ليس مؤكدًا إذا ما كانت صفقة الجنرال الذي يحكم مصر مع الشركة الألمانية التي توشك على الإفلاس، والتي تمت برعاية المستشارة أنجيلا ميركل، ليس مؤكدًا إذا كانت تتضمن في أحد بنودها، اصطياد الإعلاميين المصريين المعارضين لحكم السيسي، وتسليمهم إلى القاهرة، أم لا.
لا يعرف أحد، أيضًا، إذا ما كان توقيف الزميل أحمد منصور في أحد مطارات برلين، لدى عودته من مهمة صحفية في بلاد المثالية والأخلاقية، هو أول تطبيق عملي لصفقة السيسي/ ميركل، أم أن هذه صفقة أخرى، منفصلة عما جرى في الزيارة الأخيرة، ومتصلة بترتيبات أمنية عالمية، يلعب فيها الإسرائيليون دورًا كبيرًا.
كل ما نعرفه، أنه جرى توقيف أحمد منصور، بالتزامن مع استمتاع المشاهد الصهيوني بالحلقة الثالثة من التمثيلية المهداة (حارة اليهود) من جيش السيسي الفني إلى الجمهور الإسرائيلي، وهي لحظة جديرة بأن يشكر فيها الإسرائيليون قاهرة السيسي وبرلين ميركل معًا.
كثيرون ينظرون إلى ألمانيا، باعتبارها أرض الدقة والإتقان في الصناعة، خصوصًا صناعة السيارات، غير أني من هؤلاء الذين قادهم حظهم للنظر إلى ألمانيا باعتبارها موطن المثالية والأخلاق، هكذا درسوا لنا في قسم الفلسفة، أن ألمانيا، منذ نهايات القرن الثامن عشر، أخذت على عاتقها تقديم فلاسفة عظام يتبنون “المثالية” في مواجهة “المادية”، ويبشرون بقيم “الأخلاقية” أمام هجمة “النفعية والبراغماتية”، وعلى ذلك: هل تعي السيدة أنجيلا ميركل أنها “بنت المثالية” في مفهومها النقي العريق؟
هل تدرك أنها ابنة قيم وثقافة علمت أوروبا والعالم الحديث كله فكرة “الواجب الأخلاقي” مقابل منطق الصفقات، وسليلة عظماء كرسوا فكرة تسييد العقل والروح أمام همجية الغريزة واللذة الحسية؟
هل تعرف أنجيلا أنها ابنة تراث إيمانويل كانط وليبنتز وهيغل وشوبنهاور ونيتشه وتشيلر وشيلنغ، وقائمة طويلة من فلاسفة ومفكرين وأدباء ألمان، قدموا للعالم ما يحول بينه وبين الانسحاق تحت سنابك الفكر المادي؟
هل درسوا لأنجيلا ميركل، وهي تلميذة صغيرة، مقولات فلسفة مثالية، تبلورت في أنساق فكرية محكمة، وانطلقت من بلادها لتضيء العالم؟
هل قرأت قول هيغل إن “تاريخ العالم ليس إلا تقدم الوعي بالحرية والتعليم هو فن جعل البشر أخلاقيين”، قبل أن تشارك في عملية قرصنة على حرية إعلامي مصري، إرضاء لمجموعة من القتلة والسفاحين؟
هل سمعت عن جدها كانط ونظريته الخلابة عن “الواجب الأخلاقي”، وتعريفه أن “الواجب منزه عن كل غرض، فلا يطلب لتحقيق المنفعة أو بلوغ السعادة، وإنما ينبغي أن يطلب لذاته، أي ينبغي أن نؤدي واجبنا”، “فليست الأخلاق هي المذهب الذي يعلمنا كيف نكون سعداء، بل هي المذهب الذي يعلمنا كيف نكون جديرين بالسعادة”.
كان جدك كانط يقول إن “قيمة الفضيلة إنما تزيد كلما كلفتنا الكثير، من دون أن تعود علينا بأي مكاسب”، حتى لو كانت هذه المكاسب عقدًا باثني عشر مليار دولار، لشركة تصارع شبح الإفلاس في بلادنا، أو الانحناء أمام ابتزاز صهيوني ضاغط، يقدم الكثير لتسويق جنرال منقلب على ديمقراطية وليدة في شرق عربي لا تطيقون رؤيته إلا غارقًا في أوحال الاستبداد والتبعية.
تحمل الطريقة التي تمت بها عملية اصطياد أحمد منصور في ألمانيا قدرًا مخيفًا من “اللاأخلاقية”، على نحو يجعلها أقرب لشغل عصابات المافيا، من انتمائها لإجراءات وقوانين دول، ذلك أنه دخل بشكل طبيعي، وحاور كبار السياسيين، ومكث خمسة أيام في برلين، ثم حين عودته برز له في المطار من يلقون القبض عليه، بناء على مذكرة من سلطات النظام المصري، والذي كانت ميركل تخجل من اللقاء به، وتفر من إلحاحه على زيارتها، حتى كانت صفقة الاثني عشر مليارًا من الدولارات.
تعلم أنجيلا ميركل، كما تعلم الحكومة الألمانية، يقينًا، أن القبض على أحمد منصور عمل ينتمي إلى عالم الصفقات والبزنس، ولا يستند إلى قانون مادي أو أخلاقي، ومع ذلك، أقدمت على هذه الخطوة المشينة لقيم ألمانيا “بنت المثالية”، على نحو يثير الأسى على أمم جاء عليها وقت، لكي يحكمها أشخاص يلعقون ماضيها، ويهدرون تاريخها وإرثها الحضاري، من أجل دعم أوغادٍ يمارسون جرائم ضد الإنسانية.