الحاصل الآن، أن “العسكرة” باتت الملمح الأبرز لشخصية الدولة المصرية وهويتها، لتتحول من حالة تقترب من مفهوم الدولة العصرية، التي تقوم على مبدأ الفصل بين السلطات، وتفعيل مجالس التشريع والرقابة والمحاسبة، إلى ما يشبه عالم حارة نجيب محفوظ، فتوّة جبار متجبر باطش، وحرافيش مستضعفون أذلاء، يخبئون وجوههم وانكسارهم في آنية من الفخار، تمتلئ بمسكرات شعبية رخيصة، كل مساء، بعد يوم طويل من العبودية للفتوة المتحكم في كل شيء، والذي بيده الأمر كله، من الحكم إلى التشريع إلى الجباية إلى العقاب.
وخارجيًا، تبدو مصر أقرب، حد الالتصاق والتماهي، مع المشروع الصهيوني في المنطقة، على نحو بات فيه المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي، متمتعًا بحقوق التعبير والتغريد والاشتباك مع المشهد السياسي المصري، أكثر بكثير من ناشطين سياسيين مصريين، قد تقودهم تغريدة، أو تصريح، إلى جحيم الاعتقال والتعذيب.
فعن أية هوية يتحدث نبيل فهمي؟
في خريف 2012، وحين كانت المؤامرة على أشدها لإزاحة الدكتور محمد مرسي، كان لقائي الأخير بالدكتور، محمد البرادعي، في منزله، بناءً على رغبة ملحة نقلها لي أقرب أصدقائه، بعد أن استقلتُ من موقعي متحدثًا رسميًا باسم “حزب الدستور”.
ذهبتُ برفقة أحد كبار الجمعية الوطنية للتغيير، وأحد وجوه الجبهة الوطنية التي عرفت باسم “جبهة فيرمونت”، وفي الوقت نفسه، كان عضوًا بارزًا في الجمعية التأسيسية لكتابة الدستور.
أتذكر في ذلك الوقت حدثين مهمين؛ الأول بداية تحرك جديد للبرادعي، بالتنسيق مع حمدين صباحي وعمرو موسى، مع استبعاد أبو الفتوح، وقد سجلت موقفي من هذا المحور الغريب بمقال بعنوان “عملية إقصاء عبدالمنعم أبو الفتوح”. والحدث الآخر، كان تصعيد العمل لهدم تأسيسية الدستور بأي شكل، ووقتها كانت مجموعة الشخصيات السياسية من خارج تيار الإسلام السياسي قد عادت إلى التأسيسية، بعد انسحاب مؤقت لخلافات على بعض الصياغات، وكان من هؤلاء “كبير الوطنية للتغيير”.
حين وصلنا إلى منزل البرادعي، كان لفيف من الشخصيات، التي أنفت واستنكفت وتأبطت شرًا من فكرة وصول ذلك الفلاح الملتحي الإخواني إلى رئاسة مصر، وأتذكر جيدًا من بين الحضور نبيل فهمي، والدكتور جلال أمين، وعددًا من عواجيز السياسة المصرية، فبدا الجمع وكأنه جلسة محاسبة وتعنيف لكبير الوطنية للتغيير على استمراره فيما اعتبروها “تأسيسية دستور الإخوان”، ذلك الدستور الذي قال لي عنه جابر نصار، رئيس جامعة القاهرة الحالي، إنه من أعظم الوثائق الدستورية في تاريخ مصر.
كان النقاش حادًّا، وكان الأكثر تعصبًا نبيل فهمي، غير أن “كبير الوطنية للتغيير” رد بحسم، وبمنطق قوي، وأضفتُ من عندي بعض الكلام الرومانسي الساذج عن المتربصين بثورة يناير، وضرورة تفويت الفرصة على الثورة المضادة، والحيلولة دون إسقاط تجربة أول رئيس منتخب للمصريين، وكلامًا آخر عن انتصار المصريين أخلاقيًا في يونيو 2012، حين وقفتْ أصواتهم سدًا منيعًا أمام مرشح الثورة المضادة.
غادرنا اللقاء، كبير “جبهة فيرمونت” وأنا، ورجعنا بسيارتي عبر محور 26 يوليو، وفي الطريق سألني: ما رأيك فيما دار؟
قلت له: هذا الذي حضرته ذكّرني بمشهد مجموعة الباشوات والبكوات والإقطاعيين في فيلم (ناصر 56)، حين تجمعوا في قصر أحدهم، منتظرين سماع خبر دخول الإنجليز القاهرة مرة أخرى، للقبض على ذلك الرئيس الفلاح، وتخليصهم منه، واستعادة عصرهم الذهبي.
ابتسم الرجل، وقال لي: “ما أصبر محمد مرسي على هؤلاء”، ودار بيننا حديث طوال الطريق عن وقاحة هذا النوع من المعارضة وصفاقته.
أتذكّر هذا الموقف كلما قرأت عن نشاط “كبير الوطنية للتغيير وجبهة فيرمونت” سابقًا، في حملة السيسي رئيسًا، وإقامة التحالفات للبرلمان الذي يريده السيسي، وأسأل نفسي: كيف انتصر سياسيون مصريون لثورتهم يونيو 2012، ثم نحروها وانتحروا في يونيو 2013؟