اقترح نتنياهو العودة إلى المفاوضات حول حدود المستوطنات في الضفة الغربية التي يُعِدُّ لضمها إلى الكيان الصهيوني. وجاء ردّ الرئيس الفلسطيني محمود عباس عرّاب اتفاق أوسلو والمؤمن الثابت الإيمان باستراتيجية المفاوضات والمفاوضات فقط، قائلا أن من غير المعقول الاستجابة إلى هذا الاقتراح وطالب بالعودة إلى المفاوضات شريطة توقف الاستيطان. وأضاف كبير المفاوضين صائب عريقات بأن “اقتراح نتنياهو هو محاولة لمنح الشرعية للمستوطنات. وهذا موقف لا يمكن للفلسطينيين تقبله”.
أما الحجّة الفلسطينية وفقا لصائب عريقات، وقد وافقه قيس عبد الكريم (أبو ليلى نائب الأمين العام للجبهة الديمقراطية)، فتستند إلى أن “المستوطنات ليست شرعية” ولهذا “لا مكان للتفاوض حول حدود مستوطنات غير شرعية حسب القانون الدولي”.
صحيح أن المستوطنات غير شرعية ولكن هل الاعتراف بالكيان الصهيوني شرعي؟ وهل التفاوض على حدود 1967 التي قام عليها الكيان الصهيوني عام 1948 شرعي حسب القانون الدولي؟
يبدو هنا أن صائب عريقات لا يعلم أن القانون الدولي يحصر حق تقرير المصير في فلسطين في الشعب الفلسطيني وحده الذي كان يقطن فلسطين عندما كانت تحت السيطرة عليها من جانب قوات الاستعمار البريطاني. فالقانون الدولي حصر حق تقرير المصير لشعوب المستعمرات بالشعب الذي كان يسكن البلاد في لحظة حلول الاستعمار، وهو المنطبق تمام الانطباق على الحالة الفلسطينية، ولا مجال للطعن في هذه الحقيقة المتعلقة بالقانون الدولي.
ويعتبر القانون الدولي أن كل ما يحدثه الاستعمار في أثناء سيطرته على المستعمرات من تغيير جغرافي أو ديموغرافي هو غير شرعي، ولا يمكن القبول به، أو تكريسه، أو اعتباره أمرا واقعا. وهو ما ينطبق تمام الانطباق على الهجرة اليهودية الصهيونية التي تمت ما بين 1918 و1948 أي المرحلة التي سيطر فيها الاستعمار البريطاني على فلسطين.
وهذا يستتبع لا شرعية قرار تقسيم فلسطين رقم 181 لعام 1947 وذلك لمخالفته الصريحة للقانون الدولي. وهو مخالف أيضا لميثاق هيئة الأمم المتحدة الذي يتفق مع القانون الدولي في موضوعي حق تقرير المصير والحلول محل الشعب الأصلي في تقرير مصير بلاده، كما فعل استثناء في قرار 181 لتقسيم فلسطين. فبأي حق يصدر قرار من قبل الجمعية العامة بأغلبية صوت واحد بتقسيم فلسطين وإعطاء حق للمستوطنين الوافدين بالقوة وبحماية حراب الاستعمار بإقامة دولة لهم على حدود 54% من أرض فلسطين. فهو قرار غير شرعي ومخالف للقانون الدولي ولميثاق هيئة الأمم المتحدة.
ومن ثم فإن قيام دولة الكيان الصهيوني التي حملت اسم “دولة إسرائيل” غير شرعي، بدوره، ناهيك عن الأراضي التي احتلها عام 1967 وتهجير أهلها ليضاف 24% جديدة من أرض فلسطين زيادة من الـ54% التي منحها قرار التقسيم غير الشرعي. فكيف يحصر صائب عريقات، وهذا ليس ذنبه أو خطيئته وحده الشرعية الفلسطينية في حدود 1967 ويعتبر التفاوض على تلك الحدود “شرعيا حسب القانون الدولي”. وهو في حقيقة الأمر يستند إلى “شرعية” قرار 242، الصادر عن مجلس الأمن في هيئة الأمم المتحدة. وهو القرار الذي أضاف على قرارات هيئة الأمم اللاشرعية قرارا لا شرعيا جديدا.
باختصار إن موضوع الشرعية وغير الشرعية في القضية الفلسطينية غير قابل للتجزئة ولا للتلاعب، ولا لإحلال قرارات تصدر عن هيئة الأمم المتحدة بديلا لشرعية القانون الدولي الذي يحظى على الإجماع الدولي فيما تلك القرارات لا تحظى بالإجماع الدولي فضلا عن لا شرعية مخالفتها للقانون الدولي، ولميثاق هيئة الأمم المتحدة.
عندما قبلت م.ت.ف بمبدأ حل الدولتين على أساس حدود 1967 غرقت في اللاشرعية حتى آذانها. وهذا ما يجعل موضوع الشرعية وفقا للقانون الدولي موضوعا خارج المفاوضات بالنسبة إلى نتنياهو. فمنذ اتفاق أوسلو بل ومنذ القبول بحل الدولتين أصبح موقف م.ت.ف غير ذي مصداقية حين يتحدث عن الشرعية بعد أن داسها مرات ومرات، ولا سيما في عهد محمود عباس وكبير مفاوضيه، وقد جرت كل المفاوضات في عهده مع سقوط كل الشروط التي وضعها لإطلاق المفاوضات، بما فيها شرط وقف البناء في المستوطنات أو شرط الاعتراف بحدود 1967 ولو بتعديلات طفيفة؟
فأين اللا معقول حين يتقدم نتنياهو باقتراحه الأخير؟ وأين العجب حين يهزأ نتنياهو بردّ محمود عباس إذ يتحدث عن المعقول واللامعقول، أو بردّ صائب عريقات حين يستند إلى “الشرعية حسب القانون الدولي”. لأن الحديث عن الشرعية هنا مزحة حين أسقطت شرعية عكا والناصرة وحيفا ويافا وبئر السبع أو قل عن الجليل. وبكلمة “من يهن يسهل الهوان عليه”. وهو ما يعتمد عليه نتنياهو ولم يخب مع محمود عباس حتى الآن.
ثم ما العجب في تجرؤ نتنياهو على هذا الاقتراح ما دام قرار المجلس المركزي بوقف التنسيق الأمني نام على رف التأجيل نوما عميقا، بل ما دام التنسيق الأمني ما زال مستمرا ومتصاعدا وراح يمتد إلى القدس.
مشكلة محمود عباس أنه فاقد لكل صدقية في ما يقول ويهدد به حين يكون الأمر متعلقا بالموقف من نتنياهو أو بالتمسك حتى في “الثوابت” التي حدّدها لسياسات التسوية والمفاوضات أو للخطوط الحمر.
وهذه اللاصدقية عبّرت عن نفسها مرة أخرى من خلال التعليمات التي أعطاها الرئيس لجبريل الرجوب بسحب المشروع المقدّم إلى الجمعية العامة لأعضاء الفيفا بتجميد عضوية “إسرائيل”. وإذا به يسحب المشروع قبل التصويت عليه بلحظات تحت حجة النزول عند رغبة بعض الوفود الصديقة ومنها بعض العربية.
فأين ذهبت التهديدات باللجوء إلى المؤسسات الدولية باعتبارها الاستراتيجية البديلة؟ ولم تتحقق حتى بخوض تجربة متواضعة مثل تقديم مشروع تجميد عضوية الكيان الصهيوني في “الفيفا” المنظمة الدولية لكرة القدم.
وهكذا، وبلا حاجة إلى الغرق في التفاصيل، يتأكد يوما بعد يوم عقم استراتيجية محمود عباس في اللجوء إلى المنظمات الدولية سواء أكانت تلك التي تجرّم القيادات العسكرية والسياسية الصهيونية بارتكاب جرائم حرب أم تلك التي تجمّد عضوية الكيان الصهيوني فيها، أم تلك التي تحظر التعامل معها. وذلك ليس لأن اتخاذ مثل تلك الخطوات غير مهم بحد ذاته، وإنما لسببين الأول أن هذه الاستراتيجية اتُخِذَت بديلا للردّ على الاحتلال والاستيطان من خلال وقف التنسيق الأمني وإطلاق انتفاضة شعبية شاملة. أما السبب الثاني فضعف سلطة رام الله وعلى رأسها محمود عباس أمام الضغوط التي تمارس ضدّ اللجوء إلى المنظمات الدولية. وما حدث من تراجع في موضوع تجميد عضوية الكيان الصهيوني في الفيفا إلاّ دليل واحد سريع على ذلك الضعف، واستلاب الإرادة.
أما الأسوأ والذي لن يغفره التاريخ، علما أن التاريخ الفلسطيني تعب من كثرة الخطايا التي يرتكبها محمود عباس بحق القضية الفلسطينية والنضال الفلسطيني، فيتمثل (الأسوأ) في إضاعة الفرصة التاريخية الراهنة في إنزال هزيمة محققة بالاحتلال في حالة إطلاق انتفاضة شاملة. وتكفي نظرة سريعة إلى ما يعانيه نتنياهو وحكومته من عزلة دولية وإلى جانبهما الارتباك الشديد الذي تتسّم به علاقات إدارة أوباما في التعامل ونتنياهو، بل وفي التعامل مع مختلف القضايا. وهو أمر قد يتغيّر إذا ما جاء رئيس جمهوري بعد انتهاء ولاية أوباما. أو قد يصبح الأمر أشدّ صعوبة ويحتاج إلى تضحيات أكبر حتى تنتصر استراتيجية الانتفاضة، في القدس والضفة الغربية وبدعم فلسطيني وعربي وإسلامي عالمي لإنزال هزيمة تدحر الاحتلال وتفكك المستوطنات وتحرّر القدس وتطلق كل الأسرى.