سيكتب الكثيرون عن محرقة رابعة في ذكراها، وحُقَّ لهم أن يكتبوا، وما كل ما سيُكتب سيوفيها حقها، فأنى يستوى الحبر والدم؟! وما نفع الكلام في موطن الرصاص؟! ومتى تحيط العبارة بمنزلة شهيد؟! فكيف والشهداء آلاف، والدماء نضاخة، والظلم كثير!!
وفي ظل هذه الساحة الغزيرة الأحداث والمواقف اخترت أن أكتب عن واحد فقط: الأسير الحر الأبي: حسام أبو البخاري.
فقصة حسام عنوان لقصة جيل من الشباب الإسلامي الحر الذي ظُلم من الجميع، رغم أنه كان الأكثر بذلا ومغرما والأقل مكسبا ومغنما، ذلك هم الذين اصطلح على تسميتهم "الشباب الثوري الإسلامي".
وأما ظلمهم فقصة تطول جدا، ومختصرها:
1. أنهم أكثر من ظُلِموا قبل الثورة إذ لم يكن ينتبه لهم أحد إلا أجهزة الأمن التي أذاقتهم سوء العذاب ثم لم يكن الإعلام ولا منظمات حقوق الإنسان تعلم عنهم شيئا، وإن علمت فلا تهتم، وذلك أن بالها مشغول بالشباب الليبرالي واليساري.
2. ثم ظُلِموا حين نزلوا الثورة من أول لحظة وكانوا في طليعة فرسانها وقُدَّاح شرارتها لكنهم اتهموا بالغياب عنها وركوب موجتها إذ الإعلام قد فُتِح أيضا للشباب الليبرالي واليساري، الذي صار يرطن بأنهم كانوا يحرمون الخروج على الحاكم.. وكذبوا، فالإسلاميون أول من خرجوا وأكثر من ذاقوا عذاب الخروج على الحاكم وقت أن كان هؤلاء وأمثالهم لا يعلمون شيئا ولا يجاهدون نقيرا.
3. ثم ظُلِموا حين ظلوا في ساحة مقاومة العسكر التي غاب عنها شيوخ الإسلاميين وقيادات حركاتهم فاتُّهِموا من إخوانهم وشيوخهم بالنزق والتهور والاندفاع وسوء الأدب مع الكبير وعدم تقدير ذوي السابقة وبالتأثر بالمناهج اليسارية والليبرالية المنحرفة.
4. ثم ظُلِموا حين دافعوا عن خيار الشعب وإرادته ووقفوا خلف النظام الذي رأسه الدكتور مرسي رغم أن الإخوان لم يعيروا لهم اهتماما في أي مرحلة من الثورة بل خانوهم وغدروا بهم في أحيان كثيرة أبرزها في مذبحة العباسية.
5. ثم ظُلِموا حين وقع الانقلاب فخانهم "رفقاء" الميدان وحرضوا عليهم وشاركوا في قتلهم وتشويههم والشماتة فيهم.
فهم أخلص من ثار وأكثر من ظُلِم وأقل من انتفع بهذه الثورة في كل مراحلها.
ولئن كان شيوخ الحركة الإسلامية الثورية قليل، فلقد كان شباب الثورية الإسلامية كثير، ومثلما كان الشيخ البصير حازم أبو إسماعيل عنوانا على هؤلاء الشيوخ، فلقد كان حسام أبو البخاري عنوانا على هؤلاء الشباب! بما تميزا به من فصاحة وموهبة إعلامية وقدرة على البيان والجدل!
كان حسام قبل الثورة ثورة، تصيب سهامها دولة مبارك وكنيسة شنودة، فتطارده أجهزة أمنه فيحيا في القلق والحذر والخوف لا يصده ذلك عن دينه أو قضيته، وكان –ومعه رفيقه خالد حربي- ممن أقلقوا الكنيسة وأرقوا مضجعها حين حملا ملف مكافحة التنصير وإسلام المسلمات إلى الكنيسة في بلد خان أزهرها وصمت دعاتها.
فما إن جاءت الثورة إلا وكان حسام في مشاهدها جميعا، يعرف ذلك من كان ينزل إلى الميادين لا يجلس على تويتر، فلا يكاد مشهد منها إلا وحسام في قلبه، بما في ذلك مشهد محمد محمود الذي صار صنم الأغبياء الحمقى الجهلة أدعياء الثورية.
وكان حسام حساما على العسكر طوال الفترة الانتقالية، ولأجل هذا كان شديدا على الإخوان وسلفية حزب النور الذين مهدوا –بجهل وغباء، وخيانة أحيانا- لحكم العسكر، ثم حين فاز الرئيس مرسي وبدا للمغيبين أن العسكر قد رحلوا كانت حلقات حسام أبو البخاري على قناتي أمجاد ثم الندى لا همَّ لها إلا إيقاظ الناس وتنبيههم إلى أن العسكر لم يرحلوا وأنهم ما زالوا يحكمون، وأن معركة الثورة المصرية هي معركة نظام عالمي تجلس أمريكا على عرشه، وأمريكا لن تفرط في مصر والمعركة لم تنته.
وأخرج حسام وبجهده وحده مظاهرة نحو جهاز أمن الدولة حين ظهرت بادرة طفيفة لاحتمال عودة هذا الجهاز، وهو الأمر الذي رفضه كافة الفاعلين على الساحة –بما فيهم الإخوان الذين رفضوا وحرضوا على هذه المظاهرة- ولم يستجب له إلا الشباب الإسلامي الثوري.
ثم جاء الانقلاب فلم يكن خلافه مع الإخوان ذريعة له لكي يترك قضية الإسلام (نعم، فالانقلاب هو حرب على الإسلام لا على الإخوان)، وظل يصدح على منصة رابعة بما كان يصدح به في برنامجه من قبل، لكن كانت الآذان قد انفتحت والقلوب قد استيقظت فكانت كلمات حسام حينئذ تنزل في النفوس ذلك المنزل الذي طالما تمنى أن يدركه من قبل! من قبل أن تحدث الكارثة!
ثم كان يوم المحرقة العظمى والمذبحة الكبرى، يوم رابعة، وفيها أصيب الشاب النبيل الشهم الأبي برصاصة في فكِّه، ثُمَّ أُسِر وظل ساعات في هذا الأسر، حتى شاء الله فارتبكت صفوف الذئاب فكانت فرصة ليفلت من أسرهم بعض من أُسِر، ونُقِل إلى المستشفى.. ولذلك ظن كثيرون يومها أنه قد استشهد.
وحي نُقِل إلى المستشفى قَدَّر الله أن فيها واحدا ممن حولهم العسكر وإعلامه إلى شياطين في جثمان إنس، فأبلغ هذا "الطبيب" عن هذا المصاب، فجاءت ذئاب الشرطة تأخذه إلى الأسر الطويل، لتلفق له القضية بعد القضية بعد القضية.
لتكتمل بهذا قصة شاب حر هي عنوان على طائفة من الشباب لا نعرف كثيرا منهم، لا أسماءهم ولا أحوالهم ولا منازلهم الآن من النفي أو الأسر أو الشهادة أو المطاردة!
فأي الناس لهم بلاء في الثورة كهذا البلاء؟!!
وأيهم ظلمه الجميع كهذا الظلم؟!!
وأيهم كان مثل حسام وصحبه، بذلا في المغرم وعفة عند المغنم؟!!
صدق المتنبي إذ قال:
فلقد عُرِفتَ وما عُرِفتَ حقيقة .. ولقد جُهِلتَ وما جُهِلتَ خمولا