إنهم لا يزالون ينظرون إليك كفأر تجارب معملية، أو طرف أساسي في تفاعل “بافلوف”، فإذا قالوا لك لا تخرج اليوم، لأن الحرارة فوق الخمسين درجة، تذكر من أصدقائك وجيرانك وأقربائك من دفع حياته ثمنًا لدفاعه عن الحق والعدل، حتى الانصهار في هولوكوست رابعة، ولا تنسَ أن آخرين تم شواؤهم داخل سيارة ترحيلات سجن أبو زعبل، على يد السلطة التي تزعم أنها تخاف عليك من ضربة شمس.
في الغالب، يتعامل المصريون مع نشرة الأحوال الجوية وتقارير الأرصاد، كمادة للضحك، أو فقرة كوميدية، لأسباب عديدة، تختلف من شخص إلى آخر.. شخصيًا، أضحك حين أجد على المواقع الإلكترونية الخاصة بالصحف المصرية خبرًا باللون الأحمر قبل منتصف الليل بقليل يقول: عاجل: الأرصاد: طقس الغد مائل للحرارة. الغد الذي هو من المفترض أن يبدأ بعد ساعة من نشر الخبر.
آخرون يضحكون لأن توقعات الأرصاد، غالبًا ما تأتي ضد الواقع وضد الحقيقة، كون القائمين على نشرة الأحوال الجوية يعبؤونها، كيفما اتفق، كما يفعل المشرفون على باب “حظك اليوم” في الصحف، مجرد كليشيهات محفوظة تتكرر بشكل ممل.
من هنا، تبدو غريبة هذه الحالة من إلحاح إعلام السلطة في مصر، منذ أيام، على نشر توقعات مخيفة لطقس اليوم، الجمعة، الرابع عشر من أغسطس/ آب الذي يوافق الذكرى الثالثة لجريمة العصر، المصنّفة أكبر مجزرة ترتكبها سلطة ضد الشعب في تاريخ المصريين، في ميدان رابعة العدوية.
تقول أجهزة إعلام السلطة إن درجة الحرارة سوف تتجاوز الخمسين، يوم ذكرى مجزرة رابعة، وتغرق الصحف والشاشات ببيانات عن حالات وفاة بالعشرات، نتيجة ارتفاع درجات الحرارة، طوال الأسبوع الماضي، وتعيد وتزيد في التحذير من أن القادم أعنف وأشد، لذا وجب التزام البيوت، وعدم الخروج، يوم الجمعة، لأن الموت يقف على أبواب البيوت متربّصاً، كي يملأ سلاله برؤوس وأرواح كثيرة.
بالتزامن مع ذلك، تعلن وزارة الداخلية أنها أعدّت العدّة لاستقبال الخارجين للتظاهر في هذا اليوم بالرصاص الحي، وأنها تعاقدت مع الموت، لتوريد ما يكفيه من أنفس بشرية، مجانًا، ودون حد أقصى.
ثم يخرج وزير الأوقاف ببيان شديد اللهجة، يقول فيه إن الخارجين في تظاهرات اليوم هم أعداء الله والوطن. وقبل ذلك، أجرى الأزهر، جامعة وجامعة، مناورات بالذخيرة الفقهية الحية، وبكامل حلّته العسكرية، معلناً أن شهداء رابعة قتلوا أنفسهم بأنفسم، وأن السلطة الحالية بريئة من دمائهم.
وفي ركن آخر من أركان ساحة الألعاب المعلوماتية، يتم إشعال جدل صاخب، يقود إلى معركة حامية على مواقع التواصل، بتكثيف نشر لقطات تعيين الرئيس محمد مرسي عبد الفتاح السيسي وزيرًا للدفاع، فتندلع حرب الكلام مجددًا للتغطية على قصة رابعة، وخطف الناس بعيدًا للاشتباك السخيف حول من أخطأ أولًا، ومن خان أكثر، من شركاء يناير.
وفي خلفية الصورة، تبث اللجان الإلكترونية للسلطة مجموعة مختارة من الشائعات والأخبار الملفّقة، عن صفقة بين السلطة وجماعة الإخوان، برعاية دولية وإقليمية، استناداً إلى مجموعة من الأوهام، يتم التركيز عليها، كحقائق، مثل الربط بين إطلاق سراح واحد من أنقى وأصدق من عرفت الحياة السياسية المصرية في ربع القرن الأخير، المهندس أبو العلا ماضي، رئيس حزب الوسط، وبين حديث عن سيناريو تهدئة يدور في الكواليس.. أو اصطياد عبارة في حديث مذيع قناة مكملين، حمزة زوبع، فتتلقفها ضباع جائعة للإسفاف والبذاءة، ويجري تضخيمها للإيحاء بأن هناك صفقة تنفذ الآن.
أية صفقة أو تهدئة، وقضاء السيسي يخفض عقوبة مأمور قسم شرطة مصر الجديدة المسؤول الأول عن إبادة 37 مصريًا في مذبحة الغاز بسيارة ترحيلات أبو زعبل من السجن عشر سنوات إلى خمس سنوات فقط؟
إذن، أنت أمام توليفة مختارة بعناية من ترسانة سلاح الشائعة، بغية إجبار الجماهير على البقاء في البيوت، وعدم الاستجابة لدعوات التظاهر اليوم، بما يؤكد أن أحدًا في السلطة لا يريد أن يفهم أن نداء الدم أقوى من ميكروفونات ملوّثة بالكذب، وبيانات منقوعة في العار، وأخبار وتسريبات غارقة في الهشاشة والضحالة. وقد جرّبت السلطة الحالية ذلك كله في التعاطي مع اعتصام رابعة العدوية قبل عامين، عندما شنّت حربًا نفسية، قائمة على دراما الترويع والتفزيع، سعيًا إلى فض الاعتصام، بتخويف الناس من تفشي أوبئة وجراثيم، أو اكتشاف مقابر جماعية، فلم تفلح في زحزحة الناس عن مواقفهم ومبادئهم، فقررت أن ترتكب بحقهم مذبحة تجعلهم عبرة لمَن يعتبر.
كانت الشائعة السلاح الأمضى، منذ هتلر وجوبلز، في بدايات القرن الماضي، وحتى المجلس العسكري في مصر، عقب ثورة يناير، وتحتفظ الذاكرة باعتراف ساذج من أحد قيادات المجلس، يقرّ فيه بأنه كان يتحكّم في إيقاع ميادين الثورة بآلة الشائعات، غير أنه، وكما لذاكرة الكمبيوتر سعة محددة وقدرة على التخزين، فإن للشعوب طاقة محدودة لاستيعاب وهضم كميات ونوعيات ممّا يُلقى في أدمغتها وأمعائها من جراثيم معلوماتية، بعدها تتوقف عن قبول مزيد من الأكاذيب والفزاعات.