من جديد، يؤكدون براعتهم في توجيه الرسائل والتقاط الإشارات واصطياد التواريخ .. في توقيت واحد تقريباً: الرئيس مرسي في بدلة الإعدام الحمراء.. منة شلبي تتألق في “حارة اليهود”، إرضاء لذائقة مشاهد إسرائيلي، يتوجه إليه صناع المسلسل. سفير للنظام المصري في تل أبيب بعد ثلاث سنوات من سحب السفير بقرار من الرئيس مرسي، تعبيراً عن موقف مصري جديد مناهض للعربدة الصهيونية.. عملية اصطياد للزميل أحمد منصور في ألمانيا، لم تغب عنها الأصابع الصهيونية، أحبطتها هذه الوقفة الباسلة من وسائل الإعلام الألمانية بالأساس.
وبالتزامن، أيضاً، لا بأس من تفجير شحنة ناسفة، بدائية الصنع، تلعب بوثائق تخص موقع “ويكيليكس”، يحتفون بها على أساس أنها تدين محمد مرسي وجماعة الإخوان.
وقبل يومين، تحدثت عما يمكن وصفه بحالة من البهجة الساذجة لدى بعض الذين يبحثون عن مرطبات لضمائر، تحاول أن تستيقظ بعد شهور طويلة من السكوت البليد عن فظائع وبشاعات ترتكبها السلطة بحق من يختلفون معها سياسياً.. إذ نزلت ما تسمى “وثيقة ويكيليكس” الخاصة بمزاعم وردت على لسان مسؤول عسكري، ضمن مكاتبات السفارة السعودية في القاهرة، مفادها بأن “الإخوان” وافقوا على العفو عن مبارك، وبيعه لمن يدفع عشرة مليارات دولار، نزلت برداً وسلاماً على فئتين، الأولى هم الذين يفضلون التعايش مع الانقلاب بكل كوارثه، تفلتاً من استحقاقات الثورة، والثانية يهمها أن تنسف ما تراه تغيراً في الموقف السعودي من جرائم الانقلاب بعد تولي الملك سلمان الحكم.
مرة أخرى: أشير إلى نقطتين أساسيتين، الأولى أن هذا العرض قدم لأول مرة، وانفردت صحيفة الشروق بالكشف عنه عشية التاسع من أبريل 2011، وذهبت إلى النيابة العسكرية لهذا السبب، في ما بعد، وقد سجلت القوى السياسية، ومنها جماعة الإخوان موقفها الرافض لهذه الصفقة. غير أن بعض الجراء الصغيرة، في أروقة إعلام عبد الفتاح السيسي، تصر على أن تحتفي بما تعتبرها “وثيقة إدانة الإخوان” وتكفر بما سواها، وتذهب إلى أن توقيت الصفقة كان قبيل الحكم على مبارك، في يونيو 2012. وهنا، يجدر بمن يحترم عقول الناس، ويفسح مجالاً لضميره للعمل أن يعود إلى الوقائع الثابتة.
ففي الثاني من يونيو 2012، أصدر القضاء حكمه بإدانة حسني مبارك بالسجن المؤبد، وتبرئة قيادات وزارة الداخلية. كان ذلك بعد انتهاء الجولة الأولى من سباق انتخابات الرئاسة، وفور النطق بالحكم كان مرشح جماعة الإخوان في ميدان التحرير، وسط مؤيديه، جنباً إلى جنب خالد علي وعبد المنعم أبو الفتوح وحمدين صباحي، ضمن محيط هادر من الثوار عادوا إلى الميادين، احتجاجاً على هذه الأحكام المخففة. وفي مؤتمر صحافي، أعلن محمد مرسي التزامه بإعادة محاكمة مبارك، حال فوزه بالرئاسة.
هذا هو المعلن بجلاء في ذلك الوقت، وعلى الرغم من ذلك، يصرون على استثمار هذه الدفعة من وثائق ويكيليكس للنيل من خصوم سياسيين، لا يمتلكون حق الرد والدفاع عن أنفسهم، وهنا لا خير فينا إذا كتمنا الشهادة.
بعد وصول الرئيس محمد مرسي إلى الحكم، وتشكيل حكومة برئاسة الدكتور، هشام قنديل، بدأت مبكراً للغاية محاولات الدولة العميقة إفشال تجربة أول رئيس منتخب، وكان معروفاً للكافة أن مطبخ إدارة الثورة المضادة موجود في الخارج. وفي واقعةٍ سمعت تفاصيلها بنفسي، من مصادر موثوق بها في ذلك الوقت، حدث أن العاهل السعودي الراحل، الملك عبد الله، طلب من الرئيس مرسي، حين زار المملكة العربية السعودية بعد انتخابه، أن يعفو عن مبارك عفواً رئاسياً، على أن يغادر إلى السعودية لاستضافته كونه كبر في السن، على أن يضمن الملك ألا يتكلم مبارك، ولا يظهر في الإعلام، ومقابل ذلك يمنح العاهل السعودي دعماً مفتوحاً، بتروليّاً ودولاريّاً، للوقوف بجانب مصر.
وكان رد الدكتور محمد مرسي، في ذلك الوقت: إن أمر مبارك بيد الناس، وليس بيدي، ولكن إن أردت رأيي، فأنا واحد ممن يرونه في مكانه الصحيح في السجن. وأنا أحترم السعودية طبعاً، لكن هذا شأن مصري.
ورجع الرئيس من الرياض، وشكل حكومة برئاسة، هشام قنديل، وبعد أيام، كان قنديل يبلغ رئيس الجمهورية بأن شحنة السولار، التي كانت تعطيها حكومة الملك عبد الله لمصر تأخرت 11 يوماً، فرد مرسي من دون تفكير: “مش هتيجي، دبر نفسك بالموجود”.
وفيما بعد، كشفت الأيام أن الانقلاب على محمد مرسي لم يكن رغبة عسكرية جامحة في استعادة الهيمنة على البلاد اقتصاديّاً وسياسيّاً، وإنما، أيضاً، تعبير عن قرار إقليمي بمعاقبة رئيس قرر أن يكون مختلفاً عن ذلك الكنز الاستراتيجي المطيع للأوامر، والمنفذ للتعليمات.
لكل ذلك وغيره، يبقى وقوف محمد مرسي، منتصب القامة، مرفوع الرأس في ملابس الإعدام الحمراء، مشهداً أجمل بكثير من مشاهد وقوف صغار الانقلاب منكسي الرؤوس، مسودي الوجوه، بين يدي المانحين.