سواء كنت تثق في صدقية ما يبثه موقع “ويكيليكس” من أطنان الوثائق السرية، أو لا تعتد بها، أنت مطالب، في الحالتين، باستخدام عقلك قبل ضميرك، وأنت تطالع ما تقرأ.
مناسبة هذا الكلام أن ناشطين سياسيين لم يكلفوا أنفسهم مشقة التفكير، دقائق معدودة، في ما انفجر عبر بالوعات الصرف الصحفي، التابعة للسلطة في مصر، بشأن وثيقة تتحدث عن صفقة بين الرجل الثاني في جماعة الإخوان المسلمين، خيرت الشاطر، والسعودية، تتعلق بالعفو عن حسني مبارك عام 2011 مقابل حفنة مليارات من الدولارات.
قبل مناقشة مضمون الخبر وصياغته، من المهم هنا التوقف عند “سيكولوجية التلقي” لدى مجموعات ثورية، تلقفت هذا الكشف المذهل، واعتبرته مادة صالحة للغاية للتندر والسخرية على خيرت الشاطر وإخوانه، واعتبارهم تجار صفقات، يبيعون الثورات والقيم والمعاني في سوق السياسة.. إلى آخر هذه القائمة المعتبرة من مبررات الاختباء في تلك المساحة الرمادية بين رفض الانقلاب والرضوخ له كأمر واقع.
يكاد بعضهم يصرخ “أدركنا بها يا جوليان أسانج”، وفق الصرخة الشهيرة التي أطلقها المفكر الإسلامي الراحل خالد محمد خالد، في أثناء الحرب على العراق في صيف عام 1991 حين كتب مقالاً ظل وصمة في تاريخ كتاباته، تحت عنوان “أدركنا بها يا بوش”، متعجلاً فيها الرئيس الأميركي لتوجيه ضربة ساحقة للعراق.
وكأن بعضاً من هؤلاء النشطاء الثوريين وجدوا في وثائق جوليان أسانج، صاحب موقع ويكيليكس الشهير، النجدة والغوث والملاذ الآمن للهروب من حديث المصالحات الثورية، والكلام الجاد في وسائل وآليات لمواجهة نظام دموي، وكأنهم ليسوا مستعدين للتنازل عن شهوة الثرثرة والسفسطة، ورغبة التهام المختلفين معهم سياسياً، بألسنة حداد، تعمل بوقود الأخبار المغلوطة والشائعات المفبركة، ولا تريد أن ترهق نفسها بالتحقق والتبين وممارسة الحد الأدنى من التفكير الهادئ في ما هو معروض عليهم من “روث معلوماتي”.
وأظن أن هذه هي الطريقة التي بنيت عليها جريمة النصب السياسي الأشهر، في صيف عام 2013 حين أغرقوا الأرض بكميات هائلة من الوثائق المصنوعة في مطابخ معلومات تنظيم الثورات المضادة، وأفردت لها الصحف نفسها صفحات على مدار أيام، لإطفاء كل ما يضيء في مسيرة الثورة المصرية. لذا، يصبح غريباً وصادماً هنا أن يستقبل الذين اكتووا بنار حرب المعلومات القذرة قبل عامين، بشهية مفتوحة مع ما اندلع أمس تحت عنوان “وثائق ويكيليكس”.
حسناً، سأفترض معكم أن الوثيقة الخاصة بخيرت الشاطر صحيحة، فدعونا نقرأها معاً، حسب المعالجة التي قدمتها صحيفة انقلابية راسخة.
تقول الصحيفة “نقلت وثائق منسوبة لوزارة الخارجية السعودية، نشرها موقع “ويكيليكس”، مساء الجمعة، عن مسؤول مصري، لم يتم الكشف عن هويته، أنه “تحدث مع السيد خيرت الشاطر من الإخوان المسلمين، المرشح لنيل منصب رئيس الوزراء في الفترة القادمة، عن صفقة للإفراج عن الرئيس مبارك، مقابل مبلغ تدفعه دول الخليج في حدود 10 مليارات دولار، حيث إن الشعب المصري لن يستفيد من سجنه، وأن هذه الفكرة لاقت القبول لديه، وأنها ستلقى قبول الشارع المصري وأسر الشهداء ومصابي الثورة، خاصة إذا تم الإعلان عن تخصيص مبلغ مليار دولار من هذا المبلغ لهم”.
واضح من النص أن هذا المسؤول هو أحد قادة المجلس العسكري، لكن الأهم أن كل ما يتعلق بخيرت الشاطر قيل على لسان ذلك المسؤول مجهول الهوية، ولم يدل به الشاطر شخصياً..
يمكنك أن تضيف إلى ذلك أن المجلس العسكري أحال رئيس تحرير “الشروق” المصرية، وزميلتين محررتين، إلى التحقيق أمام النيابة العسكرية، بعد نشر تقرير عن صفقة في الكواليس للعفو عن مبارك بوساطة خليجية.
وأذكر أنه بعد ذلك بأيام أذاعت قناة العربية كلمة مسجلة للرئيس المخلوع، يحاول فيها ابتزاز مشاعر المصريين، وهي الكلمة التي أصدرت بعدها جماعة “الإخوان” بياناً نشرته صحف عدة، أكدت فيها رفضها القاطع أي سيناريوهات تتضمن العفو عن مبارك. وبعد ذلك، كان “الإخوان” مشاركين بكثافة في مليونية “إنقاذ الثورة” في 20 مايو 2011، حيث تم الاتفاق بين جميع القوى المشاركة في الثورة على أن تكون الجمعة التالية لها “هي جمعة الغضب الثانية”.
هذا ما حدث، فلا تتركوا أنفسكم لغرائز التشفي والنهش في خصوم لكم، لا يملكون فرصة الرد، وينتظرون الشنق، بأمر “الثلاثين من يونيو” خطيئة العصر.