في مداخلة أجرتها معي قناة فضائية وأنا على الهواء في برنامج مكملين النهاردة، كان سؤال الزميل لي من أين لكم هذا، أخبرته ضاحكًا تسريب مكتب السيسي تنزّل علينا من السماء.
تسعة وعشرون دقيقة هي عمر تسريب مكتب السيسي، وتسعة وعشرون عامًا هي عمر أسامة جاويش من قدم للعالم هذا التسريب، فكل دقيقة فيه توازي عاما كاملًا من حياتي المتقلبة كتقلبات الأحداث في هذا التسريب.
كعادتنا دائمًا نطرح آلاف الاسئلة في آن واحد، فمن سرب ؟ ومن سجل ؟ ولماذا مكملين ؟ وهل كانت قناة أخرى ؟ وما المصدر ؟ وما علاقتكم بالمخابرات ؟ ومن أوصل لكم هذا المقطع ؟ هل هناك تسريبات أخرى ؟؟ ما هو موعدها ؟؟ هل هتذيعها مكملين أيضًا؟ هل سيقدمها أسامة جاويش ؟؟ لماذا لا ترد علينا ؟؟ النهاردة فيه تسريب ؟؟
الإجابة على هذه الأسئلة بعيدة عن الردود المنطقية والتي تتحدث عن أن الإعلامي والصحفي لا يكشف عن مصادره، إلا أن مجرد الخوض في نقاشات وإجابات يكفي لنسف محتوى التسريب نسفًا، والعودة اإلى المربع ما وراء الصفر مرة أخرى.
يا سادة تسريب مكتب السيسي غيّر من عناصر المعادلة وجعل الفاعل مفعولًا به لأول مرة منذ عقود طويلة، ارتباك في رد الفعل، السيسي يخرج في مداخلة هاتفية تافهه مع أسامة كمال، ثم يموت مبارك للمرة السابعة ليحيى من جديد، ثم محاولة للعودة إلى الإلهاء الرياضي مرة أخرى بفوز الأهلي بالكونفيدرالية، تعتيم إعلامي في بداية الأمر ثم تبرير ونفي ثم هجوم شديد، وأخيرًا مطالبة بصناعة فيلم عن أحداث الاتحادية ولكن بصوت أنور السادات أو أنور وجدي كي نثبت لهم أن الفيديو مفبرك.
أنباء عن إقالة أحمد علي – أحد رجالات السيسي المقربين – وعن تحقيقات تتم في بعض المواقع القيادية للقوات المسلحه المصرية بحثًا عن صاحب التسريب.
رد الفعل الغربي أيضًا في الصحافة العالمية كان لافتًا للنظر؛ فالواشنطن بوست والديلي تليجراف والجارديان أفردت مساحات لتحليل ما حدث، أيضًا الميدل إيست مونيتور أفرد تقريرًا مطولًا عن تسريب مكتب السياسي.
على مواقع التواصل الاجتماعي لا يزال هاشتاج تسريب مكتب السيسي يتصدر المشهد على تويتر وفيس بوك، ولأول مرة يجتمع الجميع من تيارات وقوى وحركات وجماعات مختلفة سياسيًا وأيديولوجيًا على هذا الهاشتاج.
قانونيًا أتاح تسريب مكتب السيسي للفريق القانوني الدولي للدكتور محمد مرسي أن يتقدم بدعوة للجنائية الدولية والأمم المتحدة متضمنًا مقاطع من هذا التسريب، بعد طلب عرضه على لجنة محايدة للتأكد من صحته، وداخليًا طالب مرسي بجلسة سرية للحديث حول أمور تخص الأمن القومي تتعلق بفترة احتجازه ما بعد الثالث من يوليو.
ميدانيًا تلاشت بنسبة كبيرة شحنة الإحباط التي سيطرت على الكثيرين بأن هؤلاء القادة ومن ورائهم ينجزون ما يريدون في الوقت الذي يتراءى لهم، ولكن تبيان ضعف واهتراء واهتزاز قيادات العسكر في مصر في تسريب مكتب "السيسي" جعل الأمر أشبه بما أطلقت عليه أنا تكسير الاصنام.
تسريب له ما بعده، تبعاته أعرفها جيدًا ولا أعبأ بها كثيرًا؛ فالله خير حافظًا وهو أرحم الراحمين، ولكنه تسريب سرب ما في نفوس البعض في معسكر طالما عارض الانقلاب العسكري من روح انهزامية، وعشق للجلوس في مربع رد الفعل، كي تتلقى الضربات تلو الأخرى، وتخرج لتحدث الناس عن كربلائياتك المفجعة.
هذا الصنف الأخير يحتاج إلى ربع تسريبات مشكل يتناوله يوميًا بانتظام لمدة لا تقل عن عام، حتى يستطيع استيعاب أنه بشر له قدرات، وأن الفرص لا تأتي إلا مرة واحدة، فإما أن تبادر وتحسن استثمارها، وإما أن تظل عامًا آخر تتناول يوميًا بانتظام ربع تسريبات مشكل.