من بين الأمور التي أثارت بعض الجدل مؤخرا في مصر وتونس رفع الدكتور محمد المنصف المرزوقي في آخر شهر ابريل شارة “رابعة” خلال خطاب المؤتمر التحضيري لـ”حراك شعب المواطنين”، الإطار المتعدد الأبعاد الذي بادر بالدعوة إليه كصيغة للمساهمة في إحداث توازن في إطار التركز الراهن للطبقة السياسية أساسا في مجال السلطة وضعف المعارضة.
رفع الشارة لم يكن مجانيا وإنما كان في سياق التذكير باساسيات في مسار “ربيع عربي” شهد ويشهد ارتدادات قوية خاصة في مصر.
أين ولدت “رابعة” وعلى رأسها أساسيات أصبحت موضع تهجم وتراجع مثل ضرورة بناء نظام ديمقراطي حقيقي وأن الخلاف السياسي ليس مبررا لاستئصال على أساس عقائدي أو ايديلوجي لأطراف سياسية تؤمن بالعملية الديمقراطية ومستعدة للمساهمة فيها ونفي صفتها السياسية لحشرها عنوة في خانة الإرهاب.
فشارة “رابعة” أصبحت دلالة على رفض الإقصاء السياسي على أساس فكري أو ايديولوجي، كان سيرفعها المرزوقي سواء عبر عن حالة محددة تتعلق باستئصال لـ”الإخوان” أو “الاشتراكيين الثوريين” في مصر.
رفع المرزوقي للشارة أدى كما هو متوقع لردة فعل من نخبة استئصالية في تونس قامت عليها الثورة أصلا وأصدر بعض ممثليها تصريحات هستيرية من نوع أن “شارة رابعة مناقضة للانتماء التونسي”.
عشنا في تونس تجربة مطولة في نظام بن علي خاصة انطلاقا من التسعينات فضحت الكثيرين.
“حداثيون” مزيفون لعبوا دور الشرطة الثقافية الرثة لبن علي اعتبروا من موقع الحكيم والمفتي في الحداثة والديمقراطية على السواء اننا كتونسيين لسنا متهيئين بعد لبناء ديمقراطية حقيقية او بمعنى آخر أننا لسنا حداثيين بالمستوى المطلوب لهضمها، وهم أثناء كل ذلك كانوا يمارسون التزويق الثقافي لحداثة الاستبداد الكليبتوقراطي لبن علي وحاشيته.
وكانت صعوبات عملية الانتقال الديمقراطي والصراعات التي شقتها وتردد الائتلاف الحاكم آنذاك في الدفاع عن استحقاقات الثورة وموجة الإرهاب التي عمت المنطقة على هامش الضعف البديهي لدول ما بعد الثورة مناسبة لعودة امال الاستئصال والتشكيك الرجعي في الديمقراطية.
ثم كانت عودة حزب النظام القديم لسدة السلطة بمكياج “حداثي” وتحت شعار الدفاع عن “النمط المجتمعي” وبما يعنيه من تمني لعودة “نمط” الاستبداد ذاته تحت قصف استئصالي مكثف، قبل أن ينتهي حزب الأغلبية “النمطي” إلى التحالف مع حركة النهضة الإسلامية في سياق توافق بينهما على قاعدة رغبة دولية وإقليمية وتوافق في الخيارات الاقتصادية والاجتماعية.
يبقى أن شهوات الاستئصال بقيت حية وتنفلت بين الحين والآخر، وفي هذا السياق تنظر نخبة الاستئصال الهستيرية لـ”رابعة” من زاوية أنها تعبير حصري على “الإخوان”.
عودة للرئيس المرزوقي و”رابعة” ومصر و”الإخوان” يجب أن أسرد حادثة مهمة هنا، كنا نتابع بقلق في إطار رئاسة الجمهورية التطورات في مصر في جوان 2013.
تصورنا لمصر كان أنها ركن أساسي كما هي العادة في المنطقة وخاصة في الصراع القائم إقليميا بين قوى ترغب في تغيير حقيقي نحو الديمقراطية وقوى تدافع عن مصالح قديمة وأنظمة مهترئة أو عن إعادة الاستبداد تحت غطاء ديني متطرف.
وبهذا المعنى سارع الرئيس المرزوقي للقاء أول رئيس مصري منتخب ديمقراطيا اي الرئيس مرسي في جويلية 2012، كنت من بين مرافقي الرئيس آنذاك وكنا نشعر بقوة أننا إزاء عصر جديد في المنطقة وكانت الآمال والطموحات كبيرة، وهذا ما استشعرناه من اللقاءات المختلفة بما في ذلك مع خصوم “الإخوان”.
مثلا خلال اللقاء مع نخبة من المفكرين والمثقفين المصريين، وأكثرهم من العلمانيين، في قصر القبة، كان هناك توافقا حول أن الاختلاف مع الطروحات الفكرية لـ”الإخوان” لا يعني أنهم ليسوا طرفا يمكن أن يساهم في بناء ديمقراطية مصرية حقيقية.
كان واضحا فيما بعد أن الأمور لم تحدث كما كان كان يجب أن تتم وساهمت أخطاء وعزلة “الإخوان” عن أي حلفاء سياسيين باستثناء توجههم نحو البيروقراطية العسكرية واستعادة “الدولة العميقة” لقواها وما تبين فيما بعد من نوايا انقلابية مبكرة لقيادة الجيش في توفر الأسباب الكافية لانهيار التجربة.
وهكذا مباشرة بعد الانقلاب رجعت إلى مصر بتكليف من الرئيس المرزوقي في إطار مهمة استطلاعية ولكن أيضا بأفكار أولية وددنا طرحها على أهم الفاعلين المصريين على أمل المساهمة في مبادرة لحل الأزمة.
وصلنا يوم 12 جويلية 2013 وتوجهنا مباشرة من المطار إلى “ميدان رابعة”. كان من المهم أن نفهم طبيعة الحركة الاحتجاجية ضد الانقلاب، أتذكر جيدا أننا وصلنا خلال صلاة التراويح وكان حينها الميدان في حالة سكون رهيبة وسط الأبراج السكنية المحيطة بالميدان الواسع على أطراف المصلين انتصبت الخيام والباعة المتجولون وشاهدنا شبابا ونساء بعضهن غير محجبات من المنتمين لطرف يساري مصري رفض الانقلاب بشكل مبكر.
أسرت لمرافقي آنذاك أن هذا الميدان أصبح ربما الصخرة الوحيدة التي تقف أمام فيضان استئصالي رجعي يمكن أن يشملنا جميعا، لم يكن ذلك مبنيا على هواجس ففي تلك الأيام تحديدا صرح أحد قياديي حزب “نداء تونس” وابن رئيسه حافظ قائد السبسبسي أن تونس “تحتاج السيناريو المصري” أي سيناريو الانقلاب والاسئتصال.
عندما التقينا بقيادات “الاخوان” واستمعنا إليهم وطرحنا أفكارا أولية للحل لاحظنا رغبة كبيرة للمراجعة (أتذكر تحديدا كلمات الدكتور البلتاجي الذي أقر بخطأ الانفصال عن بقية “قوى الثورة” والانعزال)، بيد أن من الواضح أنها كانت متأخرة.
فالطرف الآخر المنتشي بالانتصار والذي التقينا أهم عرابيه (بما في ذلك الأستاذ حسنين هيكل وحمدين صباحي) لم يكن مستعدا للتفاوض إلا على قاعدة فض الاعتصام بلا شروط.
كانت تُقرع الطبول بشكل متناسق وفي نبرة فيها الكثير من التعالي والتشويه تحضيرا لحملة استئصالية شاملة (يحتاج الحديث مع هيكل تحديدا مقالا خاصا). ورأينا ذلك في حالة الهستيريا في الشارع والبلطجة المدعومة رسميا وبالعيان ضد كل من يشتبه في انتمائه للإخوان، حتى أن مجرد حمل اللحية في تلك الأيام أصبح بوضوح شبهة حقيقية يمكن أن تعرض صاحبها للاعتداء خاصة في أماكن تشهد مواجهات بين المعارضين للانقلاب والأمن.
كانت الأجواء الدموية مثيرة للغثيان واستعدت بما لا يدعو للشك أجواء الهيمنة الشمولية الاستئصالية المحاطة بأجواء الرعب والترهيب والخوف والبروباغندا المحضة والسطحية لنظام بن علي بداية التسعينات والتي يحاول البعض الآن استعادتها ولو في شكل مسخرة.
شارة “رابعة” أضحت مثل شارة “القبضة المرفوعة” (raised fist) التي رفعها السود الامريكيون في الستينات، العداء الامريكي تومي سميث مثلا الذي أثار الكثير من الجدل برفعها في اولمبياد 1968 في المكسيك كتب في مذكراته أنه رفعها ليس إعلانا للولاء لتنظيمات محددة للسود الامريكين مثل “الفهود السود” التي اشتهرت برفعها بل مناصرة لمجمل حركة الحقوق المدنية ودعما لحقوق إنسانية أساسية.
وهكذا أصبحت شارة “القبضة المرفوعة” رمزا لمعاني رفض العنصرية (إذ أصبحت رمزا أساسيا لحزب مانديلا المؤتمر الوطني) والتضامن مع الحقوق الأساسية ورفض العنف خاصة في الحركات الرافضة للحروب.
إذا كنت حداثيا وتقدميا وديمقراطيا مثلما هو المرزوقي يمكن أن تختلف وحتى تتصارع مع “الإخوان” خاصة في قضايا الدولة المدنية والسياسات الاقتصادية والاجتماعية لكن يجب أن تحارب إلى النهاية من أجل حقهم في التنظم والوجود السياسي، والحداثيون والتقدميون الحقيقيون لا توجد حاجة أساسية اليهم في الصالونات وفي أوقات الرفاهة وحين يصبح الدفاع عن القضايا الحقوقية نضالا مخمليا بل في فترات الأزمات وثقافة الهيمنة البوليسية فحينها فقط تُعرف معادن الناس.
رفع شارة “رابعة” في تونس ليس تدخلا في شؤون دولة تعيش في مجرة إقليمية وجيوسياسية أخرى، هو دعم من تونس التي تتقدم بصعوبة لكن بثبات على طريق الديمقراطية لمصر التي تعاني من نكوصها عنه، هناك طريق معبد مفتوح بينهما.
من المصلحة التونسية العليا انتصار الديمقراطية في مصر وليس من المصلحة المصرية فحسب، ومن لايرى علاقة التأثر والتأثير بينهما فكمن لا يرى.
المصدر : عربي 21