الأسبوع الأخير الذي عاشته مصر سيؤسس لمرحلة جديدة أشد بؤسا وسوادا من كل ما سبق، ذلك لأنه شهد ثلاثة أحداث هي الأكبر من نوعها منذ بدء المعركة الصفرية التي يخوضها الجميع من أجل “اللاشيء”. قتل النائب العام في أكبر حادث اغتيال لمسؤول مصري منذ ربع قرن، عاشت سيناء أكبر هجوم من قبل المليشيات الإرهابية المسلحة بهدف السيطرة على الشيخ زويد، وإعلانها منطقة محررة من الجيش النظامي، شهدت مدينة 6 أكتوبر أكبر عملية تصفية جسدية لقيادات من جماعة الإخوان.
ينقل الجميع من كتالوج التسعينيات بحماس كبير، وبمعطيات مختلفة تجعل التجربة هذه المرة مرشحة لتكون أشد سوءا ودموية. في 12 تشرين الأول/أكتوبر 1990، وعندما كانت سيارة رفعت المحجوب رئيس مجلس الشعب الأسبق تمر من أمام فندق سميراميس باتجاه الكورنيش، ظهر أربعة شباب يركبون دراجتين بخاريتين ويحملون أسلحة آلية حاصروا السيارة وأطلقوا النار بكثافة فمات المحجوب وثلاثة آخرين. كان نظام مبارك أكثر المستفيدين من حادث اغتيال رفعت المحجوب، تجاهل غالبية المصريين الأوضاع الصعبة التي عاشوها في السنوات التسع الأولى من حكمه والتفوا حوله لمواجهة الإرهاب، أصبح أكثر جرأة في فرض الإجراءات الاستثنائية، نحى السياسة جانبا لعقد كامل ولم يسمح لأي صوت معارض بالظهور.
ربما يكون حادث اغتيال النائب العام ومن بعده الأحداث التي شهدتها سيناء طوق نجاة لنظام السيسي الذي كان يعاني أزمة حقيقية بعد خسارة رهاناته على الخليج وروسيا والصين، وتعثر مشروعاته القومية كالعاصمة الجديدة والمليون وحدة سكنية، وفشل المؤتمر الاقتصادي الذي كان يعلق عليه آمالا كبيرة. الآن أصبح هناك شماعة يعلق عليها كل أخطائه، وإلى جانب التحقيقات في حادث الاغتيال ونتائج الهجمات الإرهابية في سيناء لم يلفت نظر الكثيرين خبر آخر على شريط الأخبار تعلن فيه وزارة المالية أن إجمالي فوائد خدمة الدين بالموازنة الجديدة يبلغ 244 مليار جنيه.
وما دمنا قد تحدثنا عن اغتيال المحجوب كنقطة فارقة توحش بعدها نظام مبارك في مواجهة خصومه السياسيين، متعللا بمحاربة إرهاب التسعينيات، فهناك نقطة فارقة أخرى كانت من أهم الأسباب التي أدت لاندلاع إرهاب التسعينيات أساسا.
كانت الجماعة الإسلامية قد عادت إلى الحياة عام 1984 بعد ثلاث سنوات من اغتيال السادات، ومن وقتها حتى عام 1990 كانت الجماعة تركز على العمل الدعوي ولا تنتهج العنف، بل إنها فكرت في الاتجاه للعمل السياسى عام 1990، ووفقا لرواية أحمد حلمي، أحد محامي الجماعات الإسلامية، صدر وقتها حكم بحل مجلس الشعب وكانت تجرى الاستعدادات لإجراء انتخابات جديدة، وتم عقد لقاء بين عادل حسين وبين الدكتور علاء محيي الدين، المتحدث باسم الجماعة الإسلامية، لبحث التحالف بين حزب العمل والجماعة.
وأثناء عودة الدكتور علاء محيي الدين لمنزله في الهرم أطلق عليه مجهولون النار فلقي مصرعه في الحال، وأشارت كل أصابع الاتهام إلى جهاز أمن الدولة باعتباره من نفّذ عملية التصفية، ولأن “محيي الدين” كان يحظى بشعبية كبيرة بين شباب الجماعة الإسلامية ظهرت بعد الحادث دعوات حمل السلاح انتقاما له وحتى لا يتم تصفية قيادات الجماعة تباعا.
هذه الرواية الأكثر تماسكا التي يرويها الخبراء في شؤون الجماعات الإسلامية حين يبحثون عن الشرارة التي أطلقت عنف التسعينيات وحوّلت الجماعة الإسلامية إلى العنف، وهم هنا لا يبررون حمل السلاح لكنهم كانوا يفسرونه حتى نتعلم من أخطاء الماضي ولا نكررها.
لكن ما حدث مع علاء محيي الدين تكرر بعدها بـ35 عاما في مدينة السادس من أكتوبر على نحو أعنف، حيث قامت قوات الأمن بتصفية تسعة من قيادات الإخوان أثناء اجتماعهم في شقة سكنية بالمدينة، ولفظ “تصفية” هو اللفظ الذي استخدمته جميع الصحف القومية والخاصة وفقا للنشرة الأمنية التي جاءتها قبل أن يتم تعديل الصيغة فيما بعد ليقال إنهم قتلوا بعد تبادل لإطلاق النار.
كل الشواهد تقول إن ما حدث كان تصفية وليس تبادلا لإطلاق النار، بدءا من نشر أخبار سابقة تؤكد القبض عليهم مرورا بآثار “الفيش” على أصابعهم، ووصولا إلى عدم وجود أي آثار دماء أو فوارغ طلقات على أرضية الشقة التي يفترض أنها دارت عليها معركة حامية ومات عليها تسعة أشخاص، وحتى شهادات السكان التي أدلوا بها للصحف قالوا فيها إنها لم يسمعوا صوت إطلاق النار.
نفس اللهجة التي تحدث بها شباب الجماعة الإسلامية بعد تصفية متحدثهم الإعلامي تحدثت بها جماعة الإخوان في بيانها الذي صدر عقب حادث أكتوبر، حيث قالت إن: “عملية الاغتيال بحق قياداتها تحول له ما بعده، ويؤسس لمرحلة جديدة لا يمكن معها السيطرة على غضب القطاعات المظلومة المقهورة التي لن تقبل أن تموت في بيوتها وسط أهلها”.
نحن الآن أمام حادثين يؤسسان لما بعدهما، حادث اغتيال النائب العام الذي سيعطي السلطة مبررات أكبر لتوسيع دائرة القمع والانتقام والتغطية على فشلها الأمني والاقتصادي، وحادث تصفية قيادات الإخوان بأكتوبر الذي سيغلق الباب أمام أي تسوية سياسية بين الطرفين وسيدفع شباب الجماعة إلى تبني منهج العنف.
أضف إلى ذلك كله أن الأدوات في يد الطرفين أكثر بكثير مما كان الوضع عليه في التسعينات، حيث أدوات أكثر لغسيل أدمغة الناس في يد النظام، وفارق كبير في عدد الأعضاء والأنصار بين الجماعة الإسلامية والإخوان، أضف إليه كذلك المآلات الصعبة التي تبدو سيناء في الطريق إليها، وساعتها يمكن أن تتخيل ما يمكن أن يكون عليه المستقبل مالم تأخذ الأصوات العاقلة في كل الأطراف فرصتها.