رحم الله العميد طارق الجوهري، مسؤول حراسة مسكن الرئيس محمد مرسي، مر بنا كالطيف، صادقاً، كان، فيما يروي، بغير ادّعاء أو ضجيج، أذكر أني اختلفت معه أكثر من مرة في حوارات على الهواء مباشرة، لكنه لم يفقد ابتسامته الراضية، ولم أفقد احترامي له، وتقديري تقبّله الاختلاف.
كان لدى طارق الجوهري ما يقول، لأنه كان في قلب الأحداث، ربما تختلف مع استنتاجاته، لكنك لا تستطيع أن تشكك في ما يحكي، ولا تساورك أية هواجس سلبية بشأن دوافعه للقول والشهادة على فترة، كان حاضراً تفاصيلها، عن كثب.
عرفته عفّ اللسان، عفيف النفس، يعارض ويقاوم بالمعلومة، لا بالإفيهات الرقيعة، كما تفعل طحالب تكدّست على ضفتي “دعم الشرعية” فجأة، وتكاثرت كالفطر، وابتذلت المشهد كله، وراحت تتقافز هنا وهناك، بخطاب منفّر، نجح بامتياز في تضييق دائرة مقاومة الانقلاب العسكري، حتى كادت تغلق على مجموعة تكلّم نفسها، طوال الوقت، وتقطع الطريق على كل محاولة جادة لإعادة الأمور إلى نصابها الصحيح، بعد عامين، إلا قليلاً، من “الهري” والسفسطة والكلام الفارغ، إلا من عصم ربك من هذه الحالة الاستعراضية الركيكة.
كان الإنجاز الأكبر لمؤسسة الانقلاب أنها نجحت في فرض أسلوبها في اللعب على من يفترض أنهم خصومها، سواء كانوا خصوماً حقيقيين، أم كائنات مستحدثة. وفي وقت سابق، ومبكراً جداً، قلت إن هذا ما تريده، وتسعى إليه تلك السلطة الموغلة في بذاءة الفعل ورداءة الأداء، لكي تنقل المعركة من مقاومة جريمة سياسيةٍ وحضاريةٍ في حق مصر وثورتها، إلى مطاردة درامية أو سباق مثير في مضمار النكتة والقفشة و”الإيفيه”، وهذا من شأنه أن يبتذل المعركة على نحو يتيح للقتلة وسافكي الدماء أن يظهروا في وضع الضحية المشتوم الذي يتعرّض للسخرية والاستهزاء.
والأخطر من ذلك هو نقل المعركة من الحاضر إلى الماضي، وبدلاً من أن يكون الجهد كلّه منصبّاً على رداءة واقع لا يليق بمصر، تصوّب المدافع نحو التاريخ، بكل ما فيه، من لحظات مضيئة، وفترات معتمة، فتنزلق أصوات محسوبة على المعارضة إلى إهالة التراب على الماضي كله، بحجة أن صنّاع رداءة الحاضر هم الامتداد لمن سلفوا.
يثير الأسى والقرف، هنا، أن بعضهم، ممّن لا يعرف أحد متى جاؤوا ولماذا، يظهرون، طوال الوقت، ممسكين بعبوات ضخمة من “البوية السوداء” لطمس كل بقعة ضوء مرّت بمصر. ففي سياق معارضة “حكم العسكر”، تُهان “العسكرية المصرية” وتُرمى حرب أكتوبر بكميات لا حصر لها من الملوثات المعلوماتية، وكأنه لا توجد بيوت مصرية لا تزال حوائطها تحتفظ بصور شهداء حقيقيين، في معركة حقيقية ومحترمة، وكأنه لم يكن هناك محاربون وقادة صادقون في حبهم الأرض.
ولا يتوقف هذا “الحمق” الذي يتوهّم أنه يتحدث باسم الثورة، عند معاداة التاريخ، واحتقار الذاكرة الوطنية، بل يمتد إلى إلقاء الحجارة على كل ما أضاء، وترك أثراً في الوجدان المصري، ليصل الأمر إلى إطلاق الرصاص على أم كلثوم وعبد الحليم حافظ وتاريخ حقيقي من الثقافة والفن، صحيح أنه ازدهر في فترة غابت فيها الحريات، لكن هذا لا يعني أن كراهيتك من حكموا عصراً، أن تشعل النار في ذلك العصر كله، بثقافته وفنونه، وتضحيات جنوده، وإبداعات بسطائه، وإلا ما الفرق بينك وبين تلك المديرة الجهول التي أحرقت كتباً دراسية قيّمة أمام الكاميرات، بحجة أن مؤلفيها “إخوان”.
كان التحرر من استعمار بريطاني حلماً وطنياً، داعب جميع المصريين، بإخوانهم وشيوعييهم وقومييهم وليبرالييهم، وكونه تحقق على يد مجموعة من العسكريين، يختلفون عن عسكر هذه الأيام، وكونك ضد حكم العسكر هذه الأيام، فإن هذا لا يعني، بالطبع، أن تطلق صافرات الحنين إلى أيام الاحتلال، نكاية في “العسكرة”، لأنك بذلك لا تختلف عن أولئك “الأوغاد” الذين يدفعهم كرههم الإسلام السياسي إلى إطلاق الرصاص على الصحابة والأئمة الأربعة وعمرو بن العاص وصلاح الدين الأيوبي.
إن أمة يتم تجريد تاريخها من كل قيمة محترمة، وأي إنجاز حقيقي، نكاية في سلطة رديئة، هي أمة ليست جديرة بأي مستقبل.