فشلُ الزّعيمِ المستمرُّ فيه خسارةُ للأمّةِ وتأخّرُهَا، وضياعُ فرصِهَا في النّهوضِ والتّقدّمِ. وأيضا ما كانَ من مظالمَ ومآتمَ متعمّدةٍ، كما حدثَ لمعارضي عبدِ النّاصرِ عامّةً، وللإخوانِ المسلمينَ خاصّةً، فلا يستطيعُ مدافعٌ أن يُدافعَ عن عبدِ النّاصرِ، في إيقاعِ هذا الكمِ الهائلِ مِنَ المظالمِ والمآثمِ: من شنقٍ وتقتيلٍ، وتشريدٍ، وتنكيلٍ، وإيذاءٍ وتعذيبٍ، ومصادرةٍ وتضييقٍ، لجماعةٍ كانتْ هِيَ أوّلَ من ساندَ ثورةَ عبدِ النّاصرِ.
بل كانتْ هِيَ أوّلَ من أوحى إليه بضرورةِ العملِ الوطنيّ داخلَ الجيشِ، كما اعترفَ عبدُ النّاصرِ بنفسِهِ في المذكّراتِ الّتي كتَبَهَا الأستاذُ حلمي سلام، رئيسُ تحريرِ المصوّرِ، بعنوانِ: (الثّورة مِنَ المهدِ إلى المجدِ)، … وقالَ فيها: إنَّ أوّلَ مَنْ لفتَ نظرَهُ إلى هذا العملِ: هُوَ الصّاغُ ذو الوجهِ الأحمرِ م. ل. يقصدُ: محمود لبيب أحدَ العسكريّينَ الأحرارَ الّذينَ عملوا مَعَ عزيز باشا المصريّ، وكانَ وكيلًا للإخوانِ في عهدِ المرشدِ الأوّلِ حسن البنّا.
بعضُ النّاسِ يُهونّونَ مِنَ الأهوالِ الّتي عاناها الإخوانُ. ولو ذاقوا معشارَ ما ذاقوا، لكانَ لهم رأيٌ آخرُ، وقولٌ آخرٌ. وقدْ قيلَ النّارُ لا تحرقُ غيرَ القابضِ عليها. وقالَ الشّاعرُ: لا يعرفُ الشّوقَ إلا مَنْ يُكابدُهُ ولا الصّبابةَ إلّا من يُعانيها. والقرآنُ يُقرّرُ مَعَ كتبِ السّماءِ: {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاء تْهُمْ رُسُلُنَا بِالبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم بَعْدَ ذَلِكَ فِي الأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ} (32) المائدة: ٣٢.
ويقولُ رسولُ الإسلامِ: "لزوالُ الدّنيا أهونُ على اللّهِ من قتلِ مسلمٍ". وَمِنَ العجبِ أن يتحدّثَ هؤلاءِ عن أهمّيّةِ حقوقِ الإنسانِ، وحقوقِ الأفرادِ، وحقّ الحرّيّةِ المقدّسِ، وحقّ الفردِ في أن يأمنَ على نفسِهِ وأهلِهِ ومالِهِ وخصوصيّاته، فإذا وصلوا إلى الإخوانِ، استثنوهم من هذا كلّهِ، كأنّما ليسَ لهم حقوقٌ. وإذا وصلُوا إلى عبد النّاصرِ، استثنوه من هذا كلِّهِ، كأنّما ليسَ عليه واجباتٌ، وكانَ من حقّهِ أن يُصادرَ ويعذّبَ ويظلمَ ويبغى في الأرضِ بغيرِ حقٍّ، بلا حسيبٍ ولا رقيبٍ.
ولقد بيّنتُ في حديثي عَنِ السّجنِ الحربيّ في الجزء الماضي مسؤوليّةَ عبد النّاصرِ عَنِ الجرائمِ الوحشيّةِ والاعتداءاتِ الهمجيّةِ الّتي وقعتْ في السّجنِ الحربيِّ، وأنّه شهدَ بنفسِهِ بعضَ وقائعِ التّعذيبِ، وأنّه لا يعقلُ أن يتمَّ هذا الّذي تناقلَهُ النّاسُ في الآفاقِ دونَ علمِهِ. وقد ذكرنا أنّ هيكل، مؤرخَ عبد النّاصرِو اعترفَ بأنّه كانَ يعلمُ، وعُرضتْ عليه وقائعُ. فلا معنى لتبرئته، بدعوى أنّه يجهلُ ما يجري! وحتّى لو لم يعلمْ، فهو المسؤولُ الأوّلُ عن هذه الوحوشِ الآدميّةِ الّتي عيّنها في مناصبها، لتنهشَ لحومَ النّاسِ، وتفترسهم، وهم مطمئنونَ إلى أنّهم محميّونَ، وأنّ ظهروهم مسنودة إلى جدارِ السّلطانِ.
إنّ رسولَنَا الّذي لا ينطقُ عن الهوى، أخبرنا أنّ امرأةً أدخلها اللّهُ النّارَ، من أجلِ هرّة حبستها، فلا هي أطعمتها، ولا هي تركتها تأكلُ من خشاش الأرضِ. هذا في حبسِ هرّةٍ، فكيف بِمَنْ حبسَ الألوفَ مِنَ النّاسِ، وسقاهم كؤوسَ العذابِ، وجرّب فيهم ما استورده من أدواتِ التّعذيبِ من عندَ الشّيوعيّينَ أو غيرهم، وسلّط عليهم كلابَ البشرِ، وكلابَ الكلابِ، وقد كانتِ الكلابُ الحقيقيّةُ أرحمَ من الكلابِ البشريّةِ في كثيرٍ من الأحيانِ.
إنّ شرّ ما فعله عبد النّاصرِ في مصرَ أنّه أذلَّ الإنسانَ المصريَّ وقهره، وأحياه في خوفٍ دائمٍ أن يداهمه زوّارُ منتصفِ اللّيلِ، أو زوّارُ الفجرِ، من كلابِ الصّيدِ، فتتخطّفه، وتذهب به إلى مكانٍ سحيقٍ وراءَ الشّمسِ، لا يستطيعُ أحدٌ الوصولَ إليه. وقد أصبحَ المصريّونَ يتجسّسُ بعضهم على بعضٍ، ويشكُّ بعضهم في بعضٍ، حتّى أصبح الأخُ يتجسّسُ على أخيه، بَلِ الابنُ على أبيه، وفقدتِ الأسرةُ الثّقةَ بعضهم ببعضٍ.
وقدِ اعترفَ الرّئيسُ أنورُ السّادات في كتابه (البحث عن الذّاتِ) بما زرعته الثّورةُ من خوفٍ ملأ صدورَ النّاسِ، وشلّ إرداتهم، حين قالَ: (انتهى مجلسُ الثّورةِ في ٢٢ يونيو سنةَ ١٩٥٦م، عندما انتُخِبَ جمال عبد النّاصرِ رئيسًا للجمهوريّةِ بالاستفتاءِ، ولكن قبلَ أن ينتهي المجلسُ، كانَ الشّعورُ بالخوفِ قد عمّ البلادَ). هذا في رأيي أبشعُ ما يمكنُ أن يُصيبَ الإنسانَ! فالخوفُ يقتلُ الشّخصيّةَ، ويشلُّ الإرادةَ، ويمسخُ تصرّفاتِ البشرِ! وقالَ في حديثٍ له في (الأهرامِ): (لاحظتُ أنّ أكبرَ خطأٍ ارتُكبَ في حقٍّ الإنسانِ المصريّ كانَ هُوَ زرع الخوفِ. فبدلا من أن نبني الإنسانَ أصبحَ همّنا أن نخيفَهُ. والخوفُ أخطرُ ما يهدمُ كيانَ الفردِ أوِ الشّعبِ. فقد كانتْ أرزاقُ النّاسِ كلّها ملكًا للحاكمِ، إن شاءَ منحَ، وإن شاءَ منعَ. وكانَ المنعُ مصحوبًا في أغلبِ الأحيانِ بمصادرةِ حرّيّةِ الفردِ واعتقالِه، ثمّ فصل جميع أهله من وظائفهم، مع اتّخاذِ إجراءاتٍ ضدّهم).
وأحسبُ أنّ السّاداتَ شاهدٌ من أهلها. فهو من صنّاعِ ثورةِ يوليو، ونائبُ عبد النّاصرِ. إنّ خسارةَ الإنسانِ المصريّ هِيَ الخسارةُ الكبرى، وليسَ الإنسانُ المصريّ من هؤلاءِ الّذينَ يتجمّعونَ في السّرادقاتِ في الاحتفالاتِ المعدّةِ، ويلقّنونَ هتافاتٍ يُردّدونها كالببغاواتِ: ناصر، ناصر. وأذكرُ أنّ عبد النّاصرِ ذهب إلى إحدى المدنِ في أوّلِ الثّورةِ، فهتفَ النّاسُ باسمِ نجيب. فثارَ عليهم، وقالَ في حرقةٍ وحرارةٍ: إنّما قمنا بالثّورةِ، لنحرّرَ النّاسَ من عبادةِ الزّعماءِ، والهتافِ للأشخاصِ، أي يكون الهتافُ للوطنِ. فلمّا أصبحَ بعدَ ذلكَ الهتافُ باسمه، أصبحَ مشروعًا ومحمودًا. لقد أذلَّ عبد النّاصرِ الشّعبَ المصريَّ، كما أذلَّ الحجّاجُ بن يوسف الثقفي الشّعبَ العراقيّ من قبلُ.
وكانَ في ذلكَ خسارةٌ معنويّةٌ لا تُقدّرُ بثمنٍ، ولا تُقاسُ بالمادّةِ. لقدْ أرادَ عبدُ النّاصرِ أن يُديرَ مصرَ كما يُديرُ صاحبُ الدّكّانِ دكّانَهُ، أو صاحبُ المزرعةِ مزرعتَهُ. وقدْ قالَ مرّةً: أُريدُ أن أضغطَ على زرٍّ، فتتحرْكُ مِصْرُ كلُّهَا من أسوان إلى الأسكندريّةِ! وأضغطُ على زرٍّ آخرَ، فتسكنُ مِصْرُ كلُّهَا. ولقدْ قالَ لي مرّةً أحدُ شيوخِنَا الفضلاءِ (الدّكتور محمّد يوسف موسى): إنّ هذا البلدَ سجنٌ كبيرٌ، له بابٌ واحدٌ، وقفلٌ واحدٌ، ومفتاحٌ واحدٌ، في يدِ سجّانٍ واحدٍ، هو عبد النّاصرِ!". ا. هـ .
وعندَما شرعَ الرّئيسُ الأمريكيّ بوش الابن في انتهاجِ سياسةٍ حربيّةٍ إجراميّةٍ، بدايةً من تلفيقِ هجماتِ الحادي عشرَ من سبتمبرَ ٢٠٠١م، ثمّ اتّخاذها ذريعةً لغزو أفغانستانَ، مرورًا بتلفيقِ أكاذيبِ امتلاكِ العراقِ أسلحةَ دمارٍ شاملٍ، قبلَ شنّ حربِ إبادةٍ ضدّه، وصولا إلى جرائمِ تعذيبِ أسرى الحربِ في العراقِ وطجوانتانامو"، سألَه أحدُ الصّحفيّينَ: "وهل يتّفقُ هَذا مع القانونِ الدّوليّ؟» فقالَ بكلّ برودٍ وسخريةٍ: «سَوفَ أستشيرُ المحامي الخاصّ بي في ذلكَ"!! وهذا نموذجٌ مثاليّ لنظرةِ الحاكمِ الدّيكتاتوريّ للقانونِ والدّستورِ. فالحاكمُ المستبدُ لا يعترفُ إلّا بالقوّة، والقنابلِ، والمدافعِ، والتّدميرِ، والتّقتيلِ. وهو ينظرُ إلى القانونِ بازدراءٍ واحتقارٍ. وهو لا يمانعُ في فبركةِ الذّرائعِ، واختلاقِ الأكاذيبِ من أجلِ ارتكابِ الجرائمِ، وتبريرها أمامَ الرّأيِ العامّ.
لعلّنا نتذكرُ الأقوالَ المأثورةَ للرّئيسِ أنور السّاداتِ عنِ الدّيمقراطيّةِ. فالسّاداتُ، وإن كانَ أكثرَ وعيًا من عبد النّاصرِ بمضارّ الدّيكتاتوريّةِ، إلا أنّه كانَ في قرارةِ نفسِهِ ديكتاتوريًّا من الطّرازِ الأوّلِ. ويكفي أن نتأمّلَ مقولتَهُ الشّهيرَةَ: "من عارضني، سأفرمه"!! إنّه قولٌ لا يصدرُ إلا عن حاكمٍ مستبدٍ. ذلك لأنّ الفرمَ يعني التّصفيةَ في أبشعِ صورها. فكيفَ يمكنُ بعدئذٍ أن نتوهّمَ أنّ العسكرَ يؤمنونَ بالدّيمقراطيّةِ؟ وللسّاداتِ قولٌ آخرُ في هذا السّياقِ ذهبَ فيه إلى أنّ الدّيمقراطيّة لها أنيابٌ أشرسُ من أنيابِ الدّيكتاتوريّة. صحيحٌ أنّه حاولَ التّخفيفَ من حدّةِ هذا القولِ. لكنّ المضحكَ في الأمرِ هوَ أنّه كانَ يظنّ أنّ نظامَ الحكمِ في عصرِهِ كَانَ نظامًا ديمقراطيًّا، معَ أنّ مصرَ لم تعرفِ الحياةَ الدّيمقراطيّةَ في تاريخها الطويلِ.
اعلمْ، أيّها القارئُ الكريمُ، أنّه لا مستقبلَ لمصرنا، بدونِ وضعِ دستورٍ عظيمٍ لبلدِنا، دستورٌ لا يقلّ عن دساتيرِ الدّولِ المتقدّمةِ. دستورٌ يضمنُ للمواطنِ المصريّ حقوقَه كاملةً، ويحدّدُ بوضوحٍ وظيفةَ الجيشِ، ويفرضُ عقوباتٍ غليظةً على أيّ فردٍ من أفرادِ القوّاتِ المسلّحةِ يحاولُ أو حتّى يفكّرُ في خوضِ مغامراتٍ جديدةٍ، مثل مغامراتِ مجرمي عسكرِ مصرَ الّتي بدأتْ سنة ١٩٥٢م، وقادتْ مصرَ إلى الخرابِ والهلاكِ. لابدّ أنْ نسعى جميعًا لوضعِ دستورٍ يجمحُ أهواءَ المجرمينَ والمغامرينَ المحتملينَ في القوّاتِ المسلّحةِ.
ستّونَ عامًا من العربدةِ، والفسادِ، والفوضى، والسّرقةِ، والنّهبِ، والتّضليلِ، والعمالةِ، والنّذالةِ، والقمعِ، والمغامراتِ تكفي. دستورُنا الجديدُ ينبغي أن يقومَ أيضًا على توزيعِ السّلطاتِ، وتقسيمِها، وتداولها. وأختمُ هذا الفصلَ باقتباسٍ مهمّ يوضّحُ للقارئِ الكريمِ كيف حوّلتْ عصابةُ العسكرِ جيشَنَا العظيمَ إلى دولةٍ داخلَ دولةٍ، تحرصُ على المشروعاتِ الاقتصاديّةِ أكثرَ من حرصها على الدّفاعِ عن أمن الوطنِ. وهي أحوالٌ ندعو شرفاءَ مصرَ إلى السّعي لتغييرها، وإصلاحها فورًا. وبعدُ.
نشرَ موقعُ «البي بي سي» في الحادي والعشرين من أغسطس ٢٠١٣م دراسةً مهمّةً تحتَ عنوانِ: «مصرُ: هلْ تعودُ إلى جمهوريّةِ العسكرِ؟» وردَتْ فيها حقائقُ مفزعةٌ عن عربدةِ العسكرِ، وجرائمهم، وإصرارِهم على تأسيسِ دولةٍ داخلَ الدّولةِ. فيا لهم من فوضويّينَ، مجرمينَ، أنانيّينَ، طمّاعينَ، مستبدينَ، لا يفكّرونَ إلا في النّهبِ والسّرقةِ والابتزازِ. إنّهم بالفعلِ حثالةُ المجتمعِ.
تقولُ الدّراسةُ: «بماذا يرغبُ جنرالاتُ مصرَ؟ خلالَ ثورةِ ينايرَ ٢٠١١م برزت تحدّياتٌ للأوضاعِ الّتي كانتْ تمرُّ بها البلادُ عامَ ١٩٥٤م في مناحٍ كثيرةٍ. كانَ المجلسُ الأعلى للقوّاتِ المسلّحةِ (محافظًا) مِنَ النّاحيةِ السّياسيّةِ، وَهُوَ مجلسٌ غير دستوريٍّ، حكمَ مصرَ في الفترةِ بينَ فبرايرَ/شباط ٢٠١١م ويونيو ٢٠١٢م. وكانتْ مفاهيمُ إصلاحِ قطاعِ الأمنِ والرّقابةِ الدّيمقراطيّةِ على القوّاتِ المسلّحةِ ورقابةِ المؤسّساتِ المدنيّةِ على مؤسّساتِ الجيشِ والشّرطةِ إلى جانبِ توافرِ الشّفّافيّةِ بشأنِ ميزانيةِ الجيشِ متشدّدةً في طابعِهَا، بل مفاهيمُ غريبةٌ. والأسوأُ من ذلكَ هو أنّ هذه المفاهيمَ هدّدتِ المحرّماتِ، ومن ثمّ كانَ ينبغي محوها أو تجريدُها من مغزاها.
وفي أعقابِ الإطاحةِ بمبارك في فبراير ٢٠١١م، احتفظَ المجلسُ الأعلى للقوّاتِ المسلّحةِ بأدنى ثلاثةِ مطالبَ، وَهِيَ: حقّ الاعتراضِ (الفيتو) على السّياساتِ الكبرى، واستقلالُ ميزانيةِ الجيشِ والإمبراطوريّةِ الاقتصاديّةِ، والحصانةُ القانونيّةُ مِنَ المحاكماتِ في مواجهةِ أيّ اتّهاماتٍ بالفسادِ أَوِ القمعِ. كما أرادَ التّمتّعَ بامتيازاتٍ دستوريّةٍ لضمانِ هذه التّرتيباتِ. وبرزتْ هذه المطالبُ في الإعلانِ الدّستوريِّ الصّادرِ في يوليو ٢٠١٢م الّذي أعطى المجلسَ امتيازاتٍ في أوّلِ برلمانٍ أعقبَ الثّورةَ، والّذي قامَ المجلسُ بحلّه بالقرارِ رقم ٣٥٠ في الثّلاثينَ من يونيو ٢٠١٢م (بعدَ حكمٍ أصدرته المحكمةُ الدّستوريّةُ يُفيدُ بأنّ القانونَ الانتخابيّ للبرلمانِ ليسَ دستوريًّا في أحدِ جوانبِهِ).
جعلَ هذا القرارُ جميعَ السّلطاتِ التّشريعيّةِ في يدِ المجلسِ، قبلَ أيّامٍ من تولّي أوّلِ رئيسٍ مدنيٍّ منتخبٍ مهامَّ سلطتِه في يوليو ٢٠١٢م. وكانتِ الإمبراطوريّةُ الاقتصاديّةُ المستقلّةُ للجيشِ، الّتي تسفيدُ مِنَ الجماركِ التفضيلية، وأسعارِ الفائدةِ، والإعفاءِ الضّريبيّ، وملكيّة الأراضي، وحقوقِ المصادرةِ، وجيشٍ مِنَ العمالةِ المجانيّةِ من المجنّدينَ، مصدرًا لزيادةِ نفوذِ الجيشِ، ومن ثمّ القضيّة الشّائكة الّتي تكمنُ في انتخابِ شخصٍ مدنيّ (رئيسًا للبلاد). كما ظلّ هناك ثقبٌ أسود في الاقتصادِ المصريّ الّذي يُعاني عثراتٍ، وهو أنّ السّياسيّينَ المنتخبينَ في أعقابِ الثّورةِ ربّما سعوا إلى تحسينِ الظّروفِ من خلالِ التّحرّكِ في اتّجاهٍ مضادٍّ للأصولِ المدنيّةِ للجيشِ، وفرضِ إشرافٍ على ذلكَ.
لكنْ في مارسَ ٢٠١٢م أعلنَ الجنرالُ محمود ناصر، عضو المجلسِ العسكريّ والمسؤولُ عَنِ الشّؤونِ الماليّةِ، تحذيرًا علنيًّا، جاءَ فيه: (هذا جهدنا، وسنكافحُ من أجلِهِ. ولن نسمحَ لكائنٍ من كانَ أن يقتربَ من مشروعاتٍ القوّاتِ المسلّحةِ).
مَاذا يخشى جنرالاتُ مِصْرَ؟ على الرّغمِ من سلطتِهِ، كَانَ المجلسُ حسّاسًا جدًّا لعواملَ معيّنةٍ، منْ بينها الضّغطُ مِن جَانبِ الولاياتِ المتّحدةِ المتمثّلُ في عناصرِ التّسليحِ والتّدريبِ والتّجهيزِ والتّمويلِ. عاملٌ آخرُ هُوَ الحشدُ في الشّارعِ. فأغلبُ القراراتِ المؤيّدةِ للدّيمقراطيّةِ الّتي اتّخذها المجلسُ جاءتْ نتيجةَ ضُغُوطٍ حاشدةٍٍ من المحتجينَ في الشّارعِ. كَانَ من بينَ هذه الضّغوطِ الإطاحةُ بحسني مبارك، ومحاكمته ومحاكمةُ شخصيّاتٍ أخرى في النّظامِ الحاكمِ، وتحديدُ موعدٍ للانتخاباتِ الرّئاسيّةِ، وهوَ يونيو ٢٠١٢م، بدلا من يونيو ٢٠١٣م.
العاملُ الثّالثُ الّذي أثّرَ على صناعةِ القرارِ داخلَ المجلسِ هُوَ الحفاظُ على التّماسكِ الدّاخليّ للجيشِ. قالَ لي ضابطٌ سابقٌ: (مشهدُ تظاهرِ ضبّاطٍ يرتدونَ الزّيّ العسكريّ في ميدانِ التّحريرِ، والتّحدّثُ إلى قناةِ الجزيرةِ، مشهدٌ أقلقَ المشيرَ محمّد حسين طنطاوي). وكَانَ أحدُ سُبُلِ الحفاظِ على التّماسكِ الدّاخليّ هُوَ خلقَ (فزّاعاتٍ)، مثل الدّرسِ المستفادِ مِنَ (الحروبِ القذرةِ) في الجزائرِ في تسعينيّاتِ القرنِ الماضي، والأرجنتينِ في سبعينيّاتِ وثمانينيّاتِ القرنِ الماضي. وباتَ المتظاهرونَ الأقباطُ هدفًا سهلًا لتصدّي الجنودِ والضّبّاط لهم. ففي أكتوبر عامَ ٢٠١١م، تصدّى الجيشُ لمسيرةٍ احتجاجيّةٍ للأقباطِ تُندّدُ بحرقِ كنيسةٍ. وسقطَ ٢٨ مسيحيًّا مِنَ الأقباطِ، فضلا عن إصابةِ ما يربو على ٢٠٠ آخرينَ، غير أنّ التّليفزيونَ الرّسميَّ أذاعَ مشهدًا لأحدِ الجنودِ المصريّينَ، وهوَ يصرخُ قائلا: (المسيحيّونَ – أولادُ الكلابِ – قتلونا). وخدمتْ عمليّاتُ التّخويفِ الممنهجةُ للمجموعاتِ الثّوريّةِ المعاديةِ للمجلسِ العسكريّ، وتصاعدُ العنفِ الّذي أعقبَ شهري نوفمبر وديسمبر نفسَ الغرضِ. لقد أصبحَ الإخوانُ المسلمونَ والإسلاميّونَ في أعقابِ انقلابِ يوليو ٢٠١٣م (فزّاعات) جديدة-قديمةً». ا. هـ .