ربما لم يسبق لحركة تحرر وطني أن احتفل شهداؤها بذكرى انطلاقتها، بيد أن احتفال شهداء حماس بذكرى انطلاقتها لم يكن ادعاء غيبيًا، بل كان حقيقة مادية تسربت من سيرفرات العدو حاملة معها الكثير من الدروس.
ويحق لحماس أن تفتخر بشهدائها الأربعة، لكن محمد أبو دية، وخالد الحلو، وحسن الهندي، وبشار أحمد؛ وبالقدر الذي كشفوا فيه عن سرّ تميز هذه الحركة، فإنهم ألقوا أمامها حجتهم الثقيلة، بعد أن كشفوا عن حماس الأصيلة والوفية والتي لا يمكن تعريفها على النحو الصحيح والكامل إلا بمثل التعريف الذي قدمته الصور القليلة التي تسرّبت عن اشتباك الشهداء مع دبّابة العدو في زيكيم بعد أن قطعوا إليها البحر غوصًا.
وكان من قدر حماس أن تسرّبت صور أخرى لمقاتلي جناحها العسكري في عملية أبو مطيبق والتي كانت عملية إنزال خلف خطوط العدو، بحسب اللغة التي روّجتها قيادة معركة العصف المأكول؛ وإذا بالمقاتل الذي ينتظر كالذي قضى نحبه، وإذا بالذي ينتظر يملك القدرة الكاملة أيضًا على تقديم التعريف الصحيح لحماس، كما أنه، أي ذلك المقاتل الذي أدى مهمته ثم عاد إلى قواعده كأخيه الذي أدى مهمته واستشهد داخل قواعد العدو؛ يقدم التصوير الدقيق لحقيقة المعركة، ففي الطرف الفلسطيني الذي مثله مقاتلو القسام، شهداء وأحياء، نجد الثبات والطمأنينة والسكينة والشجاعة بأدوات قتالية شديدة البساطة ودراسة عسكرية شديدة التواضع ولكنها شديدة الفاعلية، في مقابل التكنلوجيا الأكثر تقدمًا وقوة النيران الأكبر حجمًا، ما يكشف عن إيمان عميق بعدالة القضية وصحّة المسار، وإنتاج معرفي عسكري إبداعي من صميم التجربة والممارسة.
وأما في الطرف الصهيوني؛ فنجد الاضطراب والفوضى والصراخ والجبن، رغم القدرة العالية على المراقبة، وامتلاك أدوات الحرب الأكثر فتكًا ودقة وقدرة، وامتلاك الظروف التي من شأنها أن تخلق المقاتل الأكثر مراسًا والأفضل أداء، وهو ما يكشف أيضًا عن انهيار حقيقي للأيديولوجيا الصهيونية المتجسدة في جيش العدو.
وقد اختارت حماس أن تحتفل بذكرى انطلاقتها بما يشبه مقاتليها الشهداء والأحياء، فجعلت احتفالها عرضًا عسكريًا، أطلقت فيه طائرة بدون طيار من طراز (أبابيل) خاصتها، والتي صنعتها داخل قطاع غزة، لتحمل هذه الطائرة في أجوائها أيضًا الدروس المستفادة عن المقاتل الذي ينتظر في ورشته أو مختبره، ولا يدري به أحد، ودون أن يفكر هو إن كان يدري به أحد.
هل هؤلاء الشباب من طينة أخرى؟ كلا.. إنهم مثلنا تمامًا، خرجوا من مجتمعنا بكل حسناته وعيوبه، وبكل نقائصه وكمالاته، يحملون معهم رواسب هذا المجتمع وطبيعتهم البشرية بقوتها وضعفها، إلا أن الحركة التي استمرت ثابتة على خطّها، وفية لموكب شهدائها وشهداء شعبها، وميراث أمتها وشعبها في الجهاد والمقاومة، وأمينة على التضحيات التي قدمها آلاف الجنود المجهولين من أبنائها ممن لم يطلبوا مكافأة ولم يتزاحموا على مقاعد القيادة ومنابر الشهرة؛ تمكنت بفضل هذا المركّب الفريد من الإيمان، والإرادة، والعمل، والأمانة على ميراث الحركة والشعب والأمة، أن تحول هذا الشاب إلى هذا النمط الصالح للدلالة على روح الأمة، وروح الشعب، وروح حماس.
إن الذين آمنوا بعماد عقل، وياسر الحسنات، وياسر النمروطي، ويحيى عياش، وجهاد غلمة، وطاهر قفيشة، وغيرهم من الشهداء الأوائل؛ كانوا يلحظون أرواح الشهداء يستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم بعد من مقاتلي معارك الشجاعية والتفاح وبيت حانون، وهم اليوم يشاهدوهم عيانًا في صور شهداء زيكيم ومقاتلي أبو مطيبق، ويمكنهم القول أن أنهار الدماء وجبال التضحيات التي صنعت حماس، قد حافظت عليها هذه الحركة حتى أخرجت لشعبها هذا الصنف من البشر، العادي جدًا، والأسطوري جدًا، ولكنه الحقيقي جدًا.
في "جردة الحساب" التي تفتح لحماس، في كل ذكرى انطلاقة، وحين كل استحقاق انتخابي، وعند كل أزمة، ينبغي أن يسجّل لها هذا الإنجاز الذي تحققت فيه حركة مقاومة، وصنعت به مجتمعًا مقاومًا، وقدمت به دون صخب ولا ادعاء فجّ، نموذجها الثوري الخاص، والقتالي الخاص، ونظريتها الثورية التي اتضحت بالممارسة المفتوحة والمستمرة، حتى أثبتت جدارتها وصدقيتها في حرب العصف المأكول، ثم أكّدت على النماذج الجهادية التي قدمتها بصور معارك زيكيم ومقاتلي أبو مطيبق.
هؤلاء الذين يحملون روح حماس، المتقدمون إلى مهمتهم في تجرد خالص، والذين استمر بهم ميراث الجهاد والشهادة والتضحيات الطويل، هم المعيار الدالّ على صحة المسار، والضابط لنقاش النقد والمراجعات، لأنهم الاستمرار الطبيعيّ الوحيد لخط الشهداء وللآلاف ممن طووا على تضحياتهم وأوجاعهم ولا يدري بهم أحد إيمانًا منهم بمشروعهم ومحبة لهذه الحركة التي عرفوا معنى وجودهم من خلالها.
فإن المهمة التنظيمية الثابتة لحركة صنعها الشهداء، وأعادت بدورها تصنيع الشهداء، هو الحفاظ على هذا الخط، والتنبه الدائم للمعدن الثمين الذي يكتنز روحها وأصالتها ووفاءها، وإن أي سلوك لا ينمّ عن التقدير الصحيح والكامل لهذا المعدن وللآلاف من الجنود المجهولين، وأي سلوك ينمّ عن نزعة امتلاك للحركة واستئثار بها، ولا يأخذ بعين الاعتبار الفاعلين الأهم والأثمن في هذه الحركة، ومن شأنه أن يهدر دماءهم وتضحياتهم؛ هو الذي يستدعي التحذير والنقد والتنبيه بكل الوسائل الممكنة