تناقض نتيجة الانتخابات التركية رأيًا طالما ساد حول العلاقة بين الإسلام والديمقراطية، وقصة ذلك تعود إلى تسعينيات القرن العشرين حينما بدأت الحركات الإسلامية تشارك بفعالية في الحياة السياسية العامة (كلما أتيحت لها الفرصة للقيام بذلك)، وكان المسلمون الأكثر علمانية وكثير من المحللين في الغرب يرتابون في نوايا الإسلاميين بل يشككون فيها، اتهم الناس الإسلاميين حينها، وما زال بعضهم يفعل ذلك إلى يومنا هذا، بأنهم إنما يؤيدون الديمقراطية إلى أن يفوزوا بالانتخابات ويحوزوا السيطرة على الحكومة، فإذا ما تيسر ذلك لهم استأثروا بالحكم أو ألغوا الانتخابات، وقد شاع بين هؤلاء المشككين زعم بأن البرنامج الديمقراطي للجماعات التي تعرف نفسها على أنها إسلامية يتلخص في عبارة “رجل واحد، صوت واحد، لمرة واحدة”.
كثيرون يصنفون حزب العدالة والتنمية على أنه حزب إسلامي، ويزعم ناقدوه أن برنامج الحزب على المدى البعيد هو استخدام الديمقراطية لتقويض الدولة العلمانية في تركيا وصولاً في نهاية المطاف إلى إقامة دولة تفرض على الناس نمطًا تقليديًا من الشريعة، إلا أن زعماء الحزب يرفضون هذه التهمة، ويقولون إن حزب العدالة والتنمية ما هو إلا تشكيل سياسي ديمقراطي محافظ اجتماعيًا، ويشيرون في هذا الصدد إلى أن حزب العدالة والتنمية كان قد جاء إلى السلطة من خلال انتخابات ديمقراطية وأنه بهذه الطريقة ظل يحكم في تركيا منذ أن فاز بأغلبية برلمانية في انتخابات عام 2002، ورغم ذلك، وبعد ما يزيد على عقد من وجود حزب العدالة والتنمية على رأس الحكومة، فقد أظهرت الانتخابات أن “الإسلاميين” لم ينتزعوا من المعارضة السياسية القدرة على تحقيق مكاسب كبيرة في الانتخابات، وثبت أن الأمر في الحقيقة هو “رجل واحد، صوت واحد، لأكثر من مرة”.
ويعزز تفنيد المقولة القديمة “رجل واحد، صوت واحد، لمرة واحدة” الانتخابات التي جرت مؤخرًا في تونس؛ فبعد الإطاحة بالنظام الدكتاتوري العلماني لابن علي، فاز حزب النهضة “الإسلامي” في تونس في الجولة الأولى من الانتخابات وشكل حكومة جديدة، إلا أن الحكومة التي كان يقودها حزب النهضة واجهت مشاكل اقتصادية وسياسية هائلة وتنامى في وجهها السخط الشعبي، لم يلجأ الحزب إلى استخدام وسائل غير قانونية للبقاء في السلطة، وإنما لجأ بدلاً من ذلك إلى إجراء انتخابات برلمانية في عام 2014 جاءت إلى السلطة بحكومة جديدة يقودها علماني من أصحاب الخط القديم هو باجي قايد السبسي، ورغم أن النهضة خسرت الانتخابات، فإن الحزب نظم احتفالاً قاده زعيمه المخضرم راشد الغنوشي الذي أعلن أمام الملأ ما يأتي: “ما الذي نحتفل به اليوم؟ إننا نحتفل بالحرية، إننا نحتفل بتونس، إننا نحتفل بالديمقراطية”. لم يزل الغنوشي مدافعًا عن الديمقراطية ومتحمسًا لها منذ كان شابًا يافعًا منخرطًا في النشاط الطلابي، ولم يغير أو يبدل طوال حياته السياسية، وحتى حينما كان في المنفى، وإلى أن عاد زعيمًا سياسيًا في تونس ما بعد الربيع العربي.
ستجد بين النشطاء الإسلاميين من يدافع عن الديمقراطية بقوة وحماسة شديدة ومن يدعم الحكم الاستبدادي، ولكن مثل هذا الطيف من التنوع لا يختلف عما هو موجود بين المنتسبين إلى العلمانية والمدافعين عنها، ولا يغيبن عن بال أحد أن بعض أشد النظم الديكتاتورية الاستبدادية توحشًا في العالم الإسلامي وفي غيره من الأماكن كانت ولا تزال تتبنى الأيديولوجية العلمانية، لقد كان أبرز الطغاة الذين أطاح بهم الربيع العربي -بن علي في تونس ومبارك في مصر- يقودون أنظمة علمانية في الأساس، وكذلك كان حال صدام حسين في العراق. وفي عالم السياسة الحالي في الشرق الأوسط يوجد في مصر اليوم نظام يسفر عن عدائه الشديد للإسلاميين، لم يأت إلى السلطة إلا عبر انقلاب عسكري جرى في عام 2013، ومع ذلك رأيناه يضمن لنفسه الفوز في الانتخابات، كما جرى في الانتخابات الرئاسية التي نظمت في عام 2014 وتمخضت عن فوز عبدالفتاح السيسي بنسبة 97 بالمائة من الأصوات. بالمقابل، نجد في النظام الإسلامي في إيران، والذي يشاع عنه أنه نظام مستبد، أن الفائز في الانتخابات الرئاسية الأخيرة، حسن روحاني، حصل على 51 بالمائة من الأصوات في انتخابات شهدت تنافسًا حقيقيًا بين المرشحين. من الممكن أن نرى في هذا الحدث تعزيزًا للحركة الديمقراطية الإسلامية التقدمية التي مضى على وجودها في إيران أكثر من قرن من الزمان.
ما من شك في أن العلاقات بين الإسلام والديمقراطية ما بعد الربيع العربي بالغة التعقيد، وتخضع للتغير بأشكال مهمة؛ ففي نهاية القرن العشرين كان التركيز ينصب على سؤال حول ما إذا كان الإسلام والديمقراطية منسجمين، كان ذلك جدلًا قديمًا اتخذ أشكالًا كثيرة ومتنوعة، ولكن في العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، بدأت مفردات الجدل تشوبها مفارقات تاريخية وكأنه يجري في زمن غير زماننا؛ حيث يصر بعض الناس، سواءً داخل العالم الإسلامي أو خارجه، على الاستمرار في تكرار نفس الشعارات القديمة البالية.
بالنسبة للأغلبية العظمى من المسلمين حول العالم، بات الأمر محسومًا؛ فهؤلاء لا يرون أي تناقض حقيقي بين الإسلام والديمقراطية، وإنما تدور الحوارات الرئيسة فيما بينهم حول الأشكال التي يمكن أن تتخذها الديمقراطية المسلمة، ويتزايد بشكل مضطرد الإقرار بحقيقة أن الدولة المسلمة الديمقراطية يمكن فعلًا أن تتخذ واحدة من عدد كبير من الصيغ والأشكال.
ينبغي أن ينظر إلى الانتخابات الأخيرة التي جرت في كل من تركيا وتونس على أنها إثبات عملي واضح على أن الإسلام والديمقراطية ليسا متعارضين ولا متناقضين.
جون إسبوزيتو
أستاذ الدين والشؤون الدولية – جامعة جورج تاون
تامارا سون
أستاذ في تاريخ الإسلام، كرسي حمد بن خليفة آل ثاني – جامعة جورج تاون
جون فول
أستاذ فخري في التاريخ – جامعة جورج تاون