يستبطن كل حديث حول حركة الثورة العربية، محبطاً كان أو مستبشراً، مصر والحالة المصرية. في مصر، أدرك العرب أن الشرارة التي انطلقت في تونس، كانون الأول/ديسمبر 2010، لم تكن عابرة، وأن ثورة كبرى، تجتاح بلادهم، من محيطها إلى خليجها. وفي مصر، أكثر من أي بلد عربي آخر، أدرك العرب أن ثورتهم لم تحقق أهدافها بعد، وأن ما حسبوه تغييراً مصيراً، لم يكن سوى خدش صغير في صورة واقعهم، وأن مؤسسات الدولة المهيمنة لم تزل في موقعها، لم تغادره. وفي مصر، أدرك العرب أن الثورة المضادة لا تستند إلى موازين قوى وطنية وحسب، بل وإلى توازن إقليمي واسع النطاق أيضاً. وليس ثمة شك اليوم، وبعد مرور ما يقارب السنوات الأربع على اندلاع الثورة التونسية، أن حالة من اليأس والقنوط والحزن باتت تسيطر على ملايين العرب، بعد أن أجهضت الردة على حركة الثورة والتغيير الأحلام التي ولدتها الشهور الأولى من 2011، عندما بدا وكأن المجال العربي كله يشق طريقاً جديداً نحو المستقبل. وتبدو مصر اليوم وكأنها مصدر معظم هذا اليأس والقنوط والحزن.
وربما كان المصريون، والعرب جميعاً، على موعد خاص يوم السبت الماضي، للتعرف على حجم التراجع الهائل في مقدرات الثورة وحلم التغيير. ففي دقائق قليلة من زمان القاهرة، أعلن قاض مصري مغمور عما بدا كأنه شهادة الوفاة لثورة كانون ثاني/يناير 2011. أصدر القاضي قراره، بدون أن يهتز له جفن، بتبرئة الرئيس المصري حسني مبارك، الذي كان هدف الثورة الأول ومحط غضب الشعب، ووزير داخليته، وأركان وزارة الداخلية آنذاك، من دم شهداء الثورة. من إذن قام بقتل 850 من الشهداء، من واجه الحركة الشعبية بالرصاص الحي، من هاجم المعتصمين في ميدان التحرير بعصابات من الشبيحة المدفوعين، ومن أمر بوضع القناصة على أسقف المنازل لاصطياد النشطاء العزل؟ وجد بعض من المصريين أن من أضعف الإيمان استعادة هذه الأسئلة، بينما البعض الآخر لم ير في الحكم القضائي سوى فرصة أخرى لأن يرى أبناء شعبهم حقيقة ما حدث في 30/ 6 – 3/ 7، وأن قرارات قاضي محكمة القاهرة ليست سوى حلقة أخرى في الردة على ثورة يناير/ كانون ثاني وطموحاتها.
أطلق قرار تبرئة مبارك وأركان حكمه من المسؤولية عن قتل ضحايا الثورة، من التفريط بحقوق البلاد في صفقة الغاز مع الدولة العبرية، ومن الفساد المالي، حالة من الغضب الواسع، وأعاد آلاف الشبان إلى ميدان عبد المنعم رياض، اللصيق بميدان التحرير الشهير، للمرة الأولى منذ صيف 2013. ولعدد من الساعات، سمع العالم من جديد هتافات سقوط النظام وسقوط حكم العسكر. قد لا تكون هذه بداية رد المصريين على الردة على الثورة؛ فالشعوب لا تذهب إلى خيار الثورة إلا عندما يصل القهر مدى لا يمكن احتماله، وعندما تشعر أن أعباء الثورة، مهما بلغت، أقل كلفة من أعباء التعايش مع القهر. وربما من الجدير تذكر أن الثورات الأوروبية التي طالت العشرات من الدول والإمارات، وتعرضت للهزيمة على يد القوى الرجعية في 1848، لم تنهض للرد إلا بعد 12 عاماً أخرى. قد لا تكون هذه بداية جديدة للمصريين والعرب، ولكن هناك ما هو مؤكد، ما هو متيقن: أن ما انطلقت شرارته في تونس قبل أربعة أعوام لم يكن لحظة عابرة في تاريخ العرب، وأن العرب بدأوا من تلك اللحظة ردهم التاريخي على أعباء قرن ثقيل الوطأة على أرواحهم وحياتهم وموقعهم على مسرح التاريخ.
خلال هذا القرن، فرضت على العرب دول بالغة السيطرة والتحكم، قادتها أنظمة حكم أقلوية، اجتماعية أو سياسية أو طائفية، دفعت الدولة بعيداً عن مصالح الأغلبية الشعبية. ولتأبيد سيطرتها وتحكمها، عملت الأقليات الحاكمة على تماهي جهاز الدولة مع النظام الحاكم، وعلى مقايضة المصالح الوطنية بالدعم والتأييد الخارجيين، وعلى احتكار ما أمكن من مقدرات البلاد وثرواتها. وكلما اتسع نطاق الهوة بين الدولة وشعبها، تعاظم دور أجهزة القمع ومعدلات انتهاك حقوق الناس وحرماتهم. أغلب الدول العربية الحديثة أسست لخدمة مصالح المحتل الأجنبي، وخلت كلية من أية قوة دفع ديمقراطية أو حقوقية؛ وقد ظلت الدولة العربية وفية للمنطق الذي أسس لوجودها، حتى بعد أن تحولت مهمتها إلى خدمة الأقليات الحاكمة. ولم يكن ممكناً، في أي لحظة من سيرتها التي تكاد أن تبلغ القرن من الزمان، الوصول إلى مصالحة عقلانية بين الدولة والشعب، أو إلى إصلاح تدريجي، يفضي في النهاية إلى تحول سلمي نحو الديمقراطية والحرية والعدل. الحقيقة، أن الأمور ازدادت سوءاً مع مرور الزمان، وأن اغتراب الشعوب عن دولها وأنظمتها الحاكمة أصبح أكثر حدة وفداحة.
خلال هذا القرن، فرض على العرب نظام إقليمي غريب على ميراث المشرق وتاريخه وعلاقات جماعاته، نظام بالغ الضرر بمصالح أبنائه. أسس هذا النظام لكيانات ضعيفة اقتصادياً، متصارعة حدودياً، وهشة سياسياً، قسمت العشائر والأسر والجماعات، وولدت الشك والريبة بين الجار وجاره. ولأن أنظمة هذه الكيانات الحاكمة عاشت دائماً في ظل شبح فقدان الشرعية، فقد حرصت على تضخيم أدواتها القمعية وأجهزة السيطرة بالقوة والعنف. ولم يلبث النظام الإقليمي الجديد، الذي وضع بدون أدنى اعتبار للتعددية المشرقية الفريدة، إثنياً ومذهبياً وطائفياً، أن انفجر من داخله في سلسلة حروب داخلية وإقليمية لا نهاية لها. وخلال هذا القرن، زرع في وسط المجال العربي كيان أجنبي، دخيل، ارتكز بقاؤه إلى قوة السلاح والعدوان والتوسع. لم تعمل الدولة العبرية على تجريد الفلسطينيين من ممتلكاتهم وأرضهم ووطنهم، ولكنها دمرت المجتمع الفلسطيني كلية، وولدت مناخاً من الحرب الدائمة في الإقليم كله، لم تزل تهدد شعوب الإقليم وتجهض محاولاتهم للنهوض والتحرر.
طوال عقود، عملت الطبقات الحاكمة على خلق حالة من التعايش بين الشعوب والأمر الواقع، مرة بوعود الاستقلال الوطني، ومرة بوعود التنمية، وأخرى بضرورات مواجهة العدو الإسرائيلي. ولكن التعايش مع الأمر الواقع لم يزد أزمات العرب إلا تفاقماً. ثمة إخفاق تاريخي، لم يعد من الممكن تجاهله في كافة مجالات الحياة العربية: إخفاق الدولة العربية الحديثة وعجزها عن القيام بأدنى مهمات الدولة، وتحولها إلى جهاز قمع هائل، لا يحصي على الناس أنفاسهم وحسب، بل ويمارس قتلهم بالألاف وتقويض مصادر معاشهم بصورة لم يعرفها تاريخ العلاقة بين الدولة وشعبها؛ وإخفاق للنظام الإقليمي كله في صناعة الاستقرار، وتعزيز العلاقات بين الشعوب، وتأسيس السلم الأهلي في دوله المختلفة، بحيث باتت كيانات ما بعد الحرب الأولى الهزيلة مهددة بمزيد من التقسيم والتجزئة، وتحولت حدود الدول من رمز للسيادة إلى أسوار لسجون متجاورة؛ وإخفاق مطرد في المواجهة مع العدو الإسرائيلي، أضاع المزيد من الأراضي والحقوق، وانتهى إلى تخلي الدولة العربية حتى عن إعطاء المواجهة صفتها الحقيقية، باعتبارها صراعاً عربياً – إسرائيلياً.
هذه هي اليقينات الثلاثة التي يعيشها العرب اليوم، بعد مائة عام على ولادة دولهم الحديثة، نظامهم الإقليمي، واندلاع الصراع مع المشروع الصهيوني. وهي يقينات تاريخية، لم يعد من الممكن تبريرها، أو إخفاؤها، أو الاعتذار لها. لم تندلع حركة الثورة العربية لمجرد تفاقم فساد مبارك وبن علي، أو احتكار الأسد وأسرته لقرار سورية وثرواتها، أو تزييف عبدالله صالح للانتخابات. اندلعت حركة الثورة لأن الدولة العربية الحديثة، النظام الإقليمي المشرقي، ومسيرة المواجهة العربي للدولة العبرية والمشروع الصهيوني، وصلت جميعاً إلى نهاياتها المنطقية. ومن الوهم تصور أن تنجح ردة هنا على الثورة، أو إجراء مثل تبرئة مبارك، في إيقاف حركة الثورة أو محاصرة موجاتها المتلاحقة. ما قد ينجح فيه المرتدون هو أن يجعلوا عملية التغيير أكثر كلفة، وأشد عنفاً.