ليست كالعزلة الممتعة لجابريل جارسيا ماركيز في رائعته "مائة عام من العزلة"؛ ولكنها مئتا عام من الانعزال والانفصال الكامل عن هذه الأرض وهذا الوطن، انفصال عن الشعب لصالح السلطة بأشكالها من الاحتلال المباشر إلى الاحتلال بالوكالة؛ السلطة التي لم يملكها الشعب يوما، وانفصال عن الهوية لصالح مشاريع أخرى لأناس آخرين.
كان فقط ذلك الرداء الكاكي –أو أي لون كان- هو بوابة العبور من كونك مصريا لتصبح عسكريا ضابطا كنت أو غير ذلك؛ رداء يحملك من عبودية الفقر التي ينتجها عسكر مصر إلى عبودية الخيانة؛ إنها محطات يصعب حصرها؛ ربما نجد يوما من يجمعها في مجلدات من القطع الكبير يعْبُر معنا وبنا قرنين من الزمان منذ أن قام الفرنسي جوزيف أنتيلمي المعروف بسليمان باشا بإنشاء نواة جيش محمد علي.
وبمناسبة خيانة جديدة في 22 آذار/ مارس 2015 في فضيحة السد الأثيوبي؛ سنعرض حالة واحدة من طوفان الخيانة الذي أفاض على مصر وعلى الأمة بأسرها؛ إنها فضيحة "التجريدة المصرية" والحرب العالمية الأولى.
هناك الكثير من المحطات التي يجب التوقف عندها عبر ما يقرب من مائة عام منذ إنشاء جيش محمد علي في عشرينات القرن التاسع عشر حتى الحرب العالمية الأولى ربما نستعرضها لاحقا، كان الجيش المصري مسخرا لخدمة الإنجليز في صراعهم مع الخلافة العثمانية واستخدمت ما تسمى القوات المصرية والشعب المصري كله في هذا الأمر؛ ولنتذكر أن مصر كانت محتلة من الإنجليز في ذلك الوقت والمنطقي أن يعمل جيش الوطن ضد مصالح محتليه؛ ولكن هذا إن كان جيش الوطن حقا؛ مصر لم تكن تحت سيطرة الخلافة العثمانية في تلك الفترة ولكنها لسبب يبدو للوهلة الأولى مجهول ساعد عسكر مصر وطبقتها الحاكمة إنجلترا ضد العثمانيين.
مليون ومائتا ألف مصري من إجمالي 12 مليونا، أي عشر سكان مصر اشتركوا في معارك الحرب لمساندة الإنجليز؛ مائة ألف مصري في التجريدة المصرية تم اصطيادهم من قرى مصر بمعرفة سلطة الخونة لاحتلال فلسطين ودخول القدس من الجنرال اللنبي قائد التجريدة بصحبة "المقاتلين المصريين" بعد معركة غزة الثالثة؛ هذا بعد أن استطاعت القوات العثمانية الانتصار في معركتي غزة الأولى والثانية.
أعلن من القدس الجنرال اللنبي انتصاره على العثمانيين بأيدي مصرية؛ ومعلنا دخوله القدس بعد مئات الأعوام من هزيمتهم أمام صلاح الدين الذي يهان الآن من عسكر مصر و حاشيته؛ دخل اللنبي القدس بمساعدة العرب أنفسهم؛ وكان اللنبي على الجانب الآخر يدعم لورانس العرب "توماسإدواردلورنس" لضرب العثمانيين في نقاط أخري داخل الجزيرة العربية.
نعود لتجريدتنا المصرية و يفرض سؤال نفسه؛ في أي إطار وبأي منطق يمكن تفسير ذلك الأمر؟ لماذا تشاهد بكثافة أسماء من حلب وبغداد ودمشق وغزة ويافا والبوسنة على شواهد عشرات الآلاف لقبور شهداء معارك الدفاع عن الخلافة العثمانية وربما لا تجد مصريا واحدا؟
إنها أسئلة تحمل إجابات بطعم الخيانة الطويلة التي لابد أن نراها ونواجه تلك الحقيقة المؤلمة؛ الحقيقة التي حاول الكثير تجاهلها واستيقظ على طلقات الرصاص منذ 3 تموز/ يوليو 2013 حتى الآن؛ الحقيقة التي ما زال البعض ينكرها ويحاول الهروب منها؛ الحقيقة أن "الجيش المصري تكون منذ نشأته ليكون أداة في يد الحاكم وحده والذي هو أداة في يد قوة خارجية تفعل به ماتشاء وهو جزء رئيسي من المشروع الغربي لضرب أي احتمال لارتقاء مصر أو أي مكان في محيطها بل وهو كان ولا يزال إحدى أدوات الصهيونية العالمية.
عند وضع المقدمات السابقة لا نجد أي تناقض ونستطيع الاجابة على الأسئلة ببساطة شديدة؛ فكيف يدافع هذا الجيش عما أُنْشِئ لهدمه؛ وتفسر هذه المقدمات لم لا نرى أسماء المصريين على شواهد القبور العثمانية ولم حارب "الجيش المصري" في صف الإنجليز ولم ضاعت القدس على يدي جنوده؛ ولولا المئات ممن تمردوا على الجنرال اللنبي من المائة ألف مصري لما استطعنا أن نرفع رؤوسنا أبدا.
إن العار الذي يلاحق هذه الطبقة الحاكمة التي أودت بحياة مئات الآلاف من المصريين لخدمة المستعمر الانجليزي وشاركت في تدمير الخلافة العثمانية وضياع فلسطين لا يجب أن يظل هكذا محفوظا في أدراج الخجل وخزائن مصطلحات الأمن القومي؛ إن الوعي بالحقائق هو الأمن القومي الحقيقي؛ ومعرفة الحقيقة ربما كانت تحمينا من استنشاق رائحة الجثث المحترقة في 14 آب/ أغسطس ولملمة أشلاء أهلنا الذين يفجرهم العسكر في مشهد شبه يومي؛ وكانت ستحمينا من الخيانة الكبرى الثانية التي قام بها العسكر وأضاع بها شريان حياة مصر.
إن وطنا بلا جيش أفضل كثيرا من وطن يحتله جيش بوجوه تشبهك ولكن بعقول لا تحمل لك إلا كل احتقار، وطن بلا جيش أفضل كثيرا من طبقة فاسدة مسلحة تقتات على دمائك وتحرق جثتك وتستمتع بتعذيبك وقهرك، وتشهد بور سعيد والسويس أن من يدافع عن مصر دائما شعبها وأن من يفر وينهزم دائما هو ما يسمى جيشها. ولنا في المئتي عام من العزلة أحاديث أخرى.
عدد سكان مصر سنة 1917= 12,718,000
لقد انهزمت القوات المجتمعة من الدولة العثمانية والإمبراطورية الألمانية في معركة رمانة (3- 5 آب/ أغسطس 1916) وفوز كتيبة المشاة البريطانية رقم 52 وكتيبة فرسان الجيش الأسترالي والنيوزيلندي.
بعد هذا الانتصار تقدمت قوة التجريدة المصرية للإمبراطورية البريطانية إلى سيناء دافعة الجيش العثماني إلى معركة مغضبة (23 كانون الأول/ ديسمبر 1916) ومعركة رفح (9 كانون الثاني/ يناير 1917) على الحدود بين سيناء المصرية وفلسطين العثمانية.
سنة 1917م وأثناء الحرب العالمية الأولى قاد الجنرال البريطاني (أدموند اللنبي) ما يسمى (التجريدة المصرية) والمكونة من مليون جندي مصري تحت إمرة ضباط إنجليز، قادها في معركة غزة الثالثة، بعد أن فشل سلفه الجنرال (أرشيبولد ماري) في احتلال غزة مرتين، وتمكن أللنبي من مفاجأة الحامية التركية في غزة والتي استبسلت استبسالا بطوليا، وقام بعملية التفاف عليها من بئر السبع، واحتل غزة بعد أن دمرت.