبنا فجاء الانقلاب ليُجهضه.
أما التنازل للسلطة عن شيء مما بين أيدينا؛ لأنه لا يعجبنا على المستوى الشخصي فهو يجعلنا شركاء لها في جرائمها، فهي لا تنتظر أكثر من ذلك: أن يقبل الإسلاميون قمع من سواهم؛ لأنهم تظاهروا في 30 يونيو، ويقبل الليبراليون بقاء الانقلاب؛ لأنه أزاح الإخوان ولو أدى ذلك لانهدام الوطن على رؤوس مَن فيه.
الانقلابات لا تتوقع قبول الجماهير لها، وإنما تتمنى أن تختلف قضاياهم فيبكي كل طرف على الجانب الذي يعنيه ويسفه أو لا يُبالي بما يعني الآخر؛ دون أن يُدركوا أن أي شيء يعني كل الوطن.
بل لا بأس لدى هذه السلطة أن يجمعنا البكاء على المعتقلين والمعذبين والمشردين والحقوق التي تنفرط، طالما لا يجمعنا الحلم الواحد والهدف الواحد.
رفض الانقلاب كله أو قبوله كله، أما “التوسطن” بين منزلتين فهو مساندة للانقلاب، كما أن القفز لفرض المستقبل لاستثارة الانقسام هو أيضاً تثبيت للانقلاب.