شبكة رصد الإخبارية
follow us in feedly

بؤس خيارات الاعتدال الجهادي الأميركي في سوريا

بؤس خيارات الاعتدال الجهادي الأميركي في سوريا
عندما وضعت الحرب الباردة أوزارها، طورت الولايات المتحدة الأميركية منظورًا جديدًا للأمن القومي يستند إلى تحديد مصادر التهديد على أسس استراتيجية استشراقية وثقافوية تضع “الإرهاب الإسلامي” المتخيل في دائرة الأعداء..

عندما وضعت الحرب الباردة أوزارها، طورت الولايات المتحدة الأميركية كإمبراطورية إمبريالية منظورًا جديدًا للأمن القومي يستند إلى تحديد مصادر التهديد على أسس استراتيجية استشراقية وثقافوية تضع “الإرهاب الإسلامي” المتخيل في دائرة الأعداء، وقد منحت هجمات 11 سبتمبر 2001 زخمًا إضافيًا لتعزيز منظورات “حرب الإرهاب”. وعلى الرغم من ذاتية مسألة “الإرهاب”، وعدم موضوعيتها، وخضوعها لترتيبات القوة والمصلحة؛ فإن حركات إسلامية جهادية (إرهابوية) تجادل بكونها لا تنتمي إلى الفضاء الإرهابوي، وتحاجج الإمبراطورية الأميركية ثقافيًا بانتمائها إلى معسكر الاعتدال.

الحالة السورية تبدو لنا نموذجية في مسألة الإرهاب والاعتدال؛ إذ تعتقد الجماعات الجهادية أن الغرب عمومًا، والولايات المتحدة خصوصًا، يفتقر إلى الموضوعية، ويعاني من حالة من عدم الإنصاف وسوء الفهم؛ فهي من منطلقات أخلاقية ومنطقية ساذجة تفترض أن القرارات الاستراتيجية تتبع سياقًا موضوعيًا يحتمل منطقًا جداليًا ينتمي إلى عالم الحجاج والإقناع ويحتكم إلى براهين “الماصدق”، لكن ذهان الجهادوية يفشل دومًا في البرهنة على سلامته الاعتدالية في عوالم الإمبراطورية والإرهاب.

لقد استند مشروع القرن الأميركي الجديد على رافعة “الإرهاب الإسلامي”، للتحكم والهيمنة والسيطرة والانتشار والتوسع، ولم تتبدل المنظورات الأميركية المعولمة الخاصة بموضعة “حرب الإرهاب”، وعلى الرغم من الانتكاسات التي منيت بها سياسات الحرب على الإرهاب في أفغانستان والعراق؛ إلا أن الاستراتيجية لم تتبدل، فخلال خطابه في ويست بوينت في 28 مايو 2014، تراجع الرئيس أوباما عن استراتيجيته السابقة، واعتمد استراتيجية سلفه الرئيس جورج بوش في “الحرب الكونية على الإرهاب”؛ فبعد أن أعلن أن روسيا لا تشكل تهديدًا عسكريًا عاد ليعلن عن إنشاء صندوق لمكافحة الإرهاب بموازنة سنوية قدرها 5 مليارات دولار.

في مايو 2014، وعد الرئيس أوباما بجهود أمريكية جديدة لتدريب وتجهيز قوات من الثوار السوريين المعتدلين، وفي الشهر التالي، طلبت الإدارة من الكونغرس 500 مليون دولار لتمويل هذا الجهد، وبهدف نشر (5000) مقاتل مدعومين من الولايات المتحدة في السنة لمدة ثلاث سنوات، وكان الرئيس أوباما قد أعلن بتاريخ 26 يونيو 2014 أن 500 مليون دولار المخصصة سنويًا لصندوق مكافحة الإرهاب سوف تستخدم لتدريب 5400 من “الثوار السوريين المعتدلين”، لكنه عاد بعد فترة وجيزة وأوضح أن هؤلاء المقاتلين الجدد سوف يستخدمون ضد الدولة الإسلامية، وليس الجمهورية العربية السورية.

في سياق البحث المضني والشاق عن المعتدلين داخل فصائل الثورة السورية بحسب المواصفات الأميركية؛ تكللت الجهود الجبارة، وبمساعدة الشركاء الدوليين والإقليميين، بعد سنة بالتمام والكمال عقب عمليات البحث والتدقيق عن استبعاد (4500) متطوع من أصل (6000)؛ بسبب انتمائهم لمجموعات إرهابية، ثم وضع (1500) منهم تحت التدقيق والاختبار، حيث خضع أقل من (100) منهم  للتدريب، وأخيرًا نجح (60).

يمكن فهم سبب فشل تدريب المعارضة السورية المعتدلة ببساطة شديدة؛ فالشروط الأميركية تلزم المعارضة بقتال الدولة الإسلامية حصرًا دون التعرض لنظام الأسد، كما أن إدارة أوباما لا تلتزم حتى بالدفاع عن المقاتلين الذين ستقوم بتدريبهم إذا ما تعرضوا لهجمات النظام وبراميله المتفجرة؛ فوزير الدفاع آشتون كارتر قال للجنة الخدمات المسلحة في مجلس الشيوخ إن البرنامج بعد عام من بدايته جند فقط (60) من السوريين، وفي الوقت نفسه، قال الجنرال مارتن ديمبسي رئيس هيئة الأركان المشتركة أمام اللجنة بأن كلًا من إسرائيل والأردن يعتقدان كثيرًا بإمكانية انهيار نظام الأسد قريبًا، وهو ما سيؤدي إلى سباق بين تنظيم القاعدة وقوات الدولة الإسلامية نحو دمشق.

نتائج التدريبات الأميركية الخارقة والنفقات الهائلة لستين معتدلًا تبخرت فور دخولهم الاحتفالي في أبريل، فقد اختطفت جبهة النصرة بعضهم؛ حيث أسرت قائد الفرقة 30، العقيد المنشق نديم الحسن، برفقة سبعة عناصر من الفرقة، بينهم القيادي فرحان الجاسم، أثناء عودتهم من اجتماع في مدينة أعزاز في ريف حلب الشمالي، وطالبت “الفرقة”، من وصفتهم بالإخوة في “النصرة”، بإطلاق المخطوفين بأقصى سرعة؛ حقنًا لدماء المسلمين، وحرصًا على وحدة الصف، وعدم إضعاف الجبهات بنزاعات جانبية بين إخوة الصف الواحد.

الحالة العراقية لا تبدو أحسن حالًا؛ فقد اعترف الرئيس أوباما بأن “هذا الجانب من استراتيجيتنا يتحرك ببطء شديد”. وفي واقع الأمر، إنه يكشف عن فشل ذريع في كلا الدولتين. ووفقًا لكارتر، قام أفراد الولايات المتحدة الـ 3500 المنتشرون في العراق منذ العام الماضي بتدريب 8800 فقط من عناصر الجيش والميليشيات الكردية، وتم تجنيد 1300 فقط من رجال القبائل السنية، على الرغم من قول كارتر إن القوى السنية أساسية لاستعادة السيطرة على المدن التي استولت عليها الدولة الإسلامية؛ إلا أن القوى السنية ليست أساسية في حقيقة الحال.

إن لعبة الإرهاب والاعتدال الأميركية تتبع المصالح الاستراتيجية، ولا تنطوي على حسابات تصنيفية خاطئة؛ فالولايات المتحدة تضع محاربة الدولة الإسلامية على رأس أولوياتها، ومن أراد الدخول في أفق الاعتدال الأميركي فعليه أن يلتزم بشروطها، ولن تجدي تصريحات “أبو محمّد الجولاني”، زعيم جبهة النصرة (قاعدة الجهاد في بلاد الشام) الموضوعة على لائحة الإرهاب، الرامية لتطمين الغرب وأميركا نفعًا، ولن تؤدي النزعة البراغماتية التي تقوم على الحفاظ على علاقات ودية مع كافة فصائل الثورة السورية، وتجنب الصدام مع كافة القوى المحلية والإقليمية والدولية إلى عملية استدخال، ومهما قدمت من تطمينات بعدم فرض رؤيتها حول مستقبل سوريا واعتماد منهج الشورى في تدبير الخلافات وإدارة المناطق المحررة، والحرص على تقديم الخدمات والإغاثة للجميع، وعدم الانفراد في تحديد شكل الحكم، وتأجيل موضوع تطبيق الحدود وإقامة الشريعة.

أما محاولات حركة أحرار الشام تقديم نفسها كحركة معتدلة فهي فاشلة كنظيرتها النصرة؛ إذ لا يعني كونها ليست على قوائم الإرهاب الأميركية والأوروبية أن تصبح عضوًا في نادي الاعتدال الأميركي، ولن تفلح محاولات قادتها الجدد باستدخالها؛ فتصريحات قائد الحركة هاشم الشيخ (المعروف بأبي جابر الشيخ) المعتدلة، وحديثه عن مستقبل سوريا في ظل “حكم بدستور مصدره الإسلام “، و”حكومة منبثقة عن اختيار الشعب”، و”عقد تراض بين الحكومة والشعوب”، وتأييد عاصفة الحزم ومواجهة “التغول الإيراني في منطقتنا العربية والإسلامية”، لا تعني شيئًا للولايات المتحدة التي ترغب باستدخال الحركة لقتال الدولة الإسلامية وليس نظام الأسد.

ولا تسمن مقالات لبيب النحاس، مسؤول العلاقات الخارجية في حركة أحرار الشام، من جوع؛ فهي ترتكز على ذهان جهادوي مزمن لا يدرك أبعاد الاعتدال الأميركي ومراميه، فمقالاته في صحف أمريكية كصحيفة واشنطن بوست تكشف عن التباس في فهم طبيعة الإمبراطورية التي تستثمر المعرفة كإرادة للهيمنة، ولا تجدي شروحاته وانتقاداته للسياسة الأميركية في سوريا، ولا دعواته لمراجعة ما سماه الدعم غير المثمر لما تطلق عليه “القوات المعتدلة”، على الرغم من قبوله ضمنيًا استدخال الحركة كشريك في مواجهة تنظيم الدولة، أما مقاله في صحيفة ذي تلغراف البريطانية الذي يؤكد فيه على أن استراتيجية تقوم على إسقاط النظام، وإلحاق الهزيمة بتنظيم الدولة، وتأسيس حكومة “تمثيلية” لجميع السوريين مع مراعاة هوية الأغلبية المطلقة منهم؛ فهي تقع في سياق الهذيانات والهلاوس في العرف الإرهابوي الأوروبي الأميركي.

لا تخرج محاولات جيش الإسلام ولقاءات زعيمه زهران علوش مع الصحافة الغربية عن محاولات النصرة والأحرار؛ فحديث الاعتدال والديمقراطية والتعددية والشراكة أقرب إلى الخرافات والأساطير، ولن تدفع الولايات المتحدة إلى استدخالها كحركة معتدلة.

لقد حددت الولايات المتحدة مفاهيمها الخاصة بالاعتدال والإرهاب في العالم عمومًا، وفي العراق وسوريا خصوصًا؛ إذ يقع في دائرة الاعتدال كل من يقف إلى جانبها في قتال “الدولة الإسلامية”، وهي تتعامل مع الحركات الجهادية السورية كما تعاملت مع نظيرتها العراقية سابقًا؛ حيث تعمل على توظيفها كأدوات في مكافحة التمرد، ويبدو أن التاريخ يعيد نفسه لا كملهاة بل كمأساة، فالحركات الجهادية السورية تتبع خطوات نظيرتها العراقية 2006-2008؛ حيث تم إقناع الفصائل العراقية بأولوية قتال “الدولة الإسلامية” باعتبارها تحول دون تحقيق مصالح السنة من جهة، وكونها ذريعة للتمدد الإيراني، لكن استراتيجية مكافحة التمرد، كما وصفها الجنرال ديفيد بتريوس في “الدليل الميداني لمكافحة التمرد الخاص بقوات مشاة البحرية في الجيش الأميركي” لعام 2006، تستدعي مقاربة من ثلاث ركائز تعرف بـ “الإخلاء، والحفظ، والبناء”؛ وتعني: طرد المتمردين من منطقة معينة، ومنعهم من العودة، وبناء مؤسسات محلية تساعد السكان على المضي قدمًا.

لا شك بأن وظيفة “الإخلاء” في سوريا اليوم ترتكز على استدخال كافة الفصائل المستعدة للانخراط في قتال التمرد الأساس المتمثل بتنظيم الدولة الإسلامية دون تشتيت المنظور بمواجهة قوى أخرى ليست رئيسة؛ فقد حالت الولايات المتحدة دون سقوط نظام الأسد، بل إنها تعمل على الحفاظ عليه وإشراكه في مراحل لاحقة كشريك في حرب “الإرهاب”، أما مهمة “الحفظ” فهي تسعى للسيطرة على الأراضي بعد إخلائها من خلال قوى موثوقة أمريكيًا لا تتمتع بها الفصائل الجهادية السورية مطلقًا، بل سوف تطالها عمليات الملاحقة والاستئصال كما حدث لفصائل المقاومة العراقية سابقًا، أما وظيفة “البناء” فهي تهدف لإقامة حكومة طيعة موالية.

خلاصة القول: إن الولايات المتحدة تتعامل مع الفصائل الجهادية السورية من منظورات مكافحة التمرد، حيث تعمل على توظيفها واستعمالها في مواجهة العدو الأساس ممثلًا بتنظيم “الدولة الإسلامية”؛ فمسألة الإرهاب والاعتدال ذاتية غير موضوعية، تخضع للمصالح الاستراتيجية الأميركية وتوزيعات القوة، ويبدو أن حالة الذهان الجهادوي تمنع الجماعات الجهادية من إدراك مسلمات الواقع القبيح؛ فالغرب عمومًا، والولايات المتحدة خصوصًا، لا يفتقر إلى الموضوعية بسبب الالتباس وسوء الفهم والتقدير، بل هو يتبع ببساطة مصالحه الحيوية، وقد حسمت الإدارات الأميركية بعد الحرب الباردة خياراتها؛ حددت منظومة أعدائها وأصدقائها، ولا يقع الإسلاميون على اختلاف توجهاتهم الجهادية ضمن دائرة الأصدقاء، بل في دائرة الأعداء المحققين أو المفترضين.



تنفيذ و استضافة وتطوير ميكس ميديا لحلول الويب تنفيذ شركة ميكس ميديا للخدمات الإعلامية 2023