في لقائه الأخير مع الفضائية الإخبارية السورية، وجد حسن نصر الله نفسه مضطرًا لإعادة تقديم أطراف اتفاق النووي الأولي الذي أبرمته إيران مع القوى الاستعمارية، بالقول أن هذا الاتفاق عقد مع المجتمع الدولي، لا مع “الشيطان الأكبر”، قائلاً بالحرف: “الآن يأتى البعض ليقول الشيطان الأكبر وإيران تحبونها وهي وقعت اتفاقًا مع الشيطان الأكبر، على مهلك هي أجرت اتفاقًا مع المجتمع الدولي، خمسة زائد واحد، وغدًا يوجد مجلس أمن وأمم متحدة.”
يبدو حسن نصر الله هنا مسكونًا بروح المناكفة التي اعتادها ولكن من موقع الدفاع هذه المرة، كما يبدو أسيرًا لدعاية المحور الإيراني التي تجعل إيران، وكل أذيالها وتوابعها وملحقاتها ومحازبيها في الموقع المقابل لـ “الشيطان الأكبر”، بالرغم من أن إيران، وبعض أذيالها وتوابعها، لم تمارس فقط الاتفاق الضمني مع “الشيطان الأكبر”، ولكنها قدمت العروض العلنية للتعاون فيما يخص العراق وأفغانستان، بينما اشترك نظام حافظ الأسد في الحرب على العراق في العام ١٩٩١ مصطفًا خلف أمريكا وإلى جانب دول الخليج، وبالتأكيد لم يكن التعاون الحاصل في الحرب الأخيرة على تكريت في العراق هو الأول، كما لن يكون الأخير.
من نافلة القول، أن العلاقات بين البشر شديدة التداخل والتعقيد، وأن التدافع بينهم قد يأخذ شكل الصدام العنيف، وقد يأخذ شكل التعاون في مكان والتصادم في مكان آخر، كما قد يأخذ شكل الاتفاق والحوار والمفاوضات، دون أن يعني ذلك كله أن الصدام يتم بالضرورة على أرضية العداء الأزلي والسرمدي، ودون أن يعني أن التعاون يتم بالضرورة على أرضية التماهي أو التبعية، وبالتالي ومن حيث الأصل فلا ضرورة لمحاولة نصر الله التأكيد على أن الاتفاق كان مع المجتمع الدولي لا مع “الشيطان الأكبر”.
محاولات انسجام نصر الله مع الدعاية التي يبتز بها محازبو المحور الإيراني خصومهم، توقع في تناقضات لا تقل حرجًا عن التناقض الفعلي الذي يقع فيه المحور الإيراني أو بعض عناصره ما بين شعاراته وممارساته، فالخطابات نفسها تتعارض بحسب اتجاه الأحداث والتحول في السياسات الإيرانية حتى لو لم تتحول الأطراف الأخرى، فـ “الشيطان الأكبر” هو نفسه “الشيطان الأكبر”، والمجتمع الدولي الذي لا حرج في الاتفاق معه الآن، هو نفسه المجتمع الدولي الذي قال عنه حسن نصر الله في خطاب سابق له في العام ٢٠٠٥ بأنه “لا يريد مصلحة الفلسطينيين ولا اللبنانيين ولا العرب ولا هذه المنطقة”، وبأنه “يبذل كل جهده ليحقق مصالح أمريكا وإسرائيل فقط وفقط وفقط.”، وهذا يعني أن الاتفاق مع المجتمع الدولي هو اتفاق مع “الشيطان الأكبر”، والمحور الإيراني الذي اهتم في قنواته التلفزيونية بنقل خطاب الرئيس الأمريكي بخصوص الاتفاق، تعامل على هذا الأساس، فلماذا يغالط نصر الله في هذا اللقاء؟!
ابتداء يقوم حسن نصر الله بدوره الطبيعي كعنصر داخل المشروع الإيراني الكبير المختلف عليه، وذلك بإعادة توظيف المقاومة المتفق عليها في خدمة ذلك المشروع، ورغم الخلاف الجوهري مع نصر الله في هذه النقطة، فإن اتضاحها على النحو القائم منذ سنوات، يدعونا لتجاوزها، والكف عن سؤال: “لماذا يبدو نصر الله دائمًا بوقًا للسياسات الإيرانية؟”، للسؤال عن سبب تناقض نصر الله في خطاباته، حتى ما بين الخطابين المتواليين، وحتى في الخطاب الواحد، وعلى نحو تضيق هذه المساحة المتاحة عن إمكان عرضه ومناقشته، وإن كان يمكن ضرب بعض الأمثلة.
تحدث نصر الله في الخطاب الذي ألقاه في “عيد المقاومة والتحرير” في العام ٢٠١٣؛ عن تدخل حزبه في البوسنة، قاصدًا بهذا الاستدلال نفي الصبغة الطائفية عن دوافعه وسياساته، إلا أنه وفي نفس الخطاب ولتبرير تدخله في سوريا، وضع معيارًا يحدد سياسات الحزب تجاه الأحداث في حال تنازعها طرفان أحدهما أمريكا، بحيث لا يمكن لحزب الله، وبحسب تعبير نصر الله “أن يكون في جبهة فيها أميركا أو فيها اسرائيل أو فيها نابشو قبور وشاقّو صدور وقاطعو رؤوس… حزب الله لا يستطيع إلا أن يكون في الطرف الآخر، في الجبهة الأخرى، وفي الموقع الآخر.”
في هذا المثل يتناقض نصر الله في نفس الخطاب، كما يناقض في سياساته الفعلية بعض مفردات هذا الخطاب، فلم يكن التدخل الأمريكي في البوسنة، ووجود “تكفيريين” يقاتلون ضد الصرب مانعًا من ملاحظة مظلومية الشعب البوسني إلى حد مناصرته بالسلاح، وبما يتعارض مع معيار نصر الله الحدي والقاطع والذي ينفي فيه طبيعة الظاهرة السياسية من حيث تشابكها وتعقيدها، إلا أنه يعود ويفعّل هذا المعيار في الحالة السورية، بحجة اندراج الثورة السورية داخل محور أمريكي يتوسل بالتكفيريين، الذين تدرج خطاب نصر الله تجاههم ابتداء من تنبيههم إلى أن أمريكا تريد ضرب أعدائها ببعضهم، أي ضرب المحور الإيراني بالقاعدة، مرورًا باتخاذهم ذريعة للتدخل في سورية نظرًا لطبيعتهم التكفيرية التي تهدد لبنان بكل مكوناته، وصولاً إلى اتهامهم بالعمالة و”اللحدية”!
هذا المعيار، أي الوقوف المبدئي والدائم في الطرف الآخر المقابل لأمريكا، لم يعمل مع نصر الله في الحالة العراقية، حينما عاد حلفاؤه وأتباع إيران على الدبابة الأمريكية، ولم يعمل في الحالة الليبية التي صار لها معيار خاص وهو اختفاء موسى الصدر، ولم يعمل مع الحالة المصرية في انقلاب عبد الفتاح السيسي الأكثر أذى وحصارًا للمقاومة في غزة والمدعوم والممول خليجيًا ولكنه حظي بالدعاية المفتوحة من منابر المحور الإيراني، بما في ذلك قناة المنار، وبقي الاحتفاء به قائمًا إلى حين مشاركته في الحرب على الحوثيين، ليتضح لنا أن المقاومة لم تكن في غزة ولكنها في اليمن!
وقع نصر الله، حينما نفى أن يكون الاتفاق قد وُقّع مع “الشيطان الأكبر”، في مقاربة ركيكة، كرست ما أراد نفيه، أي أنه تصرف وكأن الاتفاق مع أمريكا تهمة بالفعل، وهي ليست كذلك بالضرورة إلا حسب دلالاتها ومضامينها. ربما يأتي هذا الارتباك نتيجة التناقض ين الصورة المقدمة عن إيران والشعارات المتعلقة بها وبين الممارسات على الأرض المحكومة إلى ضرورات الواقع ومتطلبات المصلحة، في وقت يقدم فيه الإعلام الإيراني، بما في ذلك إعلام حزب الله، الحرب على الحوثيين بأنها حرب أمريكا وإسرائيل على اليمن، ومن هنا يبدو نصر الله مرتبكًا ما بين حرب أمريكا الافتراضية على اليمن وبين اتفاق أمريكا مع إيران!
يحق لنصر الله أن يرفع الشعارات التي يريد، وأن يقدم الخطاب الذي يشاء، وأن يوظف ذلك كله في إطار المشروع السياسي الذي يخدمه، لكن المشكلة ليست في مصداقية انبثاق الممارسة عن الشعار، وإنما في استخدام الشعار للمزاودة على الخصوم والمخالفين، ومن هنا تحديدًا تأتي أهمية كشف التناقض الداخلي في خطابهم، والتناقض ما بين الخطاب والممارسة، ومحاكمتهم إلى خطابهم وشعاراتهم، وهي ممارسة نقدية منصفة وتخلو من أي قدر من المزاودة، فأنت هنا لا تزلمهم بما تريد بل تلزمهم بما يدعونه، وهذه هي ذروة الإنصاف.